مصطفى يوسف اللداوياليوم يتم أخي الشهيد فؤاد عامه العاشر بين الشهداء، عاماً بعد آخر أذكره، وأكتب عنه ولا أنساه، أترقب ذكرى استشهاده، وأتذكر الأيام المعدودة التي جمعتني به صغيراً، فقد حرمني الاحتلالُ بإبعادي عن أرض الوطن من رؤيته كثيراً، أو العيش معه طويلاً، ولكن أخباره كانت تصلني، وحكايا بطولته كانت تجتاز الحدود وتطرق مسامعي، يرويها لي رفاقه، وتنقلها لي أمه، ويسردها علي مراراً اخوته وأخواته، فهو لي شرفٌ ومفخرة، وعنوانٌ للعزةِ والكرامة، أعتز بشهادته، وأفخر بعطائه، وأرفع الرأس عالياً أن منا شهيدٌ مقاتل، بل منا شهيدٌ يشفع، ورجلٌ مقرب، هو مع الصفوة المختارة، مع النبي الأكرم، وصحابته الأطهار، والشهداء الأبرار، قد سبقنا إلى الجنة، مطمئناً إلى داره، واثقاً من صحبه.
سنواتٌ عشرٌ أخي فؤاد قد مرت، حوادثٌ كثيرة فيها قد وقعت، وأشياءٌ كبيرة وغريبة قد جرت، فقد ودعت الدنيا يوم أن كانت حركتك تعاني، وإخوانك يقاسون العذاب، ويلقون في غياهب السجون الويلات، ويجدون من اخوانهم كل سوءٍ وشر، وقد غصت بهم السجون والزنازين، وتفنن في تعذيبهم الحراسُ والضباطُ، ومن كان صديقاً وجاراً، وزميلاً وشريكاً، ولم يشفع لهم صدقُهم ولا سابقُ جهادهم، ولم ينتصر لهم شهمٌ ولا نبيل، ولم يخفف عنهم كثرةُ معتقليهم في السجون الإسرائيلية، ولا ثباتُ رجالهم وقادتهم في المعتقلات الصهيونية، بل تعاظمت محنتهم، وازداد عذابهم، وتعمق جرحهم، وذابت من هول العذاب في السجون جسومهم، ولكنهم بقوا على الحق ثابتين، وأمام السجان والجلاد صامدين، وإن كانوا من فعله وجرمه المهين مستغربين ومستنكرين.
لكنك والذين كانوا معك من المقاومين والمقاتلين، قد يممتم وجوهكم صوب العدو، وعرفتم أنه الهدف، وأنه هو العدو لا غيره، وأنكم بقتالكم له تصوبون كل بوصلة، وتعدلون كل وجهة، فكان لمقاومتكم صدىً، ولجهادكم أثر، ولعملياتكم وجعٌ وألم، وأصبح لصواريخكم مدىً، ولقذائفكم جدوى، أوجعت العدو وأرهقته، ونالت من مدنه ومستوطناته، وأجبرت مواطنيه على أن يهجروا البيوت والمنازل، ويغيبوا عن الجامعات والمدارس، ويتخلوا عن المعامل والمصانع، ويسكنوا جميعاً الملاجئ والحصون، ليتقوا صورايخكم، ولينجوا بأنفسهم من موتٍ قد تحمله قذائفكم.
تعلمنا منكم ومن بعدكم أخي الشهيد فؤاد أن القوة هي في السلاح، وأن كرامة الوطن وعزة الشعب هي في امتلاكه للقوة، وفي حيازته لما يخيف ويرعب، ولما يرهب ويخوف، فلا عزةَ لشعبٍ ضعيف، ولا كرامةَ لأمةٍ فقدت استقلالها، ولا رهبةً لمن تقلمت أظافره، أو نُزِعَت أنيابُه، ولا لمن ضُرب على ناصيته وسكت، أو صُفع على خده ورضي، إنما الهيبة للبندقية على الكتف، وللصاروخ المنطلق من منصته، وللعبوة التي تذيب تحصينات الدبابة، وللطفل الذي يتربى على معاني المقاومة، ويتطلع إلى أيام النصر، إنها في إرادةٍ لا تعرف الإنكسار، وشجاعةٍ لا تعرف الخوف، ويقينٍ لا يتسرب إليه اليأس.
بارك الله لنا أخي فؤاد في مقاومتنا، وحفظ بدماء شهدائنا أهلنا وشعبنا، وأعزنا بالقوة بعد ضعف، وقد مكن الله لحركتك، ومَنَّ عليها بالنصر مرتين، وبالثبات والصمود على المدى، وأحسن إليها إذ أخرج رجالها من السجون، وجاء بهم من الفيافي واللجوء، وقد كان كثيرٌ منهم مطاردٌ ومطلوب، وعوضها برجالٍ أشداء عن قادةٍ شهداء، ومقاومين أجلاء، صنعوا انتصاراتٍ عظيمة، وجعلوا من فلسطين بصمودها قبلة، وبانتصارها معجزة، وقد أقسموا أن يبقوا على العهد، محافظين على الوعد، جادين على الدرب، مهما اشتدت الخطوبُ والمحن، وعظمت الخسائر والفتن.
أسمعك أخي الشهيد ومن معك من الشهداء، وأنتم تسدون النصح إلى الحركة ورجالها، وأنتم تنصحون شعبكم وأهلكم، فتدعون المسؤولين إلى الصدق، والقادة إلى الإخلاص، والحكومة إلى العمل، والقائمين على الأمر إلى التواضع، والممسكين بخزائن المال إلى الزهد والورع، والصدق مع الله ومع الشعب.
أراكم تحضون مَنْ تولى أمرنا إلى الإحسان لأهلنا، والرفق بشعبنا، والعدل بين الناس، والرحمة بين العباد، فلا تسبق عصاكم الرحمة، ولا عقوبتكم المغفرة، ولا تتسع سجونكم وتضيق بيوتهم، ولا تعمر منازلكم وتهدم دورهم، ولا تنار طرقكم وتظلم مسالكهم، ولا تنعم ثيابكم وتخشن ملابسهم، ولا يتعلم أولادكم ويُجَّهَلُ صغارُهم، ولا تكونوا جلادين تلهبون بسياطكم ظهور شعبكم، جوعاً وفقراً وبطالةً وألماً وظلمةً وحرقةً وحصاراً واختلافاً وضياعاً وجوراً وظلماً وحرماناً وعوزاً.
سنواتٌ عشر قد مرت على شهادتك أخي فؤاد، وكأني أراك اليوم في ذكراك تطل من عليائك إلى الأرض وقد تبدلت، وإلى وأمتك وقد تغيرت، وإلى وطنك وقد اعتراه السوء، ولحق به السأم، وأصابه السقم، فقد كثر يا أخي القتل في بلادنا، وسفحت دماؤنا، وهانت نفوسنا على بعضنا، فقتلنا أنفسنا، وشردنا بعضنا، وأهدرنا قدراتنا، وأضعفنا مقاومتنا، وسمحنا للعدو أن يعبث فينا، وللغريب أن يدخل بيننا، ويفسد علاقاتنا، فقد أصبحنا يا أخي أضحوكةً بين الأمم، ومثاراً للسخرية لدى الأعداء من الدول، يرقبون اقتتالنا، ويشهدون احترابنا، فيزودوننا بكلِ سلاحٍ يصلح لانتحارنا، أو قتل بعضنا، أو تشريد أهلنا، أو التمثيل بأطفالنا، وذبح نسائنا، وكل جديدٍ قاتل، مما يزيد في عمر الفوضى والاضطراب، ويؤخر الوفاق والاتفاق، ويبقي على الجروح مفتوحة، والدماء نازفة.
عذراً أخي الشهيد، فقد سمحت للساني أن ينهدلَ بكلامٍ قد لا يروق، وأفسحت المجال لقلمي يسكب مداده بلا حدود، ونصبت من نفسي ناطقاً باسم أهلي، ومعبراً عن حال شعبي، وشاكياً أمر أمتي، ولكن عزائي أن شعبنا يزخر بالشهداء، ويتيه بالرجال الأبطال، فما من بيتٍ إلا وفيه شهيدٌ يزينه، وربما أكثر يميزه، فلست وحدي من أفشى إليكم السر، أو كشف لكم عن سوء الحال، فكل أبناء شعبي هم من الشهداء، وكل أهلي من الطلقاء البلغاء، الذين يحسنون العرض، ويبدعون في الوصف، إذ يسبقهم صدقهم، ويعبر ألمهم، وتنطق بالحق معاناتهم، فهل أصدقُ من باكٍ بألم، أو شاكٍ بظلم، سلام الله عليك أخي وعلى من معك من الشهداء أجمعين، سلام الله عليكم في الخالدين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق