موقعنا الجديد، مع التقدير

موقعنا الجديد، مع التقدير
نأسف لإزعاجكم، انتقلنا إلى هنا رجاءً، يرجى الضغط على الصورة للانتقال إلى موقعنا الجديد

الخميس، 31 أكتوبر 2013

القصة التي ستخفف عنكم وقع الصدمة

وجهات نظر
توفيق رباحي
إلى الذين أصابهم الفزع من جرأة وكالة الأنباء القومي الأمريكية على التجسس على حلفائها قبل أعدائها، وصدمهم حجم ما اقدمت عليه من أفعال (التنصت على 70 مليون مكالمة في فرنسا خلال شهر واحد، و60 مليونا في إسبانيا، والتنصت على هاتف المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل طيلة عشر سنوات وغيرها من الموبقات التي ستنكشف لاحقا).. إلى الذين صدمهم كل هذ، أزيدكم من الشعر بيتا فاقرأوا هذه القصة الطريفة بقدر ما هي محزنة ومخجلة:

منذ بداية سنة 2010 وعلى فترات متقطعة، تحفل الصحف البريطانية، وبخاصة “الغارديان”، بتفاصيل قصة تجسس مختلفة في أبعادها لكنها تنبت من نفس أرضية عالم المخابرات الأسود. حفلت بها الصحف لأن “الغارديان” فجّرتها ووصلت الى المحاكم، ولأن بعض الضمائر استيقظت في لحظة ما.
هي قصة ضابط زرعته شرطة سكوتلانديارد بين نشطاء من اصدقاء البيئة بغرض متابعة نشاطاتهم وإبقائها تحت السيطرة ودرء الخطر قبل أن يحدث. 
يمكنني التكهن أن الشرطة هي التي تولت هذه القضية وليس جهازا آخر من تلك الأجهزة المخابراتية العتيدة، لأن الهدف سهل وغير مؤذ للأمن العام ولا يهدد الأمن القومي. هو فقط مضر بالسياسات الحكومية ويشوش عليها. فناشطو هذا النوع من الجمعيات هم في الغالب من الشباب والنساء الناضجات اللواتي خبرن الحياة ولكن تعاني كثيرات منهن من فراغ عاطفي تحاولن تعويضه بتلك الأنشطة (في بريطانيا ينصح الخبراء النفسانيون الناس الذين يعانون من فشل عاطفي وفراغ نفسي وتيه اجتماعي بالانخراط في العمل الخيري التطوعي. هناك يملأون أوقات فراغهم ويجدون بعض العزاء لأنهم يلتقون بمن هم في حالهم أو اسوأ، مما سيخفف عنهم وطأ ما يعانون. كما تزداد هناك حظوظهم في العثور على الطرف الآخر الذي من شأنه أن يملأ الفراغ العاطفي الموجع ويـبعد آثار خيبات الأمل الغرامية).
ما كانت تفعله شرطة سكتلانديارد لهذا النوع من الجواسيس، وفعلته لهذا الضابط بالذات، هو أن تزودهم بهويات أطفال توفوا صغارا منذ عقود لإبعاد أي شبهة قد تنتج عن تشابه في الأسماء. وهكذا تغلغل صاحبنا وسط المجموعة باسم وهوية مختلفتين.. هوية طفل توفي قبل أكثر من ربع قرن.
تغلغل الضابط مارك ستون تحت إسم مارك كينيدي في أوساط أولئك الناشطين الذين يطلقون على تنظيمهم اسم (إيرث فيرست) “الأرض أولاً” كان اهتمامهم وقتها منصبا على البيئة، فأكثروا من مظاهرات الاحتجاج على منشآت صناعية مضرة بالبيئة في وسط وشمال إنكلترا بعيدا عن لندن. واستطاع بحنكته الأمنية وتدريبه الجيد وشخصيته المرحة أن يصبح صديق الجميع، ثم عنصرا فاعلا يشرف على تنظيم التظاهرات. ثم اشتغل على تطوير علاقاته الشخصية فنجح في مضاجعة العديد من النساء المنتسبات للمجموعة، وأقام علاقات غرامية مع بعضهن ثم عاش كشريك مع إحداهن تحت سقف واحد مدة ست سنوات. 
انكشفت تفاصيل الفضيحة، ليس بسبب مارك ستون/ كينيدي، إنما في حالة مشابهة عندما حركت السيدة باربرا شوو دعوى قضائية منطلقة من شكوك في أن أحداً يستخدم هوية ابنها رود ريتشاردسن الذي توفي بعد يومين من ولادته في الخامس من يناير 1973. ثم، مثل إدورد سنودن، لكن على صعيد محلي، خرج للناس ضباط كانوا ضالعين في هذه الأعمال، أحدهم ألَّف كتابا يشرح تفاصيلها.
وقد تكرر هذا التضليل منذ 1968 أكثر من 150 مرة مع ضباط آخرين وأهداف وقضايا أخرى مختلفة، بعضهم أنجبوا أطفالا من علاقات جنسية مع ناشطات كان يفترض أنهن يشكلن أهدافا لهم. وأبرز الحالات كانت تغلغل ضابط شرطة لجمع معلومات عن عائلة الشاب الاسود ستيفن لورنس الذي قتله صعاليك بيض بمحطة باص جنوب لندن عام 1993 في قضية عنصرية هزت بريطانيا حكومة وشعبا. وكذلك تغلغل ضابط آخر وسط مجموعات مناهضة العولمة التي نظمت مظاهرات حاشدة في لندي بين 2000 و2003 وبمناسبة اجتماع مجموعة الثماني في غلينسدبل (شمال). في الحالات التي انكشفت للرأي العام، كان يحدث ان الضابط المدسوس يختفي فجأة عندما تنتهي مهمته، أو عندما تكتشف قيادته أنه على وشك أن ينفضح. أحدهم اختفى متسببا في صدمة عاطفية لإمرأة كانت متيمة به لم تتحمل صدمة الفراق، فصممت على بدء رحلة البحث عنه انطلاقا من اسمه وتاريخ ولادته في سجلات البلديات.
بقية القصة هي أن يتخيل المرء هذه السيدة تصل إلى عنوان العائلة فترن جرس البيت وعندما تفتح الأم تطلق في وجهها: أنا صديقة أو عشيقة ابنك فلان، هل هو موجود في البيت؟ وعلى المرء أن يتخيّل ردة فعل أم توفي ابنها ودفنت جثمانه قبل أكثر من ربع قرن. مـَن سيقنع الأولى بأنها تركض وراء سراب، والثانية بأن هناك دسيسة كبرى ضحيتها اسم ابنها الراحل المسكين.
بعد هذه القصص التي تحولت في عالم الجوسسة الأسود إلى ممارسة روتينية، هل يحق لأحد أن يعبـّر عن الصدمة من ممارسات وكالة الأمن القومي الأمريكية أو غيرها. ما يجب أن نقبله في هذا العالم أن كل الناس تتجسس على كل الناس.. والحلفاء ليسوا دائما أصدقاء، والصداقة لا تعني عدم الاهتمام بما يحدث عند الصديق، ولو من باب الفضول. 
في هذه اللحظة، على سبيل المثال، إيطاليا تتجسس على السويد، والمغرب يتجسس على اسبانيا والبرتغال تتجسس على السينغال والهند تتجسس على اليونان وفرنسا تتجسس على الأرجنتين والبرازيل تتجسس على مصر وهكذا.
تعمدتُ عدم الحديث عن الجوسسة بين الدول المعادية لبعضها أو المتنافسة على تفوق ما، مثل الصين والولايات المتحدة، أو الأخيرة وروسيا. أقصد بين دول تبدو علاقاتها ظاهريا، طبيعية. فإن لم تكن جوسسة فهي عملية جمع معلومات وتخزينها لاستعمالها عند الضرورة، وإذا لم تأت هذه الضرورة يوما، فهي موجودة يمكن تبادلها مع طرف ثالث مثلا، أو هي موجودة وكفى. ومجرد وجودها على الرف، في دنيا التخابر، أفضل من رفوف فارغة.
هذا واقع موجود وسيظل موجودا، وإلا فقدت أجهزة المخابرات أسباب وجودها وفقدت الدول ثقتها في نفسها.
هناك حقيقة لا يجب إهمالها وهي أن الدول التي تشتكي من الممارسات الأمريكية، ليس أكيداً أنها أقل سوءا وتجسسا منها. هل سنصدّق أن المخابرات الخارجية (والداخلية) الفرنسية ملاك طاهر بريء؟ لو كان لفرنسا “سنودن ـها” لربما كشف ما هو أسوأ. ولو أتيح لنا أن نعرف على من تتجسس الصين وكيف، لأصابنا ذهول. ولو كشفت الصين عن نزر يسير من “انجازاتها” في هذا المجال، لضرب بعضنا أخماسا في أسداس. 
أكاد أتخيّل ضباط وقادة كبريات الدوائر الإستخباراتية العالمية جالسين في مكاتبهم يضحكون على صدمتنا ولسان حالهم يقول: ليتكم عرفتم كل شيء عن أفعالنا!


ملاحظة:

نشر المقال هنا.

ليست هناك تعليقات:

تنويه من المحرر

تنويه من المحرر
وجهات نظر موقع شخصي تماماً لا يمثل أي جهة أو حزب أو منظمة، ولا ينتمي إلا للعراق وأمته العربية والإسلامية، وهو محمي بالقانون وبميثاق الشرف الصحفي ولايسمح بإعادة النشر إلا بشرط ذكر المصدر.. الكتاب يتحملون مسؤولية مقالاتهم، والناشر غير مسؤول عنها..