مهند العزاوي
يدشن العالم اليوم مرحلة جديدة في التفكك الدولي, ويذهب صناع الحروب الى تجزئة الحروب الكبرى لحروب خاصة ونزاعات ديموغرافية متعددة الاوجه, ولم يعد هناك نظام دولي يعتمد القانون وتطبيق العدالة, وتحولت الدول الفاعلة المتمركزة الى وحش ينهش في كل مكان, ضمن فلسفة التنافس للوصول الى الرقع الخضراء وتحويها الى رقع حمراء ملتهبة.
ولم تعد مصالح الدول حاكمة كقاسم مشترك دولي يحدد مسار النظام الدولي, وينعكس ذلك على المنظمات والتحالفات الاقليمية الرسمية التي لم تعد فاعلة في رسم مسار الاحداث العالمية, بل نشهد حروب تلد حروب وسط الشعب, وانتهازية سياسي ترتقي للتخطيط والتنظيم الممنهج , وعالم عربي يغرق في حروب خاصة, ويبدوا ان ظواهر المليشيات والتنظيمات المسلحة اصبحت احدى ادوات عقيدة الصدمة وخصخصة الحرب لتسعد صناع القرار الدولي, ويسود العالم حروب الوكالة بوقود عربي وعلى اراضي عربية منتخبة, كما يحصل في سوريا وقبل منها العراق والصومال والسودان ولبنان واليمن ضمن ملحمة الفناء العربي.
شبكة انفاق حالكة الظلام
اتجه العالم بعد تسعينيات القرن المنصرم الى ملحمة الفناء القيمي والقانوني الدولي, وأشيعت عقائد مختلفة يعتنقها تجار الحروب وشركات دولية , ولعل التغيير المحوري في فلسفة الدولة والصراع الشرس ما بين نظرية الفوضى الهدامة ونظرية الدولة قد اخذ منحى اخر , وأضحت الاولى تتقدم كثيرا في رسم لوحة الفوضى الدولية المعتمدة على نسف الفكر السياسي والنظم السياسية , والتشبث بالواقعية المزيفة والتي يمكن وصفها بعمليات تجميل للفشل والانهيار, ويصفه الاعلاميون والمتحدثون والرؤساء بالتحدي , ونلاحظ ان المدرسة الواقعية اثقلت العالم بالتجارب الفاشلة والدموية , وتمارس الهروب الى الامام تحت مسمى البراغماتية والذي اشاع ظواهر وأزمات متفاعلة مركبة ادخلت العالم في شبكة انفاق استراتيجية حالكة الظلام , ولعل فلسفة خصخصة الحرب والأمن قد تركت اثرا كبيرا في رسم الاستقرار السياسي والأمني في كافة الدول , بل وتخطت قيم الردع المتبادل والتوازن الدولي , وأضحت تفتش عن الاضطراب بل وغالبا تصنع بيئته وتهيئ مناخه , لتفتح اسواقها المتعددة , ولم نشهد طيلة العقديين الماضيين حلول وقرارات تحاكي الاستقرار والأمن والسلم الدوليين , بل على العكس جرى استخدام القوة والحروب الخاصة وإذكاء النزاعات المجتمعية الافقية بغية استمرار سوق الحرب الزاحف الى كافة الرقع الامنة في العالم .
عقيدة الصدمة
يعتنق نظرية الصدمة (ميلتون فريدمان) عدد من الرؤساء والسياسيون والباحثون , وتعتمد تلك النظرية على ثلاث صدمات :الاولى ((الصدمة بالحروب والنزاعات والتفجيرات والتعذيب والكوارث ..الخ وغالبها صناعة منظمة تعتمد خلق بيئة الاحداث وتوظيف صدمة المجتمعات والدول)) والثانية (من خلال الشركات والسياسيين الذين يستغلون الخوف والضياع الناتج عن الصدمة الاولى من اجل فرض صدمة اقتصادية) تعقبها صدمة ثالثة وهي تفسر ما يجري في العراق ودول اخرى و"ذلك على ايدي عناصر الشرطة والجنود والمحققين لقتل مقاومي الصدمة الثانية" وقالت "نعومي كلاين" مؤلفة كتاب "عقيدة الصدمة" لقد زرت العراق مؤخرا من اجل الحصول على المعلومات وتتحدث عن القمع والتعذيب هناك ((اعتقد ان الامر يتعدى ذلك وما يجري بالعراق يرتبط بإنشاء وطن وفقا لأنموذج جرى اختياره من صانعي الحرب يتم فيه محو شخصية الانسان في محاولة اعادة بنائها من عدم )) وهنا تكمن الصدمة الافقية التي تستهدف المجتمعات وإخضاعهم للموت الصادم المصنع في اروقة صناعة الارهاب وتجارة الامن وقد نفذت تلك العقيدة في اكثر من عشر دول بالعالم ضمن فترة زمنية 8-10 سنوات وفشلت كافة ادواتها وانتهت بكوارث لحقت بمعتنقيها على اثر الهيجان والسخط الشعبي.
عقيدة التعذيب الشيطانية
التعذيب يطلق عليه "الاستجواب القسري" هو ((مجموعة تقنيات مصممة لإدخال السجناء في حالة الضياع والصدمة العميقين بهدف اجبارهم على تقديم التنازلات رغم ارادتهم)) وتتجلى في طرق تسمى "هزيمة المصادر المقاومة" وتكمن في (التسبب في انسلاخات عنيفة بينها وبين قدراتها على اداراك العالم المحيط بها) وتقصد العناصر المقاومة للصدمة وفي البدء تحرم الحواس كليا من استقبال اي معلومات وذلك بواسطة الاغطية للرأس والعين والإذن والأغلال والعزل التام , ثم يعصف بالجسد محفزات مفرطة للقوة وتسمى تلك مرحلة التطويع لكي يستسلم السجين , ويشتد الخوف في نفسه الى درجة ان يصبح عاجزا عن التفكير بعقلانية , وكذلك استخدام كرامة السجين ونزعها منه من خلال تعريته والتهديد باغتصابه او فعلها, وتلك منهجيات مورست بشكل واسع في دول مختلفة ومنها العراق , بل وتخطى العراق تلك القواعد باستخدام المنهجية الايرانية الوحشية الهمجية, وذهبت منظومات السجون والمحقيين الى التعذيب حتى الموت والاغتصاب لانتزاع الاعترافات بغية مسخ معالم الجرائم ضد الانسانية التي حدثت وتحدث ضمن فلسفة الصدمة والترويع , في ظل انهيار منظومة القانون الدولي وحقوق الانسان الني لم يعد لها قيمة ولا وجود.
الحرب وسط الشعب
تؤكد قراءة الواقع السياسي العراقي والعربي ان الحرب لتزال قائمة وبإشكال متعددة في العراق وجواره العربي ولم تنتهي بسحب قوات الاحتلال او اعلان ايقاف العمليات كما جرى , نعم ان الرئيس السابق جورج دبليو بوش ارتكب "خطيئة غزو العراق" وفقا للمعايير الاستراتيجية ومحظوراتها, الا ان الرئيس الحالي اوباما "هدم العراق وأغرقه بنزاعات وحروب خاصة قل نظيرها عبر التاريخ " بعد ان سلمه لإيران, وجعلت الاخيرة من العراق بلد التفجيرات والقتل والاختطاف والتعذيب وسوق للمليشيات ضمن ملحمة الانتهاكات الشاملة العابرة للقانون والقيم , وبرزت فيه ظاهرة تناسل وانشطار المليشيات المذهبية , بعد ان سمح صانع القرار الاميركي بتنامي ظاهرة "وصول المليشيات المذهبية المسلحة للسلطة " لتؤسس الى عقد الحروب الخاصة ليشع بمخاطره على مستقبل اجيال العراق والعالم العربي ,
يعد ابرز تحول يهدد امن العراق والمنطقة استخدام الوقود العربي في حروب تصدير الثورة الايرانية , وبناء قاعدة مليشيات مذهبية انطلاقا من لبنان مرورا بالعراق وسوريا وصولا لليمن والصومال والسودان وجميع تلك المليشيات تخوض حرب وسط الشعب , وتتلاعب بأمن المجتمعات وتخوض حرب ايديولوجيات لتمزيق الدول والشعوب , وباستخدام الهندسة المعكوسة لتهديم اسس بناء المجتمعات , والتي تخلق بيئة حروب خاصة تتغذى عليها شركات الامن والمرتزقة , والتي اضحت عائداتها تفوق عائدات النفط والذهب , ووقودها المجتمعات والشعوب العربية , وبلاشك ان الحروب تلد حروب , والنزاعات تلد كوارث , والفشل يلد خطيئة , ولعل تلك الحروب التي تشهدها المنطقة في ظل الهروب الى الامام من قبل النظام الدولي والعربي معا ستسفر عن خارطة سياسية دموية تلغي خارطة الدول الحالية, وتفضي الى (((سايكس بيكو طائفي مذهبي))) ينتج دويلات مذهبية متحاربة وكما سماها "رالف بيترز " عام 2006 ((حدود الدم)) تلك الحدود السياسية التي ترسم على اثر الحروب والنزاعات التي يذهب ضحيتها مئات الآلاف من البشر , وكما نشهده في سوريا والعراق الانسان بلا قيمة والدم الارواح مباحة لمن يملك السلاح.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق