وجهات نظر
عبد الكاظم العبودي
احتفلت الجامعة العربية قبل يومين بخبر قطع الرئيس المصري محمد مرسي لعلاقات مصر الدبلوماسية مع ما تبقى من نظام بشار الأسد، وتناقلت أخبار الاعلام المصري انه تم تنفيذ أمر الرئيس الفوري بغلق سفارة عربية، واجهتها تحمل علماً عربيا كان يوما علم الوحدة مع مصر، ووضع الشمع الأحمر على عنوان "سفارة الجمهورية العربية السورية في القاهرة".
وهكذا صار مثل هذا الخبر عاجلا ومستعجلا، وعند الكثيرين صار عاديا، رغم انه إحتل أشرطة العواجل الاخبارية المتحركة على فضائية الجزيرة وأخواتها العربيات مشرقا ومغربا.
وقد يتفاءل بعض البسطاء من العرب في حراك الرئيس المصري، ولا شك انهم من ذوي النوايا الطيبة، ولا اقول من السذج سياسيا، عندما يعتقد البعض: ان قرار الرئيس المصري محمد مرسي بإقدامه على قطع علاقاته الدبلوماسية مع نظام عربي، لازال قائما بصورة ما في سوريا، ربما سيشجعه على قطع علاقاته الدبلوماسية مع نظام عبري مجاور لقصر عابدين بسفارته ومكاتبه وبنفوذه الاقتصادي والسياسي اسمه الكيان الصهيوني في فلسطين، "إسرائيل".
ومحاكاة لتلك الأماني الساذجة والمسطحة سيقول البعض: دعوا الرئيس المصري يفعلها وليمارس صلاحياته الرئاسية والدستورية، وحقه في القطع الانتقائي للعلاقات مع سوريا المتعبة، الدولة العربية المتجهة نحو التدمير والفناء الذاتي، والآيلة للسقوط، وذهب بعض التفاؤل الغبي الى القول: ربما سيفعلها مرسي غدا أو بعد غد مع نظام عربي آخر، كالعراق أو مع نظام إسلامي، ولم لا تكون ايران؟ وهي اسئلة لا تستحق المراجعة والالتفات اليها.
وحسب الرغبات الصهيونية وما شاءت له أمريكا الوصية في مسلسل إنتقائياتها الاقليمية لقضم نظام سياسي ما، وما سينفذه ما تبقى من لملوم دول الجامعة العربية، فإن الرئيس المصري محمد مرسي سيحمل تلقائيا اهداف وأماني رئاسة القمة العربية الموكلة الآن الى جزيرة قطر، وهو كبقية الحكام العرب ولاعتبارات سياسية وحسابات إقليمية، وتكتيكات إخوانية، ، وكرئيس عربي رسمي ، فانه سيتجاوز ويتناسى صراخ الساحات المصرية وجماهير الشعب المصري التي اوصلته الى السلطة، وسيتغافل حتى عن أصوات حركته الاخوانية التي كانت تسمعه كل يوم بشعارات المطالبة برفض التطبيع مع "العدو الصهيوني" وتحثه على غلق سفارة اسرائيل في القاهرة.
ويبدو ان كلمة "تطبيع" العلاقات مع اسرائيل طويت في قواميس التاريخ السياسي في بعض بلدان المنطقة، وهي باقية في الذاكرة الشعبية العربية، ومن باب الحياء أمام حجم المآسي التي عاناها العرب من جرائم اسرائيل ، باتت متداولة فقط في اروقة بعض البورصات السياسية العربية أو للاستهلاك المحلي، وتقدمها الدول العربية ضمن الصفقات مع العدو كسلعة من كلمات باتت بائرة في سوق الشراء والبيع للمواقف، وصار البعض يتقول بأن لكل حاكم عربي حقه في التطبيع او المقاطعة الشكلية، ومنهم من بات يبرر لنفسه ولغيره تناسيه حتى لمطالب جماهير ساحته وحزبه التي كانت داعية يوما ما الى "المقاطعة" مع اسرائيل، ومنهم من يسعى الى إحلال شعار " التطبيع" محلها، ولو باشكال وصيغ وصفقات تفوح روائحها في كل مكان حلت به الادوات الصهيونية وعملائها.
ويعتقد بعض الحكام العرب انهم باتوا احراراً في ابقاء العلاقات مع من يريدون من الدول، بما فيها إسرائيل ، وهم يستعملون مفردات ومصطلحات سياسوية لم تعد غامضة الأهداف والمرامي، ولم تعد عصية على الفهم والادراك والتحليل حتى لأطفال المدارس الابتدائية، ولا يحتاج المرء، بعد اليوم، الى فطنة وعبقرية نحاة اللغة، ولا دهاء السياسيين المُبرزين لفرز الموقف من اسرائيل او من انصارها المتصهينين في ساحات العرب المختلفة .
حكام العرب لا زالوا يدعون الى عقد مؤتمرات القمة العربية، ويحرصون على تنظيمها سنويا، ومنها مؤتمر القمة العربية القادم المقترح عقده في القاهرة، والذي سيعيد للقاهرة، كما يروج له البعض، صدارتها وهيبة صولجانها، وحشد ميكروفوناتها، وتقارير اخبارها العاجلة بعد دورة قمة قطر الكسيحة التي ماتت في المهد قبل اللحد.
عروبيون ومتأسلمون، يائسون من اوضاع بلدانهم؛ لكنهم لا زالوا يقدمون الخدمات السياسية بمحاولات تبييض الاوجه التي سودتها مواقف أصحابها في أكثر من امتحان مرت به الأمة مقابل صفقات وامتيازات وصناعة رموز وأسماء وقيادات ليس لها من قواعد. فبعد فشل الدورة 24 للمؤتمر القومي العربي في القاهرة بدأ البعض للتحضيرات المبكرة والعمل على عقد مؤتمر القمة العربية بدورته الرابعة والعشرين وتسليم الراية هذه المرة الى الرئيس محمد مرسي، وعندئذ سيسمح للقاهرة الإخوانية وتحت قيادة وحكم المرشد، فرصة التمتع في رفع شعارات الممانعة الخجولة، التي سوف لا تتعدى قاعات انعقاد القمة ومحيط اقامة اصحاب الجلالة والفخامة والسمو والمعالي... الخ. ، وسيتم تكرار رفع الشعارات الاسلاموية العتيدة التي تعودناها بالامس القريب والبعيد عندما يكون الاخوان في صفوف المعارضة، وهاهم يتناسوها عندما يقتربون من دخول القصور الرئاسية في قرطاج وعابدين.
لقد نسيت ذاكرة أوتار حناجرنا طعم تلك الصرخة العربية المؤلمة والصادقة التي كانت تعبر عن حالة غضبنا وهي مختصرة بحرفين ترددها ملايين الحناجر العربية، صارت جزءا من ذاكرة بعيدة، سمعناها في قمة اللاءات الثلاثة أو ما سمي بقمة الخرطوم وهو مؤتمر القمة العربية الرابع والخاص بجامعة الدولة العربية، في 29 أغسطس/ آب من العام 1967 على خلفية هزيمة العرب في الخامس من حزيران/ جوان 1967 ، أو ما عرف بعام النكسة. عرفت القمة باسم قمة اللاءات الثلاث، حيث خرجت تلك القمة بإصرار التمسك بالثوابت القومية من خلال لاءات ثلاث، كانت: لا صلح، ولا إعتراف، ولا تفاوض، مع العدو الصهيوني قبل أن يعود الحق لأصحابه.
كانت الامة كلها تصرخ بلاء واحدة، بجماهيرها المنتفضة على نتائج النكسة، كانت مؤمنة بالنصر، وهي في أسوء أوضاعها، كانت مؤمنة بحتمية صدامها مع الاستعمار والصهيونية لذا كانت جماهيرها تشخص الشعار بدقة أكبر من صياغة الحكام ، فقالت الساحات يومها: " لا للاستعمار ... ولا لإسرائيل" وأحيانا كانت النخب السياسية الواعية الرافضة للهزيمة تزمجر بشعاراتها "لا لحكم الخونة والعملاء"، وفي بعض الحالات كانت جرأتها تفصح عن تشخيص قادة الهزيمة ومسببي النكسة، فكانت تقول صراحة بوجوههم "لا للرجعية العربية" وغيرها من الشعارات الرافضة للهزيمة القومية، كنا نسمع الكثير من اللاءات التي عاشتها اجيالنا في سائر بلدان العرب وأقطارهم في سنوات الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي .
نسينا كلمة "لا" بعد الخنق الأبدي لتلك اللاءات الثلاث المشهورة التي رفعها رابع مؤتمر قمة عربي في الخرطوم ... يومها كان المؤتمر قوميا فعلا، وليس مجرد قمة يجتمع فيها الحكام ، كان عبد الناصر فيها حاضرا، وكذلك العراق والجزائر وسوريا، لذا ظلت قمة الخرطوم في ذاكرة الاجيال.
وبعد الانهيار التدريجي العربي، وتكريس حالة الهزيمة والنكوص العربي، تم ابدال تلك الكلمة المزعجة "لا" بشعار تمت صياغته بمختصر زئبقي اللفظ ويحقق الغاية المضللة في تكراره وقوله، أين بتنا نسمع اصوات الحكام العرب، ملوكا وجمهوريين وأُمراء ومشايخ بترول وانقلابيين حملتهم دباباتهم الى قصور الحكم الرئاسية، تدجنوا وإئتلفوا وتحالفوا ضد شعوبهم وصاروا يلوكون الكلمة الحلوة الجديدة، وهي كالمضغة في أفواههم ، صاروا يقولون للجميع وعلى الملأ، كلمة مزدوجة المقاصد، مفخخة الأهداف: عنوانها "لعم".
"لعم" لم تعد سراً عند القادة عندما حللتها الشعوب من خلال التجارب المريرة التي مرت على الامة . كان حل شفرتها لا يحتاج الى فطنة النحاة في المصطلح اللغوي أو السياسي، ولا يحتاج التخصص في معرفة اسرار الخطاب السياسي العربي المستهلك، الذي صار يعني بوضوح ومنذ قرابة 40 سنة:
لا لحرية العــرب وتنميتهم وتحررهم .... و..... نعم لإسرائيل
وتحت هذا الشعار وانتهازيته تمت تصفية القضية الفلسطينية، ونجح فرسان اتفاقيات اوسلو من تفكيك وضياع منظمة التحرير الفلسطينية، وسار السادات الى بيت المقدس يقدم للصهاينة مصرا على طبق الاستسلام ، وبعدها تم تدمير العراق من خلال حروب وحصار ثم غزو حتى الغيت دولته ونظامه الوطني، وقبلها وبعدها سقطت عواصم عربية الواحدة تلو الاخرى كبيروت وطرابلس ليبيا ودمشق وتم تقسيم السودان والصومال وظلت الجولان والضفة الغربية وغزة تحت الاحتلال. لم نسمع منذ عقود لاء واحدة تقول: لا للانهيار العربي الشامل؟؟.
لأجل مواجهة مشكلة النظام العربي وعقده في الاحتباس القطري ومحتشدات العبودية الامبريالية في بلدان صارت تتمتع بالحكم الذاتي بحماية الاسياد من كل صوب وحلف اجنبي، وللتخلص من هذه الكلمة الانهزامية اللاصقة بسقف الفم العربي الرسمي " لـــعــــم " لا بد من تحقيق ارادة شعوبنا العربية في واحدة من اماني الشاعر العربي العراقي د. أحمد مطر التي رفعها يوما عبر هذه اللافتة الباقية من اماني شعوب الامة المنكوبة بحكامها وواقعها وتخاذل ساستها.
أنا لو كنت رئيسا عربياً
لحللت المشكلة
وأرحت الشعب مما أثقله
أنا لو كنت رئيساً
لدعوت الرؤساء
ولألقيت خطابا موجزاً
عما يعاني شعبنا منه
وعن سر العناء
ولقاطعت جميع الأسئلة
وقرأت البسملة
وعليهم
وعلى نفسي
قذفت القنبلة
فماذا ينتظر العرب من قمم حكامهم، وساحات بلدانهم تصرخ بألف لا ولا بوجه قطيع من حكام لم يجتمعوا قط في قمة، الا وخرجوا منها اكثر شتاتا وجبنا وترددا وتعلقا بكلمة "لعم".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق