وجهات نظر
هيفاء زنكنة
إسطوانة قديمة تقوم الحكومتان الامريكية والبريطانية، ومن معهما، حاليا، ببيعها لنا وللعالم، باعتبارها تحمل أنغاما جديدة. عنوان الاسطوانة هو "البحث عن المعتدلين". وبينما تركز تصريحات المسؤولين الامريكيين والبريطانيين على البحث عن المعتدلين في سورية، خاصة، الا انهم لايتوانون عن الاشارة الى ان البحث عن ضالتهم يجب ان يتم في عموم البلاد العربية والاسلامية. الأمر الذي يسهل عليهم وضع مفاهيمهم عن الارهاب والاسلام والحركات الاسلامية والتطرف الاسلامي والقاعدة في سلة واحدة وبيعها الى العالم بالجملة. حيث يتم عرض محتويات هذه السلة، للرأي العام اعلاميا، على مدى 24 ساعة يوميا. فيتقبلها المتلقي، في غرف الجلوس، كما هي، غالبا، بلا تمحيص او تدقيق.
تركز امريكا وبريطانيا على شعار "البحث عن المعتدلين" كبديل عن "الحرب على الارهاب" في ذات الوقت الذي افتتحت فيه حركة طالبان الافغانية مكتبا لها في قطر.
واعلنت امريكا، وهي تلملم معداتها للانسحاب مندحرة أمام المقاومة الأفغانية، استعدادها للتفاوض مع طالبان. وهل نحن بحاجة الى التذكير بان وجوب القضاء على حركة طالبان الاسلامية "الارهابية" كان هو السبب الرئيسي لغزو افغانستان واحتلالها على مدى 12 عاما؟
إنهم مضطرون، اليوم، للإعتراف بضرورة التفاوض مثلما فعل الإستعمار القديم والجديد مع الجيش الجمهوري الإيرلندي "الأرهابي"، والمؤتمر الوطني الأفريقي "الإرهابي"، وقبل ذلك بجبهات التحرير الوطني "الإرهابية" في الجزائر واليمن وكينيا، على إختلاف تشكيلاتها والغطاء الإعلامي الذي إتخذته وقتها وما إنتهت اليه في تسلم زمام الحكم في بلدانها.
في الوقت ذاته، تتواصل التفجيرات الإرهابية، والمجازر المرتكبة في ظل "حكومة منتخبة ديمقراطيا"، مدعومة امريكيا، في العراق، بلا مساءلة او عقاب، ولا حتى بالذكر في وسائل الإعلام الغربية. وقد تجاوز عدد ضحايا الغزو والاحتلال والتطهير الطائفي المليون وشرد واجبر على النزوح ما يقارب الاربعة ملايين مواطن داخل العراق وخارجه. وما زال العراقيون يعانون بعد عشر سنوات من الإحتلال ما لا يفرق كثيرا، ما يعانيه الأفغانيون والسوريون.
ودفعت المقاومة العراقية التي شيطنتها أمريكا كحركة ارهابية، طائفية، ثمنا غاليا من دماء ابنائها للتخلص من قوات الاحتلال. فعن اي اعتدال تتحدث امريكا وبريطانيا، اليوم، وما هي مواصفات الاعتدال والمعتدلين بالنسبة اليهما، وما هو موقعهم من "الارهاب"؟
فيما يخص سورية، طفت على السطح، منذ بضعة شهور، حملة بحث غربي دؤوب عن "معتدلين" يريد الغرب تزويدهم بالسلاح المضاد لأسلحة نظام بشار الأسد.
ففي الخطب والتصريحات الامريكية والبريطانية بات الهم الرئيسي، لدى كبار المسؤولين، هو "البحث عن المعتدلين". ويتم ذلك بعد فترة مديدة من رفض الغرب لكل الجهود التي بادرت بها العديد من الجهات السورية وغيرها العربية والأجنبية نحو الحوار الوطني السوري. فلم يكن "الإعتدال" مقبولا، حينئذ، لأسباب أصبحت واضحة. فالهدف الحقيقي ليس دعم المطالب الديمقراطية الطبيعية للناس، وإنما تدمير البدان العربية وتركيعها سواء عبر حكوماتها الفاسدة أو أجنحة من معارضاتها التي لا تقل فسادا، أوبتقسيماتها العرقية والمذهبية التي تسمح بالعديد من الخيارات أمام الهيمنة الغربية والإسرائيلية.
لكن النغمات تتغير تدريجيا، حسب مصالح الدول. ونغمة "الاعتدال" الديني والعرقي المطلوبة للتقبل الغربي، المتبناة أخيرا، ليست جديدة وان تركزت، في العقدين الاخيرين، على العرب والمسلمين خاصة. وهي نغمة تحمل في ثناياها فكرا راسخا بان ما هو موجود في عالمنا هو الارهابي المتطرف أما المعتدل فيقتضي البحث عنه جهدا ما بعده جهد.
في مقابلة مع الرئيس الامريكي اوباما (18 حزيران/يونيو)، اي بعد مرور عامين ونصف على الانتفاضة السورية ضد النظام الاستبدادي المتبرقع بالممانعة، تحدث اوباما عن "الاعتدال" قائلا بان لدى الولايات المتحدة اليوم "معلومات أفضل حول من هم الأعضاء المعتدلون من المعارضة" وانه لم يشأ تسليح المعارضة اولا لانه كان يخشى سقوط الاسلحة بـ"أيدي المتطرفين". ولا يخبرنا اوباما عن مواصفات "المعتدلين" او كيفية تشخيصهم وأن قدم لنا توصيفا للمتطرفين باعتبارهم من "اهل السنة" نافيا ان تتدخل امريكا استنادا الى "منظور الصراع بين السنة والشيعة … وهذا لا أعتقد أن يخدم المصالح الأمريكية". مما يخلص، بالضرورة، الى ان مايخدم المصالح الامريكية، هو "اعضاء المعارضة المعتدلين".
ولم يخبرنا أوباما عن جهاز التقطير الذي ستمرر به الادارة الامريكية نساء ورجال المعارضة السورية، لتتوصل الى استخلاص "المعتدلين"، وعملية التقطير تتحكم بها عوامل متعددة منها مثلا مواقف متناقضة فيما بينها لحكومات عربية داعمة للانتفاضة كالسعودية وقطر والإمارات إضافة لتركيا، وحتى مصر وتونس، ولكل منها أسبابه وتشنجاته مع النظام السوري، وتقديراتها عن المستقبل والصراع المذهبي، وتخوفاتها من إتفاقات إقليمية على حسابها، وتورطات في دعم أومعاداة هذه الفرقة أو تلك أو التماشي مع المواقف الأمريكية المتقلبة. وفي مقابل ذلك مواقف حكومات واحزاب داعمة لنظام الاسد كإيران وروسيا وحزب الله. وكيف تتوقع الأدارة الأمريكية العثور على معتدلين بمواصفاتها وهي تؤسس أجنحتها الخاصة بإسم "القاعدة" يوما، والصحوات يوما، وتساند حتى النفس الأخير الانظمة القاتلة لشعوبها حينا وتسقط الحكومات المنتخبة ديمقراطيا في يوم آخر؟ أم ان هذا هو بالضبط ما تهدف اليه (لن يتحقق بالضرورة والا لآمنا بان الشعوب مجرد قطعان ماشية) حين تقسم المعارضة وفق مواصفاتها. وهو ذات التصنيف الذي يستند اليه وزير الخارجية البريطاني ويليام هيغ حين يقول "نحن حاليا نرسل المعدات التي تنقذ الأرواح إلى تلك العناصر الأكثر اعتدالا، أكثر عقلانية من المعارضة. من الواضح، أننا لا نرسلها إلى الجماعات المتطرفة، إلى الجماعات التي يمكن أن تصبح تهديدا إرهابيا".
هناك تهويمات اعلامية تستخدمها الادارة الامريكية لتوحي بانها، كما فعلت في العراق، الحليف المنقذ الذي يجب اللجوء اليه لنيل الحرية وتحقيق الديمقراطية. وتوحي في حالة سورية، بانها الامل الذي يجب التشبث به لوضع حد لمجازر النظام المستمرة، بعد ان اختزلت الانتفاضة الجماهيرية، بآمالها وطموحاتها، وبعد طمس اسبابها القمعية الحقيقية، الى صور وفيديويات اعلامية وخطب وتصريحات تتمحور حول من الذي يدعم من، ومن الذي ارتكب مجازر اكثر وحشية من الآخر، وهل هناك سلاح كيمياوي او لا؟ مما يأخذنا الى العراق لنقول: كيف يمكننا ان ننسى كولن باول، وزير الخارجية الامريكي، متحدثا في الامم المتحدة عن اسلحة الدمار الشامل والتي بامكانها، حسب تصريح رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، الوصول الى بريطانيا خلال 45 دقيقة؟ وهل ننسى ما فعلته بنا قوات الغزو باسم التحرير وماخلفته ورائها من خراب وحكومات طائفية فاسدة؟
هناك تهويمات اعلامية تستخدمها الادارة الامريكية لتوحي بانها، كما فعلت في العراق، الحليف المنقذ الذي يجب اللجوء اليه لنيل الحرية وتحقيق الديمقراطية. وتوحي في حالة سورية، بانها الامل الذي يجب التشبث به لوضع حد لمجازر النظام المستمرة، بعد ان اختزلت الانتفاضة الجماهيرية، بآمالها وطموحاتها، وبعد طمس اسبابها القمعية الحقيقية، الى صور وفيديويات اعلامية وخطب وتصريحات تتمحور حول من الذي يدعم من، ومن الذي ارتكب مجازر اكثر وحشية من الآخر، وهل هناك سلاح كيمياوي او لا؟ مما يأخذنا الى العراق لنقول: كيف يمكننا ان ننسى كولن باول، وزير الخارجية الامريكي، متحدثا في الامم المتحدة عن اسلحة الدمار الشامل والتي بامكانها، حسب تصريح رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، الوصول الى بريطانيا خلال 45 دقيقة؟ وهل ننسى ما فعلته بنا قوات الغزو باسم التحرير وماخلفته ورائها من خراب وحكومات طائفية فاسدة؟
هل هناك من يعتقد بان امريكا تجاوزت، في مرحلة ما بعد الاندحار في افغانستان والعراق، طيش المراهقة لتنضج وتبدأ رحلة البحث عمن يلائمها من "المعتدلين"؟
خطاب المسؤولين يقول ذلك، ولكن الشعوب، بحكم تجربتها التاريخية، تعرف جيدا ان الخطاب شيء والتطبيق شيء آخر. وان مصلحة امريكا هي التي تحدد علاقتها ببقية الشعوب وليست مفردات الديمقراطية والحرية وحقوق الانسان. وان بحث امريكا عن "المعتدلين" هو غطاء لتسويق غزو من نوع مختلف عن افغانستان والعراق. غزو بواسطة فرق المهام الخاصة والاستهداف المباشر واستخدام الطائرات بلا طيار. ولاتستثنى بريطانيا من معادلة المصالح البحتة. هذه الصورة واضحة لغير "المعتدلين" في سورية، كما هي في العراق وفلسطين. واعلان امريكا عن رغبتها بالتفاوض مع "طالبان" غير المعتدلة درس لمن يروج لخطاب "الاعتدال" الامريكي البريطاني. والمفارقة ان من بين الدعاة عددا من اليساريين العرب الذين ابتلعوه كوجبة "ماكونالد" السريعة الجاهزة.
ملاحظة:
نشر المقال هنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق