وجهات نظر
مثنى عبدالله
لا توجد في العلاقات الدولية عطايا وهبات وتنازل عن اوراق ضغط، اكراما لعيني هذا الزعيم او ذاك. حتى الهبات والمعونات التي تسمى انسانية هي ليست كذلك، هي تمنح للحصول على موطئ قدم او لتعزيزها في هذا البلد او ذاك.
هذا هو القانون الذي يحكم العلاقات الدولية والاقليمية. وقد اصبح من الشائع التفاؤل بالتغيير السياسي الذي يحصل في هذه الدولة او تلك، خاصة عندما تكون علاقاتها في المحيط تتسم بالعدائية والتاثير السلبي والتأزيم الدائم. وقد يصل الافراط في التفاؤل حد التبشير بان الزعامة السياسية الجديدة ستكون طوع امرنا وتحقق جميع مطالبنا حتى قبل ان نطالبها نحن.
ان هذا التصور هو نوع من التفكير الخيالي الذي يعكس حالة الهوان، وفقدان القدرة على استخدام القوى الذاتية في الضغط المشروع على الاخرين، لتحقيق مشاريعنا القومية والوطنية. ولقد عانينا طويلا، نحن العرب، من الوقوف على التل منتظرين بأمل ممل ان ترعوي ايران وتكف عن التدخل السلبي بشؤوننا، والا تبني مجدها وجبروتها الاقليمي على حسابنا، وان توقف اذرعها العلنية والسرية من العبث بنسيج مجتمعاتنا، لكن التغول الايراني كان يزداد تغلغلا عموديا وافقيا، نتيجة خواء جعبتنا من المصدات الاستراتيجية التي تصون مجتمعاتنا، وهذا الفعل ليس مقتصرا على السياسة الايرانية، بل هي سياسة عامة تنتهجها كل الدول التي تجد جوارها يعانون من منخفظات سياسية واقتصادية وامنية وثقافية واجتماعية، فتسعى لمد حدود امنها القومي على حساب من لا حسابات لديهم في هذا الجانب. واذا كانت الامنيات مشروعة بزوال نظام سياسي او زعيم جنينا منه الضر، فهي طامة كبرى عندما نضع هذه الامنيات في استراتيجيتنا كأسس نبني عليها، فينطلق كتابنا ومثقفونا كي يكــيلوا المديح والثناء على القادم الجديد، وكأنه من صنع ايدينا.
حصل هذا حين تم انتخاب اوباما وهلل البعض منا عندما افتتح خطابه في القاهرة بكلمة السلام عليكم، فخررنا صرعى من هول المفاجأة، وخدعنا انفسنا بانه مسلم حتى سميناه بركة حسين ‘ابو عمامة’ وليس اوباما، ثم رأينا حاصل جمعنا من ولايتيه مزيدا من التغول الصهيوني بدعم منه ومن ادارته. واليوم يتكرر معنا نفس المشهد في الانتخابات الايرانية، فهللنا وصفقنا لروحاني قبل ان يفرح به شعبه الذي انتخبه، ورحنا نعلق الامال ونرسم الاحلام ونصفه بانه صديقنا القديم، فقط لانه وقع اتفاقية امنية يتيمة مع المملكة العربية السعودية في سابق السنين، ونسينا انه روحانيهم وليس روحانينا، وان الرجل تحكمه مصالح بلده وليس مصالحنا السائبة، التي شجعت ايران وغيرها على قضم حقوقنا وتهديد مصالحنا.
ان الحقيقة الاساسية التي تحكم المشهد السياسي الايراني هي عدم وجود حدود فاصلة بين الاصلاحيين والمحافظين، اي لا توجد هنالك تخوم سياسية صارخة تميز هذا التيار عن ذاك، كما يتصورها البعض. نعم توجد بعض الاختلافات البسيطة في الرؤى حول صلاحيات المرشد الاعلى وصلاحيات الرئاسة، واعتدال الخطاب السياسي مع الغرب او تشدده، لكنها لا تصل حد القطيعة او تناقض الالوان، فالكل مجمع على ضرورة ظهور ايران قوة اقليمية باعتراف دولي، لها القول الفصل في شؤون المنطقة الدينية والدنيوية، حتى لو كان تدخلا في الشؤون الداخلية، وقد جربت المنطقة السياسة الايرانية في عهد الاصلاحيين والمحافظين، لكنها كانت الى حد بعيد نسخة واحدة. صحيح ان الاصلاحيين كانوا اصحاب حركة دبلوماسية ودودة واضحة في المحيط الدولي والاقليمي، لكنها كانت عديمة النتائج، والسبب الاساسي في ذلك ان موردهم السياسي واحد وهو المرشد الاعلى، اضافة الى طبيعة ازدواجية السلطة التي تميز الحكم في ايران.
فاجهزة السلطة الدينية تتمثل في مجلس الخبراء ومجلس صيانة الدستور ومجلس تشخيص مصلحة النظام، وهذه كلها في قبضة الولي الفقيه، اما اجهزة الدولة المدنية فتشمل مؤسستي الرئاسة والبرلمان، وان الكفة الراجحة هي للطرف الاول على حساب الثاني. حتى الترشيحات لخوض الانتخابات الرئاسية تخضع لعملية اختيار مسبق من قبل النخبة الدينية، باعتبارها هي النخبة السياسية التي لها الحق في تحديد الخط العام للدولة والمجتمع، لذلك لم يكن ترشيح روحاني وفوزه بعيدا عن حسابات مجلس تشخيص مصلحة النظام، بل كان ابعاد رفسنجاني ومشائي اللذين يمثلان بصورة واضحة الاصلاحيين والمحافظين من السباق الرئاسي، لتعبيد الطريق امام روحاني للفوز، لانه ليس تعبيرا واضحا عن الاصلاحيين، وبالتالي لن يخيف المؤسسة الدينية. فهو محسوب على المحافظين لكنه الاقرب الى الاصلاحيين، وان ترشيحه للرئاسة جاء بهدف ضمان تصويت الاصلاحيين والمحافظين واتباعهم اليه، لان فوز رفسنجاني او مشائي كان سيعني خلق حالة استقطاب داخلي يؤدي الى انقسام مجتمعي وربما ثورة خضراء، وهو ما يحذر منه الولي الفقيه كثيرا في الوقت الحاضر، ولا يريد اي شكل من اشكال الثورات البرتقالية والخضراء، وما يسمى الربيع السياسي الذي يضرب المنطقة، فهو يرى تهديد الربيع السوري الذي يهز حليفه في دمشق، ولا يريد ان يقع ذلك في عرينه ايضا، بل انه يسعى جاهدا الى تحويل هذه الثورات او الانتفاضات الشعبية كأداة لمشروعه الى داخل المجتمعات الخليجية، في ظل المواجهة الطائفية التي تخيم غيومها على المنطقة، لصنع حالة اضطراب داخل التحالف الامريكي الخليجي، يكسب بها اوراق ضغط اخرى. ان التاريخ السياسي لروحاني يشير الى ان الرجل ولد وتربى في احضان النظام السياسي والروحي الايراني، وقد تقلد مناصب مهمة جدا طوال الفترة الماضية تؤكد حالة الثقة المطلقة به، لذلك سيبقى وهو في المنصب الجديد حريصا على استتباب هذه الحالة، بما لا تحرمه من هامش حركة خاصة به، كي يميز نفسه عن سلفه نجاد. قد نجد منه تصريحات مغايرة او رسائل طمأنة لاطراف دولية واقليمية وتقديم خطوة وتراجع خطوتين، لكنه سيبقى حريصا على استمرار السياسة الايرانية الاستراتيجية المتمثلة بالامساك قويا بالعراق كجسر عبور للمشروع الطائفي السياسي الى المنطقة. وسوف يؤيد اي توتير في المنطقة تبعا لموقف الولايات المتحدة من ايران، ولن يتهاون في الملف السوري لانه يعلم جيدا ان التراجع فيه يعني استثماره من قبل الاخرين بالضد من ايران، وسيبقى الموقف من اقطار الخليج متذبذبا كالعادة، لكنه قد يسعى لترطيب الاجواء مع العربية السعودية نظريا وليس عمليا، لان اجواء المنطقة لا تسمح بالذهاب الى ابعد من ذلك.
اما الموقف من حزب الله وما يماثله من ميليشيات طائفية على الساحة العراقية، فهي قوى عارية تساعده في تحقيق سياسة القوة الناعمة التي سوف يستخدمها للتعامل مع المنطقة، وهي خارج سيطرته لان قرارها بيد المرشد. ان اي رئيس ايراني بمن فيهم روحاني يعلم جيدا حيز حركته، ويعرف حق النقض الذي منحه الدستور للمرشد الاعلى، والدور السياسي المركزي الذي يمارسه الحرس الثوري، وان المتشددين من المحافظين هم من يسيطر على البرلمان، وهذه كلها محددات وقوى طاردة لارادته في التغيير، لذلك لابد من الانصياع الى جميع هؤلاء كي يمرر مشاريعه كي لا يفشل كسابقيه.
ملاحظة
نشر المقال هنا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق