نزار السامرائي
قبل كل انتخابات في الولايات المتحدة، تنشط مراكز الدراسات والمحللون السياسيون في داخل البلاد وخارجها في رصد فرص كل مرشح من الفوز في الانتخابات، لما للولايات المتحدة من مكانة معروفة كمركز استقطاب دولي يؤثر في مسار العلاقات الدولية، وتبدأ توقعات التغير في السياسة الأمريكية تأخذ طريقها نحو أجهزة الإعلام العالمية.
كما أن الدوائر السياسية في عواصم (اللاقرار) وخاصة في الوطن العربي، التي لا تمتلك شيئا من حرية الاختيار سياسيا واقتصاديا وأمنيا، وتؤمن أن أمريكا هي التي تفكر نيابة عنها وتقرر لها ما تراه مناسبا تبدأ بحساب الربح والخسارة في حال تحقق أي من الأمرين، تلك العواصم التي تشعر بلذة التبعية السياسية وترغب بتأدية دور التابع الذي لديه سيد يحميه عند الملمات، لأنها تعتقد أن الموقف الأمريكي هو وحده القادر على منح قوة الدفع لكل الأفكار البناءة أو الهدامة على حد سواء، هذه الدوائر تتحرك بآلية صماء عمياء لتقلد ما تسمعه من آراء وتصورات عن التبدلات المحتملة التي قد يدخلها الرئيس الجديد على سياسة بلاده تجاه الملفات الساخنة.
وعند الوصول إلى حافة اليأس من كل شيء، تترجح فكرة أن الرئيس الأمريكي يمتلك هامشا محدودا جدا أمام المؤسسات الدستورية ومؤسسات صنع القرار، لفرض تصوراته على سياسة بلاده من دون أدنى حق بالتعرض للمواقف الإستراتيجية التي تتعلق بالمصالح الأمريكية العليا التي على الرئيس الأمريكي "كل رئيس أمريكي" أن يبذل أقصى جهده للحفاظ عليها، إذا عجز عن الإضافة إليها.
هذا واقع الحال في الولايات المتحدة التي تعمل مؤسسات هائلة النفوذ فيها على رسم الإستراتيجية الأمريكية لقرن من الزمان على الأقل، هناك مجلس الأمن القومي، وهناك الكونغرس بغرفتيه النواب والشيوخ، وهو الجهاز الموازي لمؤسسة الرئاسة في البلاد، يحد من اندفاعتها إن اندفعت من غير حسابات دقيقة، ويحركها لتكون أكثر فعالية إن رآها قد تقاعست أو تلكأت قليلا.
إضافة إلى هاتين المؤسستين هناك مراكز الدراسات الإستراتيجية المرتبطة بأرقى الجامعات في العالم وهي مراكز ذات نفوذ كبير وتسهم بصنع القرارات السياسية على أعلى المستويات، وهناك جماعات الضغط وشركات الطاقة العابرة للقارات وهناك مصانع السلاح وبيوت المال، كل هذه الجهات تلعب دورا متكاملا وليس متصادما في تنمية الدور الأمريكي عالميا وجعله دورا مطلوبا حتى من قبل أطراف تعي جيدا أن السياسة الأمريكية هي التي تواطأت ضدها، هذا ما يجري في الولايات المتحدة كل أربع سنوات، وينشغل العالم في تحليلات لا تضيف شيئا إلى صورة ما يجري هناك، فالانتخابات تعكس هموما داخلية للمواطن الأمريكي في مجالات التعليم والخدمات الطبية والضرائب والتوظيف والأجور، ولعل المواطن الأمريكي أقل شعوب الأرض معرفة بما يحصل خارج حدود بلاده، لأنه بني على أساس تربوي بأن المجتمع الأمريكي هو المجتمع المثالي الذي يحتاجه العالم في كل شيء من الخبز إلى الدواء إلى التكنولوجيا والتعليم، ولا يحتاج العالم في أي شيء.
ولأن المجتمعات المغلوبة تقلد بوعي أو من دون وعي، القواعد الدستورية للبلدان الغالبة والنظام السياسي فيها والتقاليد الاجتماعية، لذلك نرى أن إيران التي عاشت ردحا من الزمن جزءً من منظومة التحالفات الأمريكية، فإن ثورة الخميني عجزت تماما عن الانسلاخ عن النموذج الأمريكي الحاضر على الدوام تحت العمامات السوداء أو البيضاء التي يرتديها رجال الدين المتطرفون والمعتدلون على حد سواء، أو تحت حجاب المرأة الإيرانية الذي هو مزيج من آخر صرعات الموضة الأمريكية بقليل من اللمسات الإسلامية الإيرانية، لكل هذه العوامل مجتمعة وغيرها مما يختفي وراء اللاوعي، فقد استنسخت إيران نظام الانتخابات كل أربع سنين واقتبست نظام الحكم الرئاسي الأمريكي وألحقته باشتراط دورتين انتخابيتين فقط لكل رئيس، ومن أجل أن يأتي النظام الدستوري الإيراني متناغما مع النظام الأمريكي فقد استدركت الزعامة الدينية الإيرانية ما حصل لعدة سنوات من وجود رئيس للوزراء إلى جانب رئيس الجمهورية، فتم حذف منصب رئيس الوزراء وتم استحداث منصب نائب الرئيس، كل ذلك كان يحصل بوعي من الزعامة الإيرانية وكأنها تريد القول بأنها لا تشعر بالحرج من تقليد النموذج الأصلح للحكم وهو النموذج الأمريكي.
الانتخابات الأخيرة التي جرت في إيران وألقت على شاطئ الرئاسة حسن روحاني المنتمي إلى التيار المحافظ المعتدل، وكان فوزه مفاجأة لبعض مراقبي المشهد الإيراني المعقد بملفاته الشائكة، منح المحللين هامشا واسعا من فرصة التنبؤ والتكهن بما تحمله إيران للمنطقة والعالم من مفاجئات، وخاصة بشأن السياسة الخارجية، كان لافتا بعد أقل من أربع وعشرين ساعة أن تنفي جامعة غلاسكو التي قيل بأن روحاني حصل على شهادة الدكتوراه في القانون منها، أن يكون قد حصل على هذه الشهادة، مما يمكن اعتباره أو نكسة يتعرض لها في وسط يكثر الحديث فيه عن شهادات إما مزورة أو لا جود لها على الإطلاق.
إن من فكر بأن روحاني بيده عصا سحرية لحل مشاكل إيران مع الجوار والعالم، كان في واقع الحال يقفز فوق وقائع السياسة الإيرانية ويتجاهل الدستور الإيراني الجامد، الذي يقترب في درجة جموده من الدستور الأمريكي، فالرئيس الإيراني شأنه شأن الرئيس الأمريكي، لا يصنع السياسات ولا يرسمها، ولكن الفارق بين الأصل الأمريكي والفرع الإيراني، أن إستراتيجية الولايات المتحدة وسياستها العليا، تضعها مؤسسات ومراكز عديدة بعد تمريرها بمرشحات كثيرة، ومع ذلك فما أكثر الحماقات والمغامرات التي ارتكبتها الولايات المتحدة في العالم وآخرها مغامرة غزو العراق والتي أنزلت أمريكا من مركز الاستقطاب الواحد في العالم نتيجة الضربات التي تلقتها على أيدي رجال المقاومة الوطنية الباسلة، بحيث اضطرت عددا من القيادات السياسية والعسكرية للإقرار بمرارة بأن أمريكا لن يكون بوسعها بعد غزو العراق خوض حربين في وقت واحد، وهي التي كانت تباهي العالم بأنها أعدت جيوشها لخوض ثلاثة حروب كبرى في وقت واحد.
أما في إيران فالرئيس الإيراني فهو مسلوب الإرادة ومسكين بكل معنى الكلمة، فهو يحظى بكل المراسم البروتوكولية المعدة لرؤساء الدول وقادتها، هذا حينما يخرج من بلاده، ولكنه حينما يكون داخل إيران فعليه أن يستمع بهدوء إلى النصح والمديح والتقريع مثل تلميذ ابتدائي من الولي الفقيه، الذي يمسك بكل الملفات الإستراتيجية داخليا وخارجيا، وهنا نقطة الخلاف الجوهرية بين النظامين السياسيين الأمريكي والإيراني.
حسن روحاني لم يطرح نفسه رئيسا إصلاحيا، ولم يعط وعودا بشأن الملفات العالقة مع الوطن العربي ومع دول مجلس التعاون الخليجي خاصة، ومع ذلك فقد استقبلته العواصم العربية وخاصة الخليجية بآمال عريضة على حصول اختراق إستراتيجي في الموقف الإيراني، على جبهة العلاقات العربية الإيرانية، تلّين قليلا من التشدد الإيراني في موضوع التدخلات التي كانت باشرتها في على هيئة احتلال أراض عربية في الإمارات وتدخلات في المملكة العربية السعودية والبحرين وخلايا نائمة في كل دول مجلس التعاون الخليجي وتجاوزتها إلى تدخل سافر في اليمن.
إذا كان القياس على الماضي فليسأل العرب أنفسهم ماذا جنوا من وجود الإصلاحيين في حكم إيران لمدة 16 عاما ثماني سنوات منها تحت رئاسة هاشمي رفسنجاني وثمان أخرى تحت رئاسة خاتمي؟
إن ما قدمه الإيرانيون من وعود لصداقة مفتوحة مع العرب، كان رد فعل لما ظنته الزعامة الإيرانية لاقتناص الفرصة السياسية بعد العدوان الثلاثيني على العراق والذي شاركت فيه إيران بصورة معروفة مستغلة حالة التأزم في علاقات العراق مع محيطه العربي بسبب قضية الكويت، وكما هو معروف فقد انطلق العدوان على العراق من أراض عربية، ولهذا فمن حق المراقب أن يستنتج بأن ما جمع إيران مع العرب، ليس نية إيران للذهاب مع العرب إلى ما يريدون وإنما سحب العرب إلى ما تريده طهران منهم، والمشاركة في شيطنة النظام الوطني في العراق، من أجل إزاحته عن خارطة التأثير السياسي والعسكري والاقتصادي والعلمي في الوطن العربي، لأن إيران تعي جيدا أن وجود العراق القوي هو العقبة الوحيدة التي تمنعها من تحقيق أهدافها في نشر مشروع ولاية الفقيه على مستوى الوطن العربي ثم لتبدأ الصفحة اللاحقة، أي نشر هذه النظرية على مستوى العالم.
لقد ترافق ذلك مع مرحلة ضياع البوصلة العربية بسبب عدم وجود الدور القيادي العربي القادر على الدفاع عن مصالح الأمة الإستراتيجية بوجه كل الأخطار الخارجية وفي مقدمتها الخطر الإيراني، ويمكن الاستدلال على أن إيران مارست خديعة كبيرة مع العرب، أنها بعد أن أخرج الأمريكيون العراق من معادلة التوازن الإستراتيجي الإقليمي، فقد أسفرت عن وجهها القبيح، في أكثر من ساحة، فها هي اليوم تتحكم بالملف العراقي وتعبث بأمنه تحت علم حكومة المالكي التي أصبحت وكيلا محليا لدولة الولي الفقيه، وبعد أن أحكمت إيران سيطرتها على العراق، باشرت بتنفيذ الصفحة الثانية من مشروعها الدولي، بالقفز فوق حقائق التاريخ والجغرافية، فبدأت خطة إحكام السيطرة على سوريا ولبنان إما بصورة مباشرة عن طريق قواتها من المعروفة بقوة القدس، أو عن طريق المليشيات التي تأسست كفكرة إيرانية وبأموال ودعم مالي وتسليحي من إيران، مثل حزب الله اللبناني والمليشيات العراقية الطائفية.
فهل يتوقع العرب الذين احتفلوا بفوز روحاني أن يقدم لهم أكثر مما قدم غيره، وهل يتجاهل العرب المعروفون بالفراسة أن علي خامنئي على استعداد أن يتنازل عن شيء من سلطاته وصلاحياته من أجل إرضاء العرب؟ هل يوجد بلد في العالم يمكن أن يتنازل عما يعتبره حقا وإنجازا تحقق له ولن تتكرر الفرصة أمامه لاستعادته إذا تنازل عنه؟
إن من جاء بروحاني رئيسا للجمهورية في إيران، هو المصلحة الإيرانية بالخروج من عنق الزجاجة والعزلة الخانقة التي فرضتها السياسات المجنونة التي تم حسابها على محمود أحمدي نجاد، وهي ليست أكثر من أفكار شريرة كان يمليها علي خامنئي على ذلك الطفل المدلل.
بعد أن شخص علي خامنئي بنفسه هذه الحقيقة وبعد أن وجد أن إيران محكومة بعزلة أشد، لأنه أيقن أن سياسة المواجهة مع الغرب وخاصة في برنامجها النووي لم تعد مجدية، خاصة وأن العقوبات الاقتصادية أجهزت على قدرة إيران على مواصلة التحدي، كما أن انهيار العملة الإيرانية والتضييق على صادرات النفط، لا يمكن تخطيها عبر رئيس محافظ متطرف يكرر خطاب الولي الفقيه ويستنسخه، وأن إيران بحاجة إلى رئيس يملك القدرة على مخاطبة العالم بلغة جديدة تسترضيه من دون أن تقدم له شيئا ملموسا أو أي تنازل على أي من الملفات التي هي صلاحيات حصرية بيد الولي الفقيه نفسه.
إن من يغفل أن السياسة الخارجية الإيرانية وخاصة الملف النووي، وملف ما يطلق عليه الإيرانيون حركات التحرر أي المنظمات الإرهابية التي تحصل على دعم إيراني منتظم، هي قضايا محصورة بيد خامنئي، يرتكب خطيئة كبيرة لأنه سيورط نفسه وبلده بآمال غير قابلة للتطبيق تحت أي ظرف، فإيران تعتبر نفسها في أوج قوة اندفاعتها خارج حدودها الجغرافية وخاصة بعد تحقيق إنجازاتها المعروفة في العراق وسوريا ولبنان، ولهذا فسوف تشغل العالم عقدا من الزمن بين تساؤلات ساذجة عن خطوة إلى الأمام وثلاث خطوات إلى الوراء، وسوف تتبارى مجموعة 5+1 في إعطاء آمال عريضة عن تقدم على طريق حل الملف النووي الإيراني، فيعيش العالم تحت هذا الخدر حتى يوقظه هول تفجير القنبلة النووية الإيرانية الأولى.
هل سيتحقق شيء على طريق امتلاك السلاح النووي ومن أقدر على تضليل الآخر؟
إن عقلية صناعة السجاد الإيرانية استطاعت أن تتسلل إلى أكثر الحلقات القريبة من صنع القرار في إيران وتفرض منهاجها على رجال الدين والسياسة وتجارهما، وبالتالي فالزمن محسوم أنه لصالح إيران، وقد يستيقظ العراب يوما أمام قفزة إيرانية على بقعة عربية أخرى ولكن هذه المرة على حساب دول مجلس التعاون الخليجي، حينها ستثير غضبا لمدة أسبوع أو شهر أو عام، ولكن العرب الذين ينسون من يلحق بهم الكوارث على استعداد للتعامل مع ما حل بهم منها على أساس الأمر الواقع، ولنا في تاريخنا المعاصر عشرات الأدلة، ولهذا فإن من استبشر بفوز روحاني وراهن على أنه يحمل بشارة التطبيع مع العرب، فعليه أن يتوقع أن إيران تريد تكريس مكاسبها القديمة لأنها أصبحت جزء من الماضي، وأن فتح ملفاتها يمكن أن يكون عائقا بوجه تحسين العلاقات، فالمستقبل كما ستزعم هو الأولى بالاهتمام، وهكذا هي دورة السياسات الإيرانية والعربية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق