علي الحمداني
عادة ماتربط التحليلات السياسية ثورات الشعوب بالنظرية الفيزيائية القائلة : أن لكل فعل رد فعل . ومع أن ذلك صحيح الى حد ما كمنظور عام حينما تنعزل الجماهير عن حكامها وتسقط صلة التماسك داخل إطار الدولة فتنشأ ردة الفعل الطبيعية لذلك .. وكثير من الأمثلة على ذلك حية هنا وهناك في دول عالمنا العربي أو بعض دول العالم الثالث.
إلا أن العراق اليوم يعيش حالة خاصة تخرج عن أطر النظريات العلمية أو تجارب غيره من الدول خصوصا الأمثلة التي خبرناها خلال السنتين أو الثلاث الماضية فيما يسمى " الربيع العربي " .. حتى لقد بدأنا نرى من يطلق على الثورة العراقية مسمى "الربيع العراقي" .
العراق حالة خاصة ، وخصوصيتها تتلخص فيما يلي :
ــ إن كافة الأنظمة السياسية التي سقطت في بعض الدول العربية من خلال ربيعها كانت عبارة عن أنظمة جاءت الى الحكم نتيجة إنقلابات عسكرية أو بمؤامرة سياسية من الداخل أو بتوريث غير شرعي حيث كما نعلم لا وراثة في نظم الحكم الجمهورية.
النظام السياسي الحالي في العراق جاء الى الحكم باحتلال عسكري غاشم ومباشر لكي يسقط نظاما سياسيا وينصّب نظاما آخر ، ولكي يحتل أرضا ويستعمرها ويسرق ثرواتها .. كل ذلك تم وفق ستراتيجية قد تم وضعها بعناية من قبل الدوائر السياسية الغربية بزعامة أميركا وبالتحالف مع نظم إقليمية أبرزها النظام الإيراني وأوكلت مهمة تنفيذها على حكومات منصّبة تعمل على تنفيذ وتطبيق أجندات خاصة مصادق عليها مسبقا . لذلك فالحالة العراقية حالة فريدة وصعبة لأنها لاتواجه ديكتاتورا أو منظومة حكم بل مؤامرة دولية وإقليمية تدعم ذلك الحكم .
ــ إن كافة محصلات ثورات الربيع العربي كانت تستهدف إسقاط رأس الحكم أو الدكتاتور المتربع على رؤوس العباد مع الإبقاء على طبيعة تلك النظم ولكن بثوب جديد . وهذا ماحصل فعلا في مجموعة دول الربيع العربي وهو الذي يطلق عليه بلغة السياسة والإدارة "حلقة تبديل الوجوه" والتي هي أصلا نظرية علمية ظهرت في اميركا وتدرس ضمن علوم الإدارة العامة والعلوم السياسية .
في العراق ومن خلال ثورة شعبه الحالية المتنامية لايكمن الهدف فقط في إسقاط الرأس وهو هنا نوري المالكي ، بل سيسعى الى إسقاط نظام سياسي بكل مفرداته ورموزه واستراتيجيته التي أشرنا اليها والتي من أبرز ملامحها الطائفية الدينية والصراع القومي والمناطقي . ومن هنا أيضا تأتي صعوبة الثورة العراقية المتصاعدة والتي لاأشك مطلقا أنها ستسجل ملحمة تختلف عن غيرها من ملاحم الشعوب .
ــ الدول العربية التي شهدت التغيرات السياسية يختلف نسيجها الإجتماعي عن الشعب العراقي وخاصة طبيعة المكون الأكبر فيه وهم العرب .
الشعب العربي في العراق يقوم على أساس العشيرة والقبيلة ، والمتابع لتاريخه القريب على الأقل يعلم أن عشائر العراق بأجمعها تتكون من الطائفتين الإسلاميتين الرئيسيتين وهما : السنّة والشيعة . وأنه في وقت وقوع الحدث الجلل فإن رابطة أبناء العمومة تعلو على رابطة المذهب الديني . وهذه من النقاط التي يغفل عنها النظام العراقي الحالي أو بكلمة أدق لايريد أن يفهمها لأنها مصدر رعب كبير بالنسبة له . إن المتابع للخبر يرى أن هذه الظاهرة ، أي اللحمة العشائرية ووشائج العمومة والدم ، بدأت بالتنامي .. واليوم الأحد 20/1 .. أقامت عشائر عربية في مدينة النجف الأشرف مجلس الفاتحة على روح الشهيد محمد طاهر العبد ربه شيخ مشائخ عشائر الجبور في محافظة نينوى الذي إغتالته اليد الصفوية الحكومية .
إذاً ، العشائر السنية في نينوى تربطها مع عشائر النجف الشيعية رابطة أقوى مما يتصور نوري المالكي ونظامه . واليوم كذلك خرجت جماهير المثنى واستمعنا الى شيوخها ووجهائها يعلنون تأييدهم لأولاد عمومتهم في شمال وغرب العراق .
ــ سقطت النظم السياسية في تونس ثم ليبيا ثم مصر ثم اليمن وتتداعى للسقوط يوما بعد آخر في سوريا . وعندما سقطت هذه النظم والرمز الذي يمثلها في واقع الحال وهو رئيس الدولة ، لم تكن هناك دولة إقليمية أخرى مدت لتلك النظم يد الدعم بما يعني وجود اتفاق دولي لم يعد الآن خافيا على أحد ، يستثنى من ذلك الدعم الإيراني وذراعه حزب الله في لبنان للنظام السوري والذي يبدو من مسار الأحداث أنه سوف لن يصل الى نتيجة فاعلة تذكر .
الحالة العراقية حالة مختلفة ، تتفق من ناحية مع الحالة السورية بسبب وجود الدعم الإيراني للنظام المتهرئ في بغداد .. في حين تختلف من الناحية الثانية فيما يتعلق بقيادات ثورات الربيع العربي في الدول المذكورة . ففي تلك الدول مدت دول عربية وأجنبية يدها بالدعم والتمويل للثوار العرب سواء علنا أو سرا .. دعت الى إجتماعات ومؤتمرات عربية ودولية وأرسلت قوات عسكرية من حلف الناتو !
أما الثورة العراقية فهي لاتتلقى دعم أية دولة عربية أو أجنبية على الرغم من دعايات أبواق الحكومة الصفراء في المنطقة الخضراء بأن دولا خليجية بالذات تدعمها وتمولها في محاولة يائسة لإضفاء طابع الطائفية الدينية عليها على اعتبار أن تلك الدول ذات أغلبية سنية .
الكل يعلم سواء في داخل العراق أو خارجه ، أن ثورة العراق تفجرت عفويا بوجه الظلم .. وأن مموليها الوحيدين هم أبناؤها والعشائر التي تقف معهم ، وهذه حقيقة لم يعد بالإمكان نكرانها أو الإلتفاف عليها أو تشويهها .
إذن ، الثورة العراقية حالة معكوسة عن غيرها .. النظام السياسي في بغداد يتلقى الدعم علنا ومن وراء الستار من قبل إيران تحديدا والإدارة الأميركية بشكل عام .. في حين أن ثوار العراق لايتلقون دعم من الدول العربية أو غير العربية ، بل ربما العكس حيث هم في خط نار التآمر من بعض هذه الدول ومن أبرزها الكويت على سبيل المثال لا الحصر.
كل هذه العوامل ، وربما غيرها جعلت من الثورة العراقية الحالية ثورة ذات خصوصية في بدايتها ثم في ديمومتها ثم في توسعها.
قبل كل شيئ فهي قد بدأت في عنفوانها خارج العاصمة العراقية بغداد على عكس ثورات الربيع العربي ..
في واقع الحال ، كانت هناك إنفجارات جماهيرية عفوية قبل سنتين وأكثر في قلب ساحة التحرير وسط بغداد .. ولكن في هذه المرة وبعد تلك التجربة حوّلت قيادات الثورة مسارها وغيّرت تكتيكها لتبدأ في محافظات عراقية ثم تنتقل الى العاصمة .. وهذا ماحدث فعلا في يوم الجمعة الماضية حيث شهدت بضع مناطق في بغداد تظاهرات كثيفة بهذه الصورة وذلك للمرة الأولى بعد ثلاث أسابيع على تفجر ثورة العراقيين في كل من الأنبار ثم نينوى ثم صلاح الدين ثم ديالى ..
ثم بدأت بوادر الثورة تلوح في الوسط والجنوب العراقي ومنها كربلاء في الأسبوع الماضي بقيادة سماحة المرجع الديني السيد الصرخي الحسني . الأمر الذي إهتزت له رُكب النظام .. وقد بدأت ترى التململ الجماهيري في البصرة وذي قار وميسان والكوت ، ثم كما ذكرنا في النجف والمثنى .. ثم جاء بيان عشائر الجنوب العربية ، وهم من الشيعة ، أي الورقة التي يحاول المالكي ونظامه اللعب عليها .. حينما أعلنوا في بيانهم وقوفهم الى جانب مطالب الثوار في محافظات شمال وغرب العراق .. وزاد الطين بلّة تحرك المرجعية الدينية بما يفهم منه عدم رضائها عن أداء الحكومة ومعالجتها لأزمات الشعب العراقي .
من خلال قراءة عاقلة وموضوعية لكل ماذكرنا نخلص الى أن التحرك الجماهيري العراقي ينمو بسرعة ويشتد عوده بعد قرابة أربعة أسابيع صعبة ، وأنه سيستمر لمدة زمنية طويلة ، وأن سقف المطالب الشعبية بدأ يرتفع .. مقابل ذلك نرى أن كافة تهديدات نوري المالكي "الدونكيشوتية" بدأت تتهاوى وتتراجع ، وبدلا من لغة التهديد بدأنا نسمع لغة التنازلات ومحاولات المساومة والترضية .. وهذا هو سلاح المفلسين والخائفين في كل وقت ومكان ، تماما كما كنا نسمع بن علي ومبارك والقذافي وعبد الله صالح .. وكما نسمع اليوم في نبرة خطابات بشار الأسد .
إنها سنة الحياة منذ أن وُجد الظالم والمظلوم متمثلا في شخصين هما قابيل وهابيل .. وحتى يومنا هذا مرورا بكل التاريخ الإنساني .
صعود لكلمة الحق من فم مظلوم .. وتنازل من قبل الظالم .
أما صعود كلمة الحق فنحن نشاهدها كل يوم .. أما التنازل بعد لغة التهديد والوعيد التي خاطبنا بها المالكي قبل أسبوعين فقط ، فقد أصبح واضحا أيضا من خلال إجتماعات متكررة لأطراف مايسمى التحالف الوطني وتشكيل اللجان والتصريح بإعادة النظر في قانون المساءلة والعدالة وقانون الإرهاب ودراسة مطالب المتظاهرين وإرسال الوفود اليهم أن تلك اللغة قد إنتهت في مزابل العراق .
اليوم فقط .. ينتقد القاضي منير حداد ( تصوروا ) !! ينتقد رئيس مجلس القضاء مدحت المحمود والنظام القضائي العراقي . ويقوم محمود طالب الحسن النائب عن دولة قانون المالكي بالتصريح أن المحاكم يجب أن لاتنظر بقضايا مصدرها المخبر السري (!!) والبقية سوف تأتي طوعا أو كرها .
إنها مرحلة التراجع والتملص من الجرائم قد بدأت ومن داخل " دولة القانون " !!
وسيلي ذلك السقوط بحول الله وقوته ثم إرادة أحرار العراق في كل مكان .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق