فهمي هويدي
ليس كل اعتصام أو جلبة في الميدان ربيعا، تماما كما أنه ليس كل أصفر يلمع ذهبا. فثمة ربيع يستهدف تغيير النظام كله، وآخر لا يذهب إلى أبعد من المطالبة بإصلاح النظام دون تغييره، وثالث لا يسكت على بعض ممارسات النظام وإنما يسارع إلى انتقادها وإعلان رفضها.
وهو ما يسوغ لنا أن نقول بأن الربيع مصطلح فضفاض له مراتب وتجليات عدة، يجمع بينها كسر حاجز الاستسلام والصمت والانتقال إلى طور الرغبة في التغيير إلى الأفضل.
وإذا صح ذلك التعريف وحاولنا تنزيله على الحالة التركية التي نحن بصددها فسندرك أننا بصدد مشهد قد يقترب من ربيع الدرجة الثالثة، فلا هو دعوة إلى تغيير النظام
ولا هو مطالبة بإصلاح سياساته في مختلف المجالات، ولكنه بدأ احتجاجا على بعض الممارسات مما هو مقبول ومتعارف عليه في الدول الديمقراطية وانتهى شيئا آخر مختلفا تماما.
قلت أمس إن الساحة التركية تحفل بالتمايزات وتتعدد فيها مظاهر الاحتقان التي ترجع إلى أسباب سياسية وفكرية وعرقية ومذهبية،
قلت أيضا إن أحزاب الأقلية فشلت في تحدي حزب العدالة والتنمية في الانتخابات، فاتجهت إلى الشارع لكي توظفه في المشاغبة والمناكفة،
ولم أذكر شيئا عن إسهام المصالح الخارجية في تصعيد القلق وتوظيفه، لأنني لا أملك دليلا عليه، رغم أن أحدا لا يستطيع أن ينكره، فضلا عن أن ثمة قرائن عديدة تدل عليه، وحفاوة التصريحات الإسرائيلية بالمظاهرات التي سبق أن أشرت إليها نموذجا لذلك.
أمس أيضا أشرت إلى بعض العوامل التي أشاعت درجات من القلق في المجتمع التركي والطبقة السياسية، لكن القلق تحول إلى غضب واحتجاج من جانب النشطاء حين أقدمت حكومة حزب العدالة والتنمية على خطوتين محددتين، هما:
< مشروع حظر بيع الخمور بعد الساعة العاشرة مساء، وتقييد الدعاية للخمور، مع الاستمرار في إنتاجها، واشتراط ابتعاد محلات البيع بمسافة مائة متر عن دور العبادة ومدارس الأطفال.
< مشروع تطوير ساحة «تقسيم» في إسطنبول من خلال إعادة بناء ثكنة عسكرية عثمانية كانت قد أنشئت في عام 1780 وهدمت 1940، ضمن إجراءات طمس معالم المرحلة العثمانية.
وشاع في أوساط المهتمين بالبيئة أن ذلك من شأنه تقليل المساحة الخضراء في ميدان تقسيم، وأن المبنى الجديد سيكون سوقا كبيرة (مول) تسهم في اختناق المنطقة.
موضوع تقييد بيع الخمور مر كمشروع قانون من البرلمان (لم يوقعه الرئيس جول)
وقد رد ممثلو الحكومة على المعترضين عليه بأن هذه القيود مفروضة في بعض الدول الأوروبية الديمقراطية، كما أنها تتوافق مع إرشادات منظمة الصحة العالمية.
إلا أن ذلك لم يقنع بعض المتظاهرين الذين خرجوا ملوحين بزجاجات وكؤوس الخمر ويهتفون" في صحتك يا طيب" ــ في حين هتف آخرون «كلنا جنود مصطفى كمال» (يقصدون مصطفى كمال أتاتورك مؤسس الجمهورية الذي يعرف الجميع أنه كان مدمنا على الخمر).
أما موضوع تطوير ساحة تقسيم فإنه كان قرارا أصدره مجلس بلدية إسطنبول قبل عدة أشهر، كما أن حزب العدالة والتنمية أعلن عنه خلال الانتخابات التي جرت في عام 2011.
وقد دعا رئيس بلدية إسطنبول قادر طوب باش يوم أول يونيو إلى عقد اجتماع لمناقشة الموضوع مع ممثلي منتدى تقسيم وغرفة المهندسين المعماريين، ولكن ضغوط المتظاهرين وانفعالاتهم حالت دون عقد الاجتماع.
الشاهد أن التظاهرات بدأت من جانب أناس عاديين أرادوا الاحتجاج على قانون تقييد بيع الخمور ومعهم آخرون معنيون بموضوع البيئة طالبوا بوقف مشروع تطوير ميدان تقسيم، وهؤلاء وهؤلاء ينتمون إلى مختلف شرائح المجتمع غير المسيسة بالضرورة، لكن المجموعات الراديكالية قفزت إلى المشهد، ممثلة في عناصر الحزب الشيوعي التركي والمنظمة الشعبية الثورية التي اتهمت بتفجير السفارة الأمريكية في أول فبراير الماضي، ومعهم آخرون من المتطرفين العلمانيين والقوميين الذين حولوا الاحتجاج الجماهيري إلى معارضة أيديولوجية وسياسية.
واستخدموا العنف في مواجهة الشرطة، التي أخذ عليها أنها أفرطت بدورها في التعامل بعنف مع المتظاهرين، وهو ما أسهم في رفع منسوب الغضب وتوسيع نطاقه.
كما أخذ على أردوغان أنه استخدم مفردات خشنة حين وصف المتظاهرين بأنهم لصوص وغوغاء، وقيل بعد ذلك إنه كان يقصد المتطرفين الذين استخدموا العنف وكانوا في مقدمة مؤيدي الانقلابات العسكرية ودعاة قمع الأكراد والمروجين للقومية التركية المتعالية.
إن المرء حين يدقق في التفاصيل جيدا يكتشف أن ما حدث في تركيا صخب داخلي ليست له علاقة بأي ربيع، حتى إذا كان من الدرجة الثالثة.
ملاحظة
نشر المقال هنا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق