ملاحظة أولية من الناشر:
القصد من نشر هذه المقالة، برغم رفضنا لمعظم الأفكار الواردة فيها، إطلاع القراء الكرام على بعض من الافكار المعادية، الأفكار التي ترسم، من حولنا، سياسات وخططا استراتيجية تنقلب وبالاً علينا، فيما يغرق العرب والمسلمين بتفاهات لا مثيل لها في التاريخ، عرب آيدول، مثلاً..
وجهات نظر
عمانويل سيفان *
بينما نغرق في جدال نظري في مسألة اذا كانت توجد قومية يهودية، تجري عملية هامة في واقع الشرق الاوسط: الدولة القومية العربية، التي كانت الاساس للنظام العربي منذ 1970، بدأت تتشقق. وتكاد تختفي في ستة بلدان، والعملية لا تزال مستمرة.
في الاعوام 1945 – 1970 كان الميل السائد هو الوحدة العربية. بدايتها في تأسيس الجامعة العربية، وبعد ذلك انتهجتها مصر في عهد ناصر وسوريا والعراق البعث. ميل الوحدة تلقى ضربة شديدة مع تفكك الوحدة المصرية – السورية، التدخل المصري في اليمن، وبالاساس مع الهزيمة العربية في حرب الايام الستة.
وفاة ناصر ترمز الى الافول النهائي للوحدة العربية عن مسرح التاريخ. ومحلها حل، بمفاهيم الشرعية والعملية على حد سواء، الدولة القومية. ويدور الحديث عن دولة اقليمية، حدودها قررتها الامبريالية البريطانية، الفرنسية والايطالية – تلك الحدود التي شككت بها نزعة الوحدة العربية. وبدأت الدولة الاقليمية الجديدة تطور وعيا ماضيا مشتركا لابنائها، وعيا ثقافيا خاصة وأهدافا جماعية – من الحجارة الاساس للدولة القومية الشرقية. في مصر في عهد أنور السادات، في سوريا في عهد حافظ الاسد، في عراق صدام حسين وفي ليبيا معمر القذافي بلغت العملية النضج. الحدود الاستعمارية أصبحت شرعية، مثلما حصل في افريقيا ايضا.
ولكن هذا النموذج، ابن 40 سنة آخذ في الانهيار، ضمن امور اخرى كنتيجة غير مرتقبة لـ «الربيع العربي». والعملية تبرز بشكل خاص في سوريا. نظام بشار الاسد يسيطر اليوم عمليا فقط على نحو نصف الاراضي ويخوض حرب ابادة ضد اولئك الذين يمسكون بالنصف الثاني.
ولكن هذه تتكون من ستة أو سبعة جيوب سنية وجيب كردي وجيب درزي. «الجيش السوري الحر» الذي يفترض أن يوحد الجيوب، ليس سوى وهم؛ «الائتلاف الوطني» الذي يتخذ من اسطنبول مقرا له ويدعي الحديث باسم هذه الجيوب، ليس له اي تأثير على ما يجري على الارض.
بعد أكثر من سنتين من اندلاع الثورة ضد الحكم المركزي وبعد تسعين الف قتيل، لا تبدو نهاية للحرب. «الاسد سيسقط في غضون بضعة أسابيع»، أعلن ايهود باراك في اذار 2011، ولكن الاسد لا يزال حيا ويذبح رعاياه. ومثلما تفيد التجربة التاريخية، فان الحروب الاهلية - في الولايات المتحدة، في اسبانيا، في الكونغو وفي يوغسلافيا – تميل لان تكون طويلة ووحشية على نحو خاص.
بعد أكثر من سنتين من اندلاع الثورة ضد الحكم المركزي وبعد تسعين الف قتيل، لا تبدو نهاية للحرب. «الاسد سيسقط في غضون بضعة أسابيع»، أعلن ايهود باراك في اذار 2011، ولكن الاسد لا يزال حيا ويذبح رعاياه. ومثلما تفيد التجربة التاريخية، فان الحروب الاهلية - في الولايات المتحدة، في اسبانيا، في الكونغو وفي يوغسلافيا – تميل لان تكون طويلة ووحشية على نحو خاص.
في العراق بدأت عملية التفتت بعد سقوط صدام ونالت الزخم مع الانسحاب الامريكي. فالدولة تنقسم عمليا الى ذات المقاطعات الاقليمية العثمانية الثلاثة، التي وحدها البريطانيون بشكل مصطنع في نهاية الحرب العالمية الاولى. فالشمال الكردي هو عمليا اقليم حكم ذاتي، ويتمتع بذخائر نفطية ورعاية تركية، الجنوب الشيعي، هو كل ما تسيطر عليه حكومة نوري المالكي بشكل مباشر، اما المنطقة المركزية، السنية في معظمها، من بغداد حتى الموصل، فقد أصبحت فريسة لحرب عصابات وحشية تديرها ميليشيات سنية تسعى الى الابقاء على بعض من الهيمنة التي تمتعت بها هذه الطائفة منذ قام العراق المستقل. تقاتلها قوات الحكم المركزي، التي تتحكم بها الاغلبية الشيعية في الدولة.
عملية مشابهة تجري في ليبيا. ثلاث مقاطعات وحدها الحكام الاستعماريون الايطاليون تبدأ بالانفصال. كرينايكا، حيث اندلعت الانتفاضة ضد القذافي، أعلنت عن نفسها قبل أكثر من شهر اقليم حكم ذاتي. اما طرابلس، حيث يستقر الحكم المركزي بعد سقوط القذافي، وكذا في اقليم بازان، تعربد ميليشيات قبلية في الغالب، ولكل واحدة منها يوحد احتكار على العنف في ارضها الصغيرة. الاحتكار، حسب التعريف المعروف لماكس فابر، هو هو الميزة للسيادة.
وماذا عن لبنان، الذي كان وجوده كدولة قومية هزيل دوما، منذ فصل عن سوريا الكبرى (او الشام العثمانية)؟ في هذه الدولة، التي اوجدها الحكم الفرنسي بضغط المسيحيين المارونيين، بدأ التفتت منذ الثمانينيات، عندما انتقل الجنوب الى حزب الله. وعلى كل ما تبقى تخيم مظلة حكم مركزي واهن، منذ نهاية الحرب الاهلية قبل 23 سنة. اما الان، عندما بدأت الحرب الاهلية السورية تنتقل الى شمال لبنان، في شكل اضطرابات طائفية بين طرابلس وبعليك، فان هذه المظلة ايضا تبدو مثقبة، ولا سيما منذ تدخل عصابات حزب الله الى جانب قوات الاسد.
اليمن والصومال كفا عن ان يكونا دولتين تؤديان مهامهما، وهما تصنفان من قبل الامم المتحدة «دولا فاشلة». عاصمتاهما لا تزالان في ايدي الحكام الرسميين، ولكن ميليشيات متنوعة ايديولوجيا تسيطر في أراضيهما. كل واحدة من الميليشيات، مثلما في العراق المركزي، تجبي الضرائب، تجند الجنود، تقيم المحاكم وتدير الاقتصاد المحلي. بتعبير آخر، هي سيادية.
وللمفارقة، فانه بالذات في الدولتين اللتين اندلع فيهما الربيع العربي وأدى الى تغيير النظام بالطرق السلمية، تسيطر ليس فقط نظريا بل وعمليا في كل اراضيها تقريبا. كل هذا، ضمن امور اخرى بسبب الانسجام الديني والعرقي فيهما. ومع ذلك، في كلتيهما ايضا توجد مناطق فوضوية – شبه جزيرة سيناء وجنوب تونس – ويوجد فيهما هياج داخلي ضد النظام، ولكن وحدتهما الاقليمية وسيادتهما ليستا في خطر.
نظام جديد، نظام فوضى في ميل مركزي، يتشكل في الشرق الاوسط. ويطرح الامر تحديا غير بسيط لاسرائيل. رأينا هذا في بداية حزيران، في اليوم الذي سيطرت فيه قوات الثوار على القنيطرة. لو لم يطردها الجيش النظامي، ولو كانت اقامت هناك فرعا لجيش الثوار – لعدنا الى الوضع الاشكالي الذي كان قائما على الحدود اللبنانية في منتصف السبعينيات بيننا وبين «فتح». ما العمل بجيوب اخرى على حدود الجولان؟ وماذا، لا سمح الله، اذا ما ظهرت جيوب كهذه على الحدود مع الاردن؟
ورغم ذلك، فمن شدة الانشغال بمفاجأة 1973 يميل الناس الى النسيان، بأن حرب الايام الستة هي الاخرى جاءت علينا مفاجأة. فهل توقعتها شعبة الاستخبارات العسكرية؟ سبقها عدم اكتراث ما على مدى نحو 5 – 6 سنوات، والتفكير بان الوضع الراهن سيستمر بالضرورة: سوريا كانت تحديا احيانا، ولكن بشكل عام «الحرب الباردة العربية»، كتعبير ناجح صدر عن مالكولم كار، التي سادت منذ تفكيك الوحدة المصرية – السورية، والتدخل العسكري المصري في اليمن ادت الى عدم اكتراث في السياسة الاسرائيلية.
المفاجأة، التي تتشكل من انتفاضة ثالثة في المناطق وأعمال عدائية على الحدود اللبنانية والسورية من قبل جيوب الحكم الذاتي (ربما السلفي) – هي ايضا مثابة امكانية يجب اخذها بالحسبان. طوبى للانسان الخائف دوما.
* بروفيسور مستشرق، أستاذ التاريخ الاسلامي في الجامعة العبرية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق