مثنى عبدالله
قدرُها كاسمها ومـن النادر ان يتساوى الاسم والقدر.
في اللغـة الانبـار تعني المخزن وفي الواقـع هي مخزن النخوة والاباء والرجولة والشرف. شهدت ارضها نكبة البرامكة وقُتل حاكمها البريطاني العقيد لجمن على يد احد شيوخها.
كـان الغزاة غالبا ما يدخلون العراق مـن بوابتها ظنا منهم انها الخاصرة الرخوة.
هكذا ظن الساسانيون والانكليز والامريكان، لكنها كانت دائما تطيح بهم فيخرجون مـن العراق عبرها، فكانت صفحتها في كتب التاريخ راية عـز وكرامة.
كان لحظ الاحتلال العاثر نكبة كبرى على ارضها وبيد رجالها النجباء، حينما جرّب ان ينتهك حُرماتها وان ينشر ضيمه بين جوانب باديتها وحواضرها، فكانت قلعة صمود وتصدي، ومعقلا من معاقل المقاومة دفع فيها ثمنا باهظا من جنوده والياته العسكرية. وعندما حاول ان يصنع نصرا كاذبا يجبر اهلها على الانصياع، تصدت له الفلوجة بشيوخها ورجالها وشبابها ونسائها في معركة دامت عاما كاملا، فشل خلالها بكل جبروته وعظمته العسكرية ان يدخل المدينة الا بعد ان استخدم كل الاسلحة المحرمة دوليا لقهر اهلها، لكنها بقيت في اذهان كل قادة الاحتلال كابوسا وعلى شفاههم كأس سم زعاف.
كذلك كانت مدن حديثة والقائم وغيرهما الكثير من اقضيتها ونواحيها وقراها، وكأنه قدِّر لها ان تكون مساحتها ثلث مساحة العراق كي تقاتل باسم جميع العراقيين، وتنتخي لكل من يمسه الظلم والقهر على ارض الوطن.
وها نحن اليوم امام ملحمة جديدة يسطرها اهل الانبار، بعد ان وصلت صرخات نساء وادي الرافدين ورجاله الابرياء الى مسامع شيوخها ورجال الدين فيها، يشكون ظلـما وتعسفا وجـــبروتا وطغيانا بأيدي ورثة الاحتلال، الذين ما انفكوا يسيرون على نهجه في القتل والاعتقال والتعذيب، فما كان من اهلها الا ان خرجوا عن بكرة ابيهم في وجه الظالم منتصرين لكل من مسّه الجور، موحدين غير مفرقين في نصرتهم لكل مظلوم وهم الذين ماعرفوا يوما الطائفية والتمييز فانتصبت سرادقهم في وسط البادية، وارتفعت راياتهم في وجه الباطل، وصدحت حناجرهم بالحق ليسمع سكان المنطقة الخضراء القابعين في جحورهم، بان القادم اكبر ان واصل الطائفيون ركوب طريق الغي والتجبر.
ولأن الظلم والتفرقة والتمييز الاجتماعي والفساد والاثراء على حساب الشعب قد جاوز الحد الطبيعي للانفجار، فقد كان للانبار شرف ان تكون هي الحافز الاول لانطلاقة الصرخة، التي تردد صداها في الموصل وصلاح الدين وكركوك وديالى وبغداد، فخرجت الجماهير في تلك المحافظات هي الاخرى تحمل مطالبها في حق الحياة الحرة الكريمة، وتتلاحم مع اهل الانبار في وقفة مشرفة كان العراق ارضا وشعبا في امس الحاجة اليها.
ان شرف الدفاع عن الوطن وتحمل مسؤولية تحريره من قبضة الحكم الطائفي المقيت، يتطلب من كل محافظات العراق ومدنه وقراه ان يكونوا اليوم كلهم الانبار، وان يحشد الجميع طاقاتهم في الاتجاه الصحيح الذي بدا فيها، فتوسيع جبهة المواجهة مع السلطة هي الحل الوحيد لاجبارهم للرضوخ الى المطالب المشروعة، كما ان الظرف الراهن يتطلب ان يفهم الكل بأن السلطة الحالية لاتمثل اي طائفة او مذهب او قومية، وانهم استخدموا كل تلك المسميات كي يضمنوا سيادتهم على الجميع، ويمارسوا هيمنتهم على موارد البلد وثرواته، واذا كان هنالك من اعطى صوته مدفوعا بغــريزة الطائفة في ظرف استثنائي، فان مسيرة السنين الماضية من عمــــر الحكومة اثبتت بلا شك بان هؤلاء لم يلتفتوا الا الى مصالحهم ورغباتهم، وهكذا سار البلد من سيء الى اسوا ومن ازمة الى اخرى، وبالتالي فلا شرعية لمن لم يحترم تلك الاصوات التي وثقت به وقبلت ان يكون ممثلها. ان انتفاضات الشعوب ليست يومية، وثوراتها ليست عملا يتكرر بفترات زمنية قصيرة، لانها ليست خالية من المخاطر الفردية والجماعية، لكن عندما تصبح مخاطر السكوت والاستكانة اكثر ضررا على حياة الفرد والمجتمع، وبسببها يتهاوى مستقبل الاجيال وتضيع الحقوق والواجبات، يصبح الخروج على السلطات امرا واجبا وقانونيا، وتصبح ضريبة ذلك الخروج مقبولة من الجميع، فترتفع التضحية الفردية الى مستوى الاعمال البطولية التي يخلدها التاريخ.
هكذا هي القراءة التي حفل بها تاريخ الشعوب والامم على مر العصور. واذا كانت النخب الفكرية والثقافية والسياسية الوطنية قد غُيّبت في العراق منذ الغزو وحتى اليوم بالتهجير والقتل والاعتقال والاجتثاث، وبعضها غادر موقع الاستنهاض لاسباب انتهازية وحسابات مصلحية وطائفية ضيقة، فان مسؤولية الاستنهاض الوطني تصبح على عاتق الرموز الاجتماعية العشائرية والدينية، لذلك نراها اليوم تقود الانتفاضة في العراق بوعي ومسؤولية تاريخية كبرى، وهذا الموقف ستجابهه السلطة بالسعي الحثيث على استخدام رموز اخرى لتكوين موقف مؤيد لها ومناهض للقيادات الدينية والعشائرية التي تقود الانتفاضة، مما يتطلب مزيدا من الاصرار على المطالب ووضوحا تاما في عرض المظالم وصبرا على المطاولة، كي يصبح الوقوف ضدها عار على كل من يتحالف مع السلطة، وبالتالي يشكل عنصر ضغط مجتمعي يمنع الانزلاق ضد مطالب الشعب. كما ان الاصرار على وحدة الموقف وعدم تجزئة الحقوق المغتصبة يعزز من مصداقية الانتفاضة، ويكسبها الاحترام ويمدها بالمزيد من التاييد المحلي والخارجي، اضافة الى انه يؤسس لثقافة ردع لكل من يفكر مستقبلا في التجاوز على مقدرات البلد ونهب ثرواته. فلقد امنت السلطات منذ الغزو وحتى اليوم الردع الشعبي والنخبوي، حتى خيل لهم بان البلد تركة يقتسمونها فيما بينهم، في ظل الترديد المتكرر عن ان الربيع لن يدخل العراق لانه ديمقراطي، لذك بانت ملامح الصدمة عليهم واضحة في هذه الانتفاضة المباركة، فجنحوا للتهديد والوعيد واطلاق العبارات المشينة بحق المتظاهرين، ثم توسلوا بشركائهم السابقين والحاليين في الفساد كي يوقفوا الانتفاضة، مقابل ضمانات كاذبة ووعود براقة لكن الرد جاء صاعقا في ساحة التظاهر بعد طرد كل الوسطاء الغير نزيهين، والرفض الواضح لوساطة اي اتجاه سياسي او شخصية لها علاقة بالسلطة، وهو موقف متقدم يحسب لكل من يقود الانتفاضة، دلالته ان الشعب عرف جيدا بان هؤلاء الذين هم من نفس النسيج الاجتماعي للمتظاهرين، انحازواللسلطة وليس لهم وفشلوا في تحقيق اي مصلحة وطنية ليس لحواضنهم الشعبية فحسب بل للعراق كله.
ان الاهمية التاريخية للانتفاضة العراقية تكمن في هذه التعرية الكاملة للسلطة السياسية التي حرص المحتل طوال السنوات الماضية على تلميع وجهها القبيح، حتى بات المالكي ورهطه ينظرون الى انفسهم كقادة استثنائيون، ومثال يحتذى من قبل الاخرين لهم الحق الحصري في اضطهاد شعبنا ومصادرة حاضره ومستقبله، مما يتطلب الاصرار على المنهج وعدم التفريط بحزمة المطالب، ومواصلة الضغط على السلطة وعزلها والذي سيقود الى فقدان هيبتها الذي هو مقدمة لسقوطها. ان كان الانسان حرا فعليه ان يحكم، وان كان لديه طغاة فعليه ان يخلعهم، هكذا يقول الفيلسوف الفرنسي فولتير، وهو وصف ينطبق تماما على اهل الانبار وثوارها الشرفاء الذين ولدوا احرارا، وهم اليوم سعداء بأن القدر وضعهم في مقصورة قيادة الوطن للتخلص من الطغاة. فليكن العراق اليوم كله الانبار.
هناك 3 تعليقات:
لا أمل فيما تنشد سيبقى الأنبار هي القلعة والباقون متفرجون وقاطفوا الثمار كالعادة
لا اخي حسين ، الامل بالله قوي.
الأمل بالله نعم .
ولكني لا أملك أملاً بأن ينهض الجنوب دعماً لأهل الأنبار. لعدة أسباب منها خنوعهم للأحتلال من ناحية ,ومن ناحية ثانية إستسلامهم لرجال الدين والسياسيين المقادون من طهران .
وهنا لآ أنكر وجود كثير من المخلصين منهم ولكنهم عاجزون .
عندما يصبح الأنتصار قريباً ومضموناً سيركبون الموجة ويحصدون النتائج الأيجابية والتاريخ مليء بالتجارب. أتمنى أن أرى مئات فقط يتظاهرون لأسقاط النظام دعماً لأخوانهم في الوطن في المحافظات الغربية والشمالية.
إرسال تعليق