وجهات نظر
أبو الحق
هناك الكثير مما ينبغي أن يقال في واقعة تجرؤ السفيه الجاهل المتسمي ب (ثائر الدراجي) مؤخراً على مقام الخليفة عمر وأم المؤمنين عائشة، وهما من رموز الإسلام (ولا أقول رموز أهل السنة فتلك لا تستقيم كما يحسب هو ويتوهم) بنظر السواد الأعظم من أمة الإسلام.
لا يستلزم الموضوع شتم الدراجي هنا فقد تولى الخيّرون ذلك على المواقع وحتى على صفحته الشخصية، كما شرع الكثير من أبناء الشيعة بالتبرؤ منه على صفحته ونعتوه بالخائن والمحرض على الفتنة الطائفية والمسيء لعرض رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فالحركة المكشوفة التي تطوع لتنفيذها (كأي ممثل ينفذ سيناريو وحوار من تصميم حزب الدعوة وعرّابه المالكي بغية حرف الأنظار عن تهاوي القيادة الهزيلة وإجماع السنة والشيعة على ذلك ولأول مرة منذ 10 سنوات) إنما هي فعالية صبيانية مثيرة للفتن النائمة والمستيقظة على السواء، يعف عنها كل ذي عقل وضمير يراقب سير الأحداث في العراق ويرى رأي العين والبصيرة مَن الذي يقود القتل فعلاً ومن يخطط للتفجيرات ويتولاها، ومن المستفيد منها بالمقام الأول والأخير، وذلك على خلاف ما يروجه المالكي وأبواقه من تهم، يلحقونها بالقاعدة والإرهابيين الذين لا هوية لهم وفق مفهوم المالكي سوى كونهم من الأحزاب الأخرى والمذهب الآخر، وبالتالي فالمواطن العراقي يرى مَن الظالم ومَن المظلوم مِن بين فريقين يختصمان بحججهما في داخل كل ذهن محتار.
الموضوع هذا يتعلق بالأسئلة التالية:
1. لماذا يخرج الشتم من هذه الفئة من غلاة الروافض بهذا السقوط والخسة التي تتقصد العرض والشرف وتلصق تهم الفحش للسيدة عائشة، رضي الله عنها في معاندة لآيات قرآنية نزلت ببراءتها، ونفس الشيء مع عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، الذي ما كان فارسياً كي يمارس اللواط، حاشاه، كما يفترون عليه فهذه (الرياضة الأولمبية) المرتبطة ببني فارس ليس لها مكان في أدبيات العرب من أهل الجزيرة العربية، إلا اللهم ما جاور بني ساسان من إمارات خليجية، وحتى المفردات العراقية المحلية لم تعرف هذه الممارسات وطرائفها وأدبياتها غير المؤدبة إلا من أثر التناولات اللفظية والممارسات الفعلية للشطار والعيّارين من سلالة العجم الذين إستوطنوا بغداد في عهد الخلافة العباسية، وذاك هو أبو نؤاس الفارسي الأصل عرّاب الفحش بكل أنواعه ومداخله مقابل شعراء الحب العذري كجميل بثينة وقيس ليلى، ذاك فارسي وهؤلاء عرب، وبحسبنا هذا دليلاً على خسة ألبو كسرى!
السؤال هو: لماذا كل هذا الفحش المنفلت عندما يتعلق الأمر بالخليفة الفاروق وبأم المؤمنين عائشة، رضي الله عنهما، بحيث تكفي مقارنة بسيطة مع كل أشكال الشتم التي بدرت من عتاة المستوطنين الصهاينة المنقولة عنهم لتبيين أنّ أعداء الأمة هم هؤلاء المنفلتين من فروخ العجم وليس الصهاينة أولئك؟ قد يقول قائل: انها ثقافة البيوت تلك ربما ما يسمعه واحدهم من ألفاظ يطلقها الأب بحق الأم وبحضور الصغار من عبارات رباعية الحروف وخماسيتها لتستقر في ذاكرة الصغار فهي بمثابة التفاعلات المتسلسلة، لا تعرف النهاية وينقلها جيل لجيل بكل مهنية وبكل تفاني! وهو تفسير معقول لو إستحضرنا واقع السقوط الأخلاقي المريع لهذه الفئات والسمات الطاغية على مجتمعاتهم من حيث (زنا المحارم والشذوذ) وطرق تخاطبهم مع بعضهم البعض في البيت والشارع ومحل العمل، لكن ماذا عن تبعيتهم المزعومة لإثني عشر إماماً كلهم متنزهين عن ممارسة اللواط والزنا والخنا؟ من ألهمهم هذا الفجور؟ إن كان الواحد من أتباع غاندي يرفع الهراوة في كل نزاع فهل هناك من قاسم مشترك بينه وبين غاندي؟
2. ما مدى صحة الإعتقاد الرافضي والصفوي بأنّ عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، هو رمز لأهل السنة كما يتصور هذا السفيه بحيث أنه يوجه حقده صوب الخليفة الفاروق وهو يحسب أنه يصيب مقتلاً من جمهور أهل السنة بذلك؟ وهذا إعتقاد راسخ بعقول كثير من أبناء السنة كذلك، من الذين يرون في عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، مثالاً ونموذجاً يستنيرون به وبسيرته الرائعة ويضيفون لذلك رمزية (السنة مقابل عمر بن الخطاب)، ولا أراهم يدركون فعلياً كيف يكون ذلك منطقياً، فهم قد ورثوه وراثة المذهب نفسه .
تبدو عبارة (هو للضلع كسر) التي رافقت لعن الخليفة عمر، رضي الله عنه، على ألسنة الرهط الذي خرج يكرر اللعن والقذف عقب الدراجي (والعبارة تقصد "كسر عمر بن الخطاب لضلع فاطمة الزهراء") تبدو هذه العبارة محرك الحقد هذا كله، فهي تهمة تم إلصاقها على مدار قرون متعاقبة بعمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وتم تكريسها ضمن مناهج التربية البيتية والوعظ في دواوين بعض العشائر الجنوبية بالذات كحقيقة لا جدال فيها بحيث إستقرت في أدمغة هؤلاء الجهلة الذين لا يتكلف المعمم أيّ عناء وهو (يبرمجهم) كما يحلو لقادته من ملالي قم وطهران من المجوس المتخفين كشيعة.
إنه إستغلال لمشاعر السذَّج وشحن للكراهية من خلال هذه الرواية المأساوية ما كان ليجوز على الناس أولئك لو كانوا كوريين أو فنلنديين أو أتراكاً بالحد الأدنى لضرب الأمثال. هذه المجتمعات في جنوب العراق بالذات ووسطه تم إبقاؤها على شفير التجهيل والإنغلاق الفكري طيلة قرنين من الزمان بالقليل من خلال الإقطاع والكهنوت الشيعي الذي تحالف مع الإقطاع ولم يقف وقفة الند له بحيث أحرز المعممون والملالي أرقاماً قياسية بالتلاعب و(المرطسة) بتلافيف أدمغة البسطاء والسذج هؤلاء نتج عنها تبعية عمياء لكل ما يتفوه به المعمم، وبحيث أصبحت حروف (ع م ر) تناظر (أ ب و ج ه ل) في مخيلتهم.
الشيعة الصفويون بفعل تكوينهم الفكري هم أصلاً ضحايا مغلوبين لعملية برمجة معادية للعرب تم إجراؤها على أدمغتهم في مرحلة مبكرة جداً سبقت إكتمال قدراتهم العقلية، فهم فاقدي الإرادة منهوبي حرية الإختيار لا يتمكنون من مغادرة الكابوس المزروع ببالهم وقوامه أحقاد متراكمة على أناس لا يعرفون شيئاً عنهم، وأحزاناً سرمدية على أناس مضوا لربهم مظلومين أو شهداء وفي هذه مفخرة كبيرة تجعل اللطم والبكاء هذا متناقضاً مع شرف الشهادة ومخالفاً لوصيته صى الله عليه وسلم التي علمها لقومه وهو ينعى إبنه إبراهيم من أنه لا يقول فيه إلا ما يرضي الله . وهذا الإستلاب للإرادة منذ مرحلة الرضاعة هو عمل قرصنة عقلية أنكرته مدرسة مذهبية مسيحية معروفة بموقفها تجاه التعميد حيث إعتبرت تعميد الطفل المولود لأبوين مسيحيين هو (قرصنة) فكرية لإرادته ولحقِّه بالإختيار ما لم يتم تأجيلها لحين بلوغه سن الرشد ومن ثم عرض الأمر عليه بصيغة التخيير لا الإجبار كما يحصل دوماً وهو طفل صغير لا زال. ومن باب الحيادية والموضوعية أن لا يصار لنفي أو تأكيد هذه التهمة (كسر ضلع فاطمة) من جانبنا مهما كانت درجة عدم إقتناعنا بها فهي تبقى تهمة مسجلة في كتبهم الصفراء كما لو كانت تأريخاً حقيقياً لكن ما يفندها يندرج بعض منه ضمن ما يلي:
أ. لا يُجمع كل رواة وفقهاء الشيعة على هذه التهمة، وعدم الإجماع هو نقيض الإجماع بدون شك، بمعنى أن حظوظ مصداقية هذه الرواية هي (كسر) وليس عدد واحد صحيح الهيئة والقيمة.
ب. التهمة تسيء لرجولة وغيرة علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، على عرضه وشرف بيته بدون أدنى شك، إذ كيف يعقل أن يتقبلها ويسكت لا بل ويعمل مستشاراً ووزيراً لمن كسر ضلع زوجته (وتسبب لها بالإجهاض في إستمرارية أخرى للرواية!). هذه رواية مختلقة لا يتسق آخرها مع أولها فلو إمتنع علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، عن التعايش مع عمر وأبي بكر، رضي الله عنهما، طيلة خلافتيهما، ولو غادر المدينة إلى الشام مثلاً كما فعل بلال الحبشي، رضي الله عنه، عقب وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم لكانت هذه الجزئية في صالح رواية كسر ضلع فاطمة الزهراء، رضي الله عنها.
ت. كيف يشير الرسول صلى الله عليه وسلم على علي أن يطلق إسم (محسّن) على إبنه الثالث الذي تم إجهاضه وفق الرواية التي تربط بين أسماء (الحسن والحسين ومحسّن) مع أسماء أبناء هارون (شبر وشبير ومشبر) بينما الإجهاض في رواية (تسبّب عمر بإجهاض فاطمة) حصل عقب وفاة الرسول ما دام يقال فيه أنه جرى على يد عمر عقب حادثة سقيفة بني ساعدة؟ هل كان الرسول صلى الله عليه وسلم حياً وقت الإجهاض أم أنه كان قد توفي؟
ث. الرواية تتقصد الخليفة الذي حطَّم مجد الفرس بالذات وليس غيره كعثمان أو أبي بكر الصديق، رضي الله عنهما، ومن صنعها وروّجها هم فرس متحولون للإسلام، أي أنها عملية تشويه مكشوفة تهدف لتكريس الكراهية بحق من سلبهم مجد إمبراطوريتهم وأذلّ ملكهم: هي بروباغندا ثأرية إذن تم تسويقها على الرعاع وما أسهلها من مهمة في مجتمعات متخلفة كالتي نحكي عنها.
إن الإنحياز للعنصر الفارسي واضح في أحداث أخرى كإجتثاث خطر أبي مسلم الخراساني ونكسة البرامكة وصراع الأمين والمأمون وأولهما إبن عربية بينما الثاني إبن فارسية، لذا وجب على الجماعة تشويه سمعة هارون الرشيد وإستثناء المأمون من تجريم خلفاء بني العباس ودوناً عن غيره، فهل هي مجرد مصادفات؟
أما الطعن بشرف أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، فهو مرتبط بموقفها من خلافة علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، في معركة الجمل على الظاهر حيث وقفت ضده وتجمع حولها كل من خرج يطالب بالثأر من قتلة عثمان بن عفان، رضي الله عنه، ويرفض مبايعة علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، لكن المتأمل بالموروث الأصفر من كتب أتباع كسرى كبحار الأنوار للمجلسي وغيرها يلاحظ أن هناك تثقيفاً بشأن مشاعر كراهية من جانب فاطمة الزهراء، رضي الله عنها، لزوجة أبيها المدللة عائشة بنت أبي بكر، رضي الله عنها وعن أبيها، وإن شئت النظر للموضوع من أصله فهو موقف علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، من إتهام السيدة عائشة بالإفك، فهو لم يدخر وسعاً بتنفير الرسول صلى الله عليه وسلم منها وحثه على تطليقها من خلال عبارة تتسم بالتلميح المبطن والوسوسة! تلك لوحدها تفسر سبب مخالفة عائشة لخلافته وهي محقة عند ذلك ولا لوم يقع عليها فبراءتها نزلت من السماء في نهاية المطاف وثبت بطلان رأي الرجل الذي يقال فيه أنّ الحق معه وهو مع الحق! في هذه كان أفضل له لو لزم الصمت وترك السماء تنبئ بالخبر اليقين فالمعني بالموضوع هو نبي الله الذي له وحي يتنزّل عليه وليس مجرد زوج عادي يُمتحن في شرفه وعرضه برواية الإفك تلك فهو بحاجة لإبن عم يشير عليه( كما يزعمون). وعلي هو أصلاً قائل العبارة (تمنيت لو كانت لي رقبة بعير) كما يزعمون لكنه هو نفسه لم يستخدم هذه الحكمة وهو يشير على الرسول بتطليق عائشة، علماً أنّ هذه المقولة مجرد تشبيه فقير الموهبة فسلجياً وتشريحياً فالبعير لا يختلف عن البشر فيما يخص موضع الحبال الصوتية بالنسبة إلى شفاهه: ليس طول رقبته دلالة على طول المسافة بين موضع تشكيل الكلمات ومحل مغادرتها للفم فالحبال الصوتية للبعير لا تقع في نهاية الرقبة القريبة من المعدة! إذن هو رأي تطوعي مغرض تسبب بعداوة لاحقة وهذا هو مجمل الرواية لمن هو محتار بسبب نفرة الإثنين من بعضهما.
ج. ومرةً أخرى، وكما في كل مرة، وكما يقول المثل (من فمك أدينك) فالقصة هذه عن كسر عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، لضلع فاطمة الزهراء، رضي الله عنها، هي مما لم يشهده أحد ممن يرددونه كالببغاوات في سوق الغزل أو في حدائق الحيوانات: لا هؤلاء الراكضين خلف الدراجي في شوارع الأعظمية شهدوا الواقعة بأعينهم ولا المؤرخون الذين صنعوا هذه القصة على الغالب، وما لم يرها أحدهم بعينيه حقاً فهو قد سمعها أو قرأ عنها فحسب، وبالعودة لمقولة علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، الشهيرة تلك (المسافة بين الحق والباطل هي كالمسافة بين العين والأذن) يتضح بطلان الرواية وتراصفها مع مجموعة الباطل وليس مع الحق أبداً.
أما فيما يخص النقطة الثانية فإن شخصية الخليفة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، لا تمثل أيّ محور لفقه أئمة السنة الأربعة (أبو حنيفه النعمان ومالك وأحمد بن حنبل والشافعي)، بخلاف الحال في المذهب الجعفري الذي يتمحور بالكامل حول شخصية علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، ومن ثم بنيه، رضي الله عنهم، وأحفاد ابنه الحسين حصراً. المذهب الجعفري قائم على تقديس الشخوص المتفرعة عن علي وفاطمة، رضي الله عنهما، بينما المذاهب السنية تتعلق بإلتزام العمل بالنصوص والمحافظة على أصول النصوص وبتفسير النصوص إضافةً للإستنباط (وفق القياس مثلاً فيما يخص مذهب أبو حنيفة النعمان). ليس لعمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أية علاقة بفقه الأئمة الأربعة بينما لعلي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وبنيه وأحفاده كل العلاقة بأصول المذهب الجعفري (الذي يتم الخلط دوماً بينه وبين التحزب العلوي أو التشيع لعلي بينما كل منهما يعني شيئاً مختلفاً) لذا فالتهجم على شخصية عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، هو (تهجم على العرب المسلمين أو قل على المسلمين العرب) بشكل محدد قبل أن يكون ممكناً إعتباره (تهجماً على رموز السنة)، بخلاف التهجم على شخصية علي بن أبي طالب أو زوجته وبنيه، رضي الله عنهم، (فيما لو حصل) والذي سيكون في محله كون المذهب الجعفري (والفكر الشيعي كذلك) يدور حول شخصية الإمام علي وزوجته وذريتهما بالمقام الأول. بدون هذه الشخصيات والكيانات لا يبقى هناك تشيع ولا فكر جعفري، كما لو رفعت الرقم (1) من الرقم (10) حيث لا يتبقى سوى الصفر. التهجم على عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، هو منحى سلوكي يخدم مشاعر الكراهية الفارسية كما قدم له (أحمد القبانجي) عندما شرح أسباب كراهية الإيرانيين للعرب ولأهل السنة باعتبار أن العرب المسلمين أولئك "حطموا ملك فارس" لذا (والكلام لأحمد القبانجي) فمن المنطقي ومن الطبيعي ومن المتوقع أن تكون هناك كراهية فارسية- إيرانية لكل ما هو عربي- سني، ترى ما يكون رد أحمد القبانجي لو بررنا له قتل علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، بعد إبادته لجموع الخوارج متوهماً أنهم مستحقون للقتل بأمر نبوي سابق!؟ من يلوم عبدالرحمن بن ملجم إن إغتال من أباد أصحابه وبالجملة؟
في هذه الحالة ليس لغلاة الشيعة من حجة ولا نقطة قوة وهم يدافعون عن أبي لؤلؤة وجريمته في قتل عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، لأن عبدالرحمن بن ملجم يصطف عندها أمامهم بسيفه الذي فلق به رأس علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وقت الصلاة كما فعل أبو لؤلؤة هو الآخر في وقت الصلاة أيضاً ولسان حال خياله يقول: هذه بتلك، والبادي أظلم! أليس عجيباً تناظر الأحداث هذه؟ من يشرح بقتل عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، صدراً فهو ملزم ورغماً عن انفه ومنطقه وعقله، ملزم أن يشرح صدره بمصرع علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وإلا فليعطّل وحدة الحساب والمنطق لديه ويتخلى عنها!
قد يستغرب البعض لو قلت لهم أنني قابلت في بومباي بالهند شيعة هنود أقرّوا أمامي ببغضهم الشديد للصحابة كونهم نقلوا الإسلام للهند! كيف يمكن لشخص يحمل هوية الإسلام أن يكره من نقل الإسلام إلى أجداده ما لم يكن ضائق الصدر بالديانة التي يدين بها؟ أنا من الناس أدين بجزء كبير من محبتي وتعظيمي لعمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ونزولاً لأصغر جندي في جيش القادسية ذاك على أنهم أهدوا هذا الدين العظيم لأجدادي مضحّين بأرواحهم وبدمائهم وبالتالي فهم متفضلين عليّ كل التفضل، ترى ما كنت سأكون عليه لو بقي العراق ضيعة كسروية؟ هل أكثر من خادم في مزرعة أعجمي حقير؟ ما كان سيكون حال العراق والعراقيين ونحن نرى اليوم وبأعيننا كيف هو فعل العجم الذين يستترون بهوية الإسلام الشيعي مع أهل العراق؟ وهذا الرأي الهندي أعلاه يذكّرني بنزعة تكفير الفتوحات الإسلامية، النزعة التي راجت مؤخراً من أفواه مسلمين تكاد أن تحسبهم مستشرقين لفرط معاداتهم للفتوحات بينما لا تجد إيطالياً يستنكر غزوات الدولة الرومانية والمجازر البشرية الطاحنة التي كانت تقودها جيوش القيصر، لا تجد إسبانياً يكفر بإستعمار بلده ومحاكم التفتيش تلك، ونفس الشيء هو حال البرتغاليين الذين تعوّدوا رمي الحجاج المسلمين في البحر في أقبح قرصنة شهدها التاريخ! لكن هذا النفر من المسلمين الذين يعبدون الله على حرف أصبحوا مراقبي خطوط وحكاماً منحازين للغرب في ملاعب التاريخ الإسلامي: يتجرؤون على خلع الحق عن فتوحات هي فخر الإسلام في وقت كان العالم كله يغزو بعضه بعضاً ولا غرابة أو قسوة في ذلك. المسلم الهندي الشيعي ذاك لا يرى في الإسلام أي شرف له فالشرف بنظره هو في كونه شيعي لا في كونه مسلماً. ومرةً أخرى أعود للتذكير بما تعوَّدت أن أحكيه قبل سنين من أنّ المذهب الجعفري (ومثله مذاهب سنية كما يفهمها بعض أتباعها) أصبحت بديلاً للهوية الدينية الإسلامية وأزاحت الدين لتحل محله في حين أنها ليست أكثر من (إستنباطات وإشتقاقات) تعالج بعض الأحكام التي تتحمل أكثر من رأي وأكثر من وجهة نظر، عن أمور مختلطات وأخريات مستحدثات بفعل التطور الزماني والمكاني والحضاري وبفعل التصادم مع الثقافة الإغريقية وبقية الثقافات المشرقية. وهذا يعيدني كذلك لما كنت أقوله قبل سنين من أنّ المذاهب هذه ليس المفروض من ورائها أن تعني جدران فصل أو كانتونات فكرية، هذا لو شئنا أن نعطيها حجمها الحقيقي وليس كما إنتهى الحال بها إليه من فرط التعصب وتدخل الفرس وغيرهم بهذه المذاهب، بحيث صار لا يمكن للسني الحنفي أن يعمل بنص سني مالكي أو بنص جعفري إن وجد ذلك النص أقرب للمعقول، وهو ما لا يتفق مع الواقع، فالتنقل بين المذاهب هو حق مشروع وهو شهادة إثبات لكون الأئمة أولئك هم بشر لا أنبياء، بشر لهم كتب فقه إجتهادية وليس قراءين (جمع قرآن) لا تتحمل النقاش.
أصل المذاهب هذه أنها من نتاج عقول تتحمل الزلل والشطحان، وهو نفس ما قاله الشافعي من أنّ رأيه صواب يحتمل الخطأ ورأي غيره خطأ يحتمل الصواب. بالحقيقة فإنّ العبارة الأفضل من هذه هي (رأينا صواب وفق فهمنا واجتهادنا لكنه يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا صواب وفق وجهة نظره وإجتهاده لكنه يحتمل أن يكون أصوب من رأينا، فالله أعلم منا ومنهم وفوق كل ذي علم عليم) وهو رأي ينطبق على كل الفقهاء: من جعفر الصادق إلى إبن حزم في مذهبه الظاهري:لا أحد معصوم بالمرّة.
هذا فيما يخص الهوية المذهبية أما الهوية الدينية فهي لا تتقبل الشراكة والإستمزاج فالإنسان إما أن يكون مسلماً أو مسيحياً أو يهودياً: لا مجال لأن يكون أحدهم يهودياً لكنه يعمل وفق الشريعة الإسلامية فيما خص أسلوب الزواج أو المهر أو الميراث أو غير ذلك، لكن واقع الحال هو أن المسلمين سنة وشيعة أصبحوا يحجمون عن الأخذ من المذاهب الأخرى كما لو كانوا يتعاملون مع ديانات وليس مع مذاهب!
والآن وبعد كل ما سبق أعلاه، كيف تنظر لقيام أحد المتعصبين بشتم الخليفة عمر بن الخطاب والسيدة عائشة، رضي الله عنهما، باعتبارك شيعياً غير متعصب أو سنيّاً معنيّاً بالموضوع بشكل مباشر؟ كيف يكون تقييمك للفعل وكيف تحكم على تأثيراته؟
الجواب بسيط جداً: إجر مقارنة مع واقعٍ آخر مناظر حيث الشتم واقع على شخص علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء، رضي الله عنهما، مقابل شتم عمر وعائشة، رضي الله عنهما، وسترى الصورة جيداً عزيزي (الشيعي).
هذه الشخصيات تمثل مقدسات لكل فريق من الفريقين، شئنا أم أبينا: أحدهم علَّق قبل أيام على موقع السفيه الدراجي بعبارة (لا تسبوا آلهتهم كي لا يسبوا آلهتكم) وهو قول لا يخلو من حكمة في جانب منه لأنه يتفق مع نص آية قرآنية كريمة تنهى المسلمين عن سب آلهة المشركين كي لا يسبوا الله عدواً بغير علم، لكنه يحتاج لمداخلة لذا فقد أجبت الرجل أن كلا الفريقين من شخوص (رموز الشيعة ورموز السنة) ليسوا بآلهة فهم بشر إعتياديين لكن مكانتهم من الرسول صلى الله عليه وسلم وفق موروث كل فرقة هو ما يعطيهم مكانة سامية لا تتقبل الشتم والطعن. صحيح أنها شخصيات ليست معنية بتنزيل القرآن ولا بالوحي لكن إرتباطها بحياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم منحها فائقية بالتقدير يصعب بخسها وهذا هو ما إنتهت إليه كل المذاهب: السنيّة منها تعطي القدسية لكل هذه الشخصيات، لذا لم نسمع بأحد منهم خرج يلعن فاطمة أو علي أو الحسنين، رضي الله عنهم، بينما تكررت هذه الأمور من عناوين تحمل الهوية (الشيعية) على مدى التاريخ ولا زالت تحصل لليوم ومن دون تجريم أو خلع أو إعلان تبرؤ، كان المفروض بالمرجعيات الشيعية والمثقفين الشيعة أن ينزعوا عن هذه العناوين صفة التشيع ويخلعوها ويفردوها إفراد البعير المعبّد كي لا يُصار لتجريم كل الشيعة في تعميم غير سليم وغير عادل.
الطريقة الوحيدة لفهم كيف يتأثر الجمهور بإساءات تتقصد رموزهم هو بإفتراض نقيضها: شيء أشبه بلجوء إبراهيم الخليل، عليه السلام، لتحطيم أصنام قومه وترك القوم يتوصلون للنتيجة من خلال إشكالية عجز الآلهة تلك عن الرد والإنباء عمّن قام بتحطيم الأصنام، وهو ما أفعله دوماً، أبتغي خرق الجلد السميك ذاك.
بخلاف الشيعة فإن أهل السنة يعاملون الخلفاء الراشدين، رضي الله عنهم، على قدم سواء ويقفزون فوق أحداث الخلافات التاريخية معتمدين وجهات نظر توفيقية تتجنب الإدانة وتعوم فوق السطح حيث لا لعنات ولا شتم ولا إدانات أو تجريم لشخوص الماضي البعيد ذاك، وهي نظرة لا تخلو من تهرب ومحاولة للسير على الخط الرفيع الفاصل بين الأبيض والأسود. ربما لأن نظرتهم للإسلام مقدّماً على المذهب تجعلهم يفتخرون بكل العناوين الإسلامية في مواجهة أتباع الديانات الأخرى أو الملاحدة والمشككين فقد كان غالب مناظرات وتساجل علماء أهل السنة في عهد العباسيين هو مع البيزنطيين وأتباع الفلسفة والمشككين بوجود الله أو ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، مثل مناظرة الباقلاني الشهيرة تلك والتي ضربت مثلاً لبراءة أم المؤمنين، رضي الله عنها، مستنداً على عذرية السيدة مريم عليها السلام. في حين أنّ غالب مناظرات وكتب وتساجلات مفوّهي الشيعة ومفكريهم هي ضد فكر السنة وضد أحقية الخلفاء الثلاثة، رضي الله عنهم، بالحكم مقابل علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، فالشيعة لا يكترثون بنشر الإسلام: هم بقصد نشر التشيع وإثبات أحقية الخلافة لأئمتهم في ماض مضى لا يعرف العودة. أهل السنة يرون إنتماءهم للدين كحلقة أولى تعقبها حلقة الإنتماء للمذهب، والدليل على ذلك أنك لا ترى سنياً يعرف تفاصيل الفقه الذي ورثه عن أهله: مطلقاً، في حين أنّ الشيعة يرون إنتماءهم للمذهب قبل كل شيء فهو مذهب ودين بنظرهم: لا إسلام بدون تشيع وفق إعتقادهم: هكذا يفهمونها كما لاحظت من نقاشات مطولة تقصَّدت سبر أغوار النفس (الشيعية/ الجعفرية) لذا فهم يرون فخرهم على خلاف فخر أهل السنة: كل من خالف علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، هو خارج عن الإسلام بنظرهم، وإن أسرّوها في أنفسهم. ورغم أن دائرة معلومات الفرد الشيعي بخصوص مذهبه ليست بشيء مقارنة بالمفروض لكنها أضعاف ما يعرفه السني عن مذهبه كأحكام وكنصوص في أمهات الكتب (الأم للشافعي وموطّأ مالك، على سبيل المثال)، السني معني غالباً بالأحكام الرئيسية للعبادة والتي هي متضمنة أصلاً بآيات القرآن وما إشتهر من الأحاديث النبوية وروايات السيرة، بينما (الشيعي) معني بتفاصيل دقيقة هي من تفاصيل المذهب وغالبها منقطع عن القرآن كالزيارات والأدعية والمأثورات والأقوال والمحاججات: لا أساس له هناك، لذا ترى (الشيعي) يفشل دوماً بإستحضار نص قرآني أو نبوي يخص واقعة حياتية معينة فهناك نص آخر منسوب إلى أحد الأئمة هو أقرب لذاكرته ولسانه وهذه نقطة خطيرة فهي تعني ما ورد بكتاب الله "وقال الرسول يا ربّ إنّ قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا" أو الآية الأخرى "كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين" أي بعّضوه فصار أجزاء، فهذا يعنيهم وذاك لا. وكنتيجة لهذا الفهم (الشيعي) القائم على اعتبار إمامة علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، نصاً إلهياً لا خلاف فيه فقد تم وفقاً لذلك ومترتباً عليه تجريم (أبي بكر الصديق، عمر بن الخطاب، عثمان بن عفان، رضي الله عنه، خلفاء بني أمية باستثناء عمر بن عبدالعزيز وخلفاء بني العباس والسلاجقة والعثمانيين وصولاً لكل حاكم في العصر الحديث مهما كان مستوى أدائه وإبلائه). وهذه تشكل معضلة وجدانية تجعل (الشيعي) يعاني من الإزدواجية فهو ملزم من جهة بتطبيق قوانين الدولة وتعليماتها كمواطن، في حين أن قلبه لا يوافقه في ذلك من جهة أخرى، فهو قد خلع كل حاكم غير شيعي أو غير جعفري منذ مرحلة مبكرة، وتتضخم هذه التناقضات عندما يشرع بتقييم أداء قادة وملوك ورؤساء أجانب جعلوا بلدانهم قبلة للزوار واللاجئين والدارسين وهم ليسوا بالشيعة (ولا بالسنة طبعاً)، أين هو الحق وأين هو الباطل هنا؟ ما قيمة نظرية الحكم الإلهي هذه التي لا تحيل البلدان لجنان على الأرض ولحاضنات للعلم والمنعة والتطور، ولا ترفع قيمة عملتها بل تملأ الأرض جوراً بعدما ملئت عدلاً، وتلك إيران ونظامها الذي يتسمى زوراً بالإسلامي: ما هو تقييمه عالمياً؟
يُحمل هذا الموضوع (شتم الخليفة عمر، رضي الله عنه) إما باعتباره تجاوزاً على رمز ديني (ديني وليس مذهبي) فكما ذكرت أعلاه ليس هناك من دور محوري أو غير محوري لعمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ضمن فقه المذاهب السنية الأربعة كي يصار لإستهدافه كوسيلة إغاظة لأهل السنة أو كرد على تفجير جرى بمنطقة الكاظم المحصَّنة والممنوعة من الصرف الأمني ليس على السنة فحسب بل على كل منافس (شيعي) يبتغي كسر إحتكار هذه الفئة لإمتياز الإستحواذ على واردات المرقد ذاك، ليس هناك من ثقل عُمَريّ في رواية الأحاديث النبوية يجعل عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، دريئة لأهل السنة تتلقى الهجمات والردود الموتورة وتنال سهام الموتورين، إذ أنّ أبا هريرة، رضي الله عنه، يبدو أقرب لذلك هنا باعتباره مصدر غالبية أحاديث أهل السنة، ومع هذا فالشتم، هنا وغالباً، موجّه لعمر، رضي الله عنه، كما رأينا وليس لأبي هريرة، رضي الله عنه، فهل هناك منطقية في ذلك أم هي هجمة فارسية عنصرية مكشوفة مهما إستترت بحجج حب آل البيت والغيرة على أضلاع بنت الرسول صلى الله عليه وسلم؟!
هذه، أو باعتباره تهجماً على رمز عربي تاريخي هو بمثابة القدس القومي لأمة لم تعرف قائداً مثله، ليس لثيمة العدل التي أشيعت عنه فالعدل هو شيمة من سبقه ومن أعقبه (علي بن أبي طالب، رضي الله عنه) كذلك ، وهي شيمة عمر بن عبدالعزيز أيضاً، ذاك أنّ فضل عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، على الأمة الإسلامية إنما هو:
1. تطبيقه للنظريات والأحكام وإجتيازه للإختبارات التي فشل كثيرون غيره بإجتيازها من بعده، جملة سنن رئاسية سنّها بالإشتقاق من روح ونصوص الشريعة الإسلامية بحيث وضعها موضع التطبيق فمنحها الحياة، بخلاف النص الذي لا يطبقه أحد، فهو ميت بين الصفحات والوصايا الشفهية ما لم يضعه أحد موضع التطبيق، طبَّقها هو وألزم من أعقبه ألا يتراجع عنها وإلا فنزاهته مشكوك فيها وأحقيته بتولي المنصب مطعون فيها كذلك، لذا أصبح هو المعيار وهو النموذج بين الخلفاء والسلاطين وهو المفخرة بفعل ذلك لأمة من المسلمين هم الأكثرية بحساب النسبة المئوية.
2. لم ينزل لدرك الإستفادة من مميزات المنصب والإنغماس بالبهرجة والحلي والحلل وبقية ما زيّن للناس من حب للشهوات تلك، بل فعل خلاف ذلك بينما هو من خاطب الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته ذات مرة: كيف ينام على الحصير بينما ملوك فارس والروم يتنعمون بالحرير وهم من هم وهو من هو؟ فلما تقلَّد زمام الأمور لم يخالف النبي صلى الله عليه وسلم في رده و فعله، ولم يغادر التعفف طيلة فترة خلافته المباركة، ما الذي يحلم به الواحد من الرعية أكثر من هكذا رجل لا يرفع نفسه فوق ظهور الناس؟ وهو لم يطمع بشيء من واردات الدولة الفتية ومن تلك الغنائم التي ناءت بها ظهور النوق بين فارس والمدينة وهذا مما إعتمدته الشيعة الزيدية في مبدأ (ولاية المفضول مع وجود الأفضل) فهم لم يجدوا مأخذاً على خلافة الشيخين، رضي الله عنهما، طالما كانت سيرتهما حسنة، كما لم يستغل عمر، رضي الله عنه، مكانته لا بل إنه حرّم الإمتيازات على أولاده.
3. إنّ أهم سنّة إستنها عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، كانت فرط الإخلاص بخدمة الرعية والتجرد عن الأنا ونكران الذات لأقصى حد والنزول لأدنى مستوى من التماس مع الرعية وتحسس مظالمهم والتوجع لأجلهم واستحضار كل نص من نصوص الترهيب مقابل كل صغيرة وكبيرة من حوادث اليوم، هو الذي عاش عقوداً في جاهلية القسوة والجلفة تلك فأيّ تحوّلٍ مذهلٍ ذاك الذي إمتاز به؟
إنّ المسلم الذي تحوّل من الجاهلية للإسلام وأحسن التصرف لهو أرقى من المسلم الذي لم تعشش الجاهلية بقلبه سنيناً طويلة قبل أن يسلم، فالأخير لا يلاقي أية مشقة بالقياس للأول من حيث عبء مقاومة هوى النفس وكبح جماح التعود الذي يشد المسلم للوراء صوب الجاهلية.
4. لم يقض عهده في مقاتلة المسلمين وقطع أعناقهم بالجملة، ولأجل هذه فأنا من الناس أجلّه فوق كل الرموز الإسلامية التي أعقبت الرسول صلى الله عليه وسلم ومن دون أن ألقي عليه ثوب عصمة وتقديس أكثر مما ينبغي فهو نفسه لم يكن يزعمها وينسبها لنفسه، رضي الله عنه.
5. وحزمه وشدته كانا طرف المعادلة الآخر المقابل لعطفه على الرعية إن شئنا أن نحكيها بواقعية، كانت شدته هي طرف المعادلة اللازم لضمان السيطرة على الجموع ومنع نشوء الفوضى والإنفلات الذي لا يبقي ولا يذر، أنّى لأحدهم أن يمتنع عن تنفيذ أوامره أو يجادله كما كان يفعل جنود علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، ممن كانوا لا يطيعون قائدهم ولا ينفرون، لا في الحرّ ولا في القرّ؟ شدة عمر، رضي الله عنه، كانت شدة لزوم، من دون ظلم أو بطش، يعرف لزوميتها كل من عمل بمركز قيادي، من تراه يحسن فعل ذلك؟ مَن غير عمر، رضي الله عنه،؟
6. كان همّه أن ينتصف للضعيف من القوي في دولة مترامية الأطراف لا بريد سريع بها ولا تلغراف، وهذه لوحدها تضعه تاجاً على رؤوس المسلمين، إرتضى ذلك من إرتضاه أو أنكره من ينكره، لأن هاجس العدل والإنصاف في معادلة الحقوق مقابل الواجبات هي أكثر ما يؤرق المسلمين لليوم، وهي مجمل ما فشلت الأنظمة التالية لعهد الرجل بتحقيقه. إن تركيزه على كبح جماح المتغطرسين من الولاة ومراقبة مدخولاتهم تمثل علامة مشرقة في تاريخ امة تعودت على الفخر والخيلاء لدرجة الظلم والتظالم.
7. إن المذهل في سيرته، رضي الله عنه، هو أنه كان يسيّر الغزوات لدحر إمبراطوريات الشرك والظلم تلك ويديم زخم الجيوش الفاتحة رغم بساطة التسليح وقلة العدة والعدد، وكان في نفس الوقت يعطي تفاصيل الحياة المدينية من حوله كل الإهتمام لتحقيق العدالة والإنصاف، مسيرتان مختلفتان كل منهما تدور في مدار، لكنهما ملزومتان لأهداف عظيمة لم تذهب كلاهما سدى. لقد صنع مجداً لا تطاله لعنات اللاعنين.
8. وهو نموذج للمسلم الواقعي: لا عصمة مفترضة به، ولا خمس يُجبى إليه يعينه على التعفف وتجنب الإنزلاق بالسرقة والفساد، بل موروث من زلات الجاهلية يتطلب التوبة والإستغراق في محاولات التكفير عنها فهي خير قوة دفع تضمن حسن أداء الخليفة، لا تباهٍ وخيلاء وإفتراض إستحقاق الجنة من دون حساب. هذا هو الخليفة الذي أفهمه، لا غيره.
قد لا يستوعب البعض هذه الصورة العربية اللون للخليفة الفاروق، رضي الله عنه، كون الإسلام لا يفضل العربي على الأعجمي إلا بالتقوى، لكن بما أن عدوَّنا الصفوي ينظر للموضوع من زاوية القومية ويصرّ على التمسك بهويته الأعجمية متقصِّداً مقدسات عقيدتنا الإسلامية بالسوء من خلال تحطيم سمعة عظماء الأمة، فالرد لا يكون إلا من خلال نفس المنظور: عرب ضد عجم. لا يمكن الرجوع للهوية الإسلامية كقاسم مشترك مع كهنة قم وطهران أولئك فهم قد أسقطوها عن أنفسهم أصلاً ، وألزموا أنفسهم بالهوية المذهبية أولاً وآخراً للتستر على تبعيتهم الكسروية والساسانية.
في كلا الحالتين فالرد ملزوم والسكوت بدعوى التعقّل لن يعود علينا بخير، فهذه حملة إعلامية تتقصَّد مسح الوجود العربي بكل ما يتصل به من مذاهب وشخصيات وتراث وتاريخ إنتصارات تؤرق العدو. إنهم أحفاد قمبيز ورستم: علي الكوراني وياسر الخبيث يكتبان الرواية والمالكي يوجِّه جنوده المرتزقة لحماية موكب الشتم في بيئة تبتلعهم في بحر لحظات من دون قوة ومدرعات تحميهم، والدراجي هذا مجرد كومبارس في القائمة.
يا لها من جوقة مهرجين بائسة تناطح جبلاً أشمّاً نادر الوجود وصعب التكرار، فهي الشهادة بالكمال لعمر وعائشة، رضي الله عنهما، أن تأتي مذمتهم من هكذا ملة مستهلكة مؤخرات رجالها ومقدمات نسائها!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق