نزار السامرائي
مع تصاعد الأزمة السورية ودخول إيران وحزب الله اللبناني والمليشيات الطائفية من العراق بصورة رسمية في حرب الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب السوري على يد تحالف الشر المدعوم من روسيا، والذي يسعى لتثبيت عرش بشار الأسد فوق هذا الكم الهائل من الجماجم، كان لا بد من وقفة حيال ما يجري من دم راعف وسط ذهول سوري من صمت المجتمع الدولي على ما ينفذ ضده من حرب إبادة شاملة.
ولكن هذه الوقفة ستصطدم مع موقف كل طرف من الأطراف التي تنفذ الجزء المنوط بها من خطة تدمير سوريا، ولكن حينما نعرف أن الأطراف الإقليمية تتحرك بآلية عمياء بموجب أوامر الولي الفقيه في طهران ومحكوم عليها أن تضطلع بالدور الموكول لها من أجل تكريس سلطة القتل في بلاد الشام التي استباحت المدن السورية فحولتها إلى ركام وأنقاض، فلم ترع في البلاد قيمة للبشر ولا للشجر ولا للحجر، فاعتمدت سياسة الأرض المحروقة من أجل يبقى نيرون الشام على عرشه.
كل طرف من هذه الأطراف له أجندته الخاصة.
إيران تريد تكريس الهلال الشيعي في المنطقة، كمرحلة أولى على طريق مشروع قومي فارسي طويل الأمد، ثم تحوله إلى بدر كامل وهو المرحلة الثانية من مشروعها الإقليمي والدولي والتي بدأت خطوتها الأولى في معركة القصير، وقد ذكر أبو الحسن بني صدر أول رئيس جمهورية منتخب في إيران بعد سقوط الشاه، أن مشروع الخميني منذ الأيام الأولى لوصوله إلى الحكم حدد ملامحه بضم كل من العراق وسوريا ولبنان إلى حدود جمهورية إيران الإسلامية، إما بالولاء المطلق لولاية الفقيه أو بالضم السياسي للكيان الإيراني.
إن الإعلان الرسمي عن زج قوات حزب الله اللبناني في معركة القصير السورية، بعد أن أجهز الحزب على أكذوبة مواجهة العدو الصهيوني للمرة الثانية وحول سلاحه نحو الأهداف العربية، جاء مصداقا للتحليلات التي أطلقها خبراء متخصصون في الشأن الإيراني وتوابعه، فبعد أن اجتاحت قوات الحزب بيروت بما أسماه الحزب سلاح المقاومة، ها هو اليوم ينهي بصورة لا تقبل اللبس تلك الفرية التي تاجر بها طويلا وحقق من خلالها كسبا سياسيا ورصيدا شعبيا على المستويات المحلية والعربية والإسلامية باعتباره قوة مقاومة تمكنت من إلحاق الهزيمة بإسرائيل، على الرغم من أننا نعرف حجم الدمار الذي لحق بلبنان جراء ذلك النصر المزعوم، إن عملية القصير تعد بكل المقاييس السياسية والعسكرية بداية الصفحة الثانية من مشروع التوسع والهيمنة الفارسية على الوطن العربي تحت شعارات إسلامية تبدأ بتحييد مكنو مذهبي من العرب تحت لافتة الدفاع عن حقوقهم المغتصبة.
أما حزب الله اللبناني نفسه فيريد من خلال مشاركته كقوة ميدانية ضمن الجهد الإيراني، الإبقاء على سوريا رأس جسر لوصول الإمدادات العسكرية والمالية إليه من إيران، كي يبقى مسيطرا على المشهد السياسي في البلاد من خلال ما يملكه من سلاح جعله فوق النقاش الوطني، ومن أجل أن يبقى حكومة داخل الحكومة اللبنانية وجيشا خارج سلطة الجيش اللبناني أقوى منهما من حيث الدعم السياسي السوري والعسكري والمالي الإيراني، وأكثر انضباطا من قواتها لأن قواته تنحدر من بيئة متماسكة طائفيا وتم غسل دماغها بما يؤمن تحقيق هدف التفوق على الجيش الرسمي الذي يعاني من انقسام مركب، لأن كل لواء فيه منحدر من طائفة لبنانية مما يجعل من وحدة العقيدة العسكرية والسياسية له رهنا بعوامل أخرى، منها ما هو دولي ومنها ما محلي ومنها ما هو إقليمي، وتمكن الحزب بالقوة العسكرية التي وضعت تحت تصرفه، من فرض حالة إرهاب غير مسبوقة على المكونات الدينية والمذهبية والعرقية في لبنان، ونجح وهذا هو المهم في مصادرة حق تمثيل الشيعة في لبنان.
لقد وظف حزب الله شعارات مواجهة الاحتلال لتقوية البنية العسكرية ومن ثم استخدامها في معاركه السياسية الداخلية ولي أذرع القوى السياسية اللبنانية، وربما كان ذلك بصورة أوضح خلال وجود الجيش السوري في الساحة اللبنانية، وكانت إيران الولي الفقيه، ودمشق بشار الأسد تعيان جيدا أن بقاءهما بصورة مباشرة فوق الأرض اللبنانية لن يستمر إلى الأبد، ولهذا تم إعداد حزب الله المسلح، ليملأ الفراغ الأمني والعسكري والسياسي الناشئ عن أي انسحاب سوري قسري من لبنان، وهذا ما كان، فقد أكد (جيش) حزب الله أنه قادر على فرض حقائق سياسية جديدة على الأرض من خلال استعراضات القوة العسكرية ومن أسلحة لا يجوز للمليشيات أن تمتلكها.
بالمقابل كان نظام بشار الأسد الوراثي الطائفي، يعرف حجم العزلة السياسية التي يعيشها على مستوى الشارع السوري، ويعرف أن تاريخ الأسد الأب مثقل بمجازر حماة في ثمانينات القرن الماضي، وأن ذلك الإرث غير قابل للإزالة من الذاكرة الجمعية السورية، وأن كل قطرة دم أريقت وكل كرامة أهينت، هي ديون واجبة السداد طال الزمن أم قصر، لذلك فقد أراد بشار واستنادا إلى مبدأ التخادم المتبادل أن يسدد جيش حزب الله اللبناني وقفة الأسد الأب أو الابن إلى جانب الحزب في معاركه الداخلية والخارجية، أن يرد الجميل وينفذ وقفة على مستوى الفعل الميداني، بعدما عجزت تلك القوات أو أن شرفها العسكري والوطني منعها أن تضيف إلى مجازر الماضي، مجازر جديدة ضد المحتجين على سلطة العائلة وظلم الأقلية، فبعد سنتين من حرب بكل معنى الكلمة عاشتها سوريا وبعد أن فقد بشار الأسد ثقته بقواته المسلحة، أراد أن يفرض عليها خيارا قاسيا، فإما أن تواجه تظاهرات الشعب بما وضعه تحت تصرفها من سلاح روسي وإيراني، أو عليها أن تواجه رد فعل من أجهزة المخابرات التي لم تفقد ولاءها لأسرة الأسد بسبب طبيعة تكوينها الطائفي، والتي تحظى بدعم مباشر ومفتوح من قوى طائفية قادمة من إيران ولبنان والعراق، عندما تصل قوات النظام السوري إلى حالة الاستنزاف الأخيرة، وهذا ما حصل بالفعل، فبعد أكثر من سنتين من ثورة الشعب السوري على الظلم والاستئثار بالسلطة والمال، وعلى التلاعب بمقدرات الشعب السوري، وحينما وصلت قوة جيش النظام إلى أدنى مستويات القدرة على المواجهة، جاءت الأوامر الشرعية من الولي الفقيه لواحد من أذرع الإخطبوط الإيراني الخارجية أي حزب الله لتقديم النجدة الفورية لنظام الأسد قبل فوات الأوان، وهذا ما حصل في معركة القصير، وتعدلت موازين القوى على الأرض ولو لحين، ولكن ماكنة الإعلام الإيرانية والسورية بالغت كثيرا في نتائج هذه المعركة، وصورتها على أنها أكبر انتصار في تاريخ معارك إيران وحزب الله.
أما روسيا فلها حساباتها الإستراتيجية بعيدة المدى، فهي تعرف أن نهاية نظام بشار سيعني نهاية الوجود الروسي الثابت في شرقي البحر الأبيض المتوسط، بل ربما سوف لن يجد الأسطول الروسي رصيفا على المتوسط يقبل قطعة واحدة من قطعه ولو على سبيل المجاملة، ثم أن روسيا المتهمة ومنذ العهد السوفيتي على الدوام بأنها طالما خذلت أصدقاءها وقت الأزمات المفصلية، فإنها أرادت أن تزيل تلك الصورة القبيحة التي علقت بالوجه السوفيتي ثم الروسي فيما بعد، وأرادت أن تقول إنها صديق يمكن الاعتماد عليه في ساعة العسرة.
لكن الهدف الروسي الذي يفوق في أهميته كل الأهداف المعلنة الأخرى، وهو أن روسيا التي ورثت تركة الاتحاد السوفيتي وضائقته المالية، كانت بحاجة إلى نحو ربع قرن من الزمان حتى تبدأ مرحلة الخروج من سباتها الطويل، وتبدأ خطواتها الصغيرة لمناكفة الولايات المتحدة وإشعارها بأن عصر الأحادية القطبية يجب أن ينتهي بعودة روسيا للجلوس على كفة الميزان الأخرى، لاسيما وأن حلف شمال الأطلسي بدأ بالتمدد على مقتربات حدود روسيا وخاصة الدول التي كانت جزءً من الاتحاد السوفيتي السابق أو جزءً من حلف وارشو، أو بالطرق على جدران الديمقراطية الروسية الهشة تارة باسم حقوق الإنسان وتارة أخرى تحت لافتة اضطهاد منظمات المجتمع المدني.
كانت روسيا تتململ تحت التراب من محاولات تطويقها بحلف شمال الأطلسي، ولكنها وبسبب من ضعفها الاقتصادي وبسبب من معرفتها بأن تجربتها الديمقراطية كانت ما تزال تحبو في وسط سباق بأحدث الصواريخ، وجدت موسكو في البرنامج النووي الإيراني فرصتها التي تستطيع بها ابتزاز الغرب وخاصة الولايات المتحدة، ومارست لعبة مزدوجة، فهي من جهة عضو في فريق 5+1، والتي يفترض بها أن تمارس ضغطا مباشرا على طهران لتتراجع عن طموحاتها النووية العسكرية، ولكن موسكو كانت في واقع الحال تلعب لعبة خطرة من خلال تشجيع إيران على المضي قدما في برنامجها، سياسيا وعمليا حتى يصل إلى أهدافه الحربية.
سياسيا كانت مواقف روسيا إلى جانب إيران غير خافية على الأطراف الأخرى ففي المحافل الدولية كانت تقف ضد كل مقترح لتشديد العقوبات على إيران، وعمليا من خلال بنائها لأكثر من مركز نووي سري وعلني وخاصة محطة بوشهر التي أثار تعطل محركها الرئيس مخاوف من أن ذلك نتيجة للزلازل التي ضربت إيران مؤخرا، من المؤكد أن روسيا كانت تريد ركوب المطية الإيرانية من أجل إيصالها إلى الوضع الدولي الجديد الذي تستطيع أن تطرح نفسها كمركز استقطاب مكافئ للولايات المتحدة.
وحينما انتفض الشعب السوري لنيل حقه في العيش الكريم بعيدا عن الاستئثار بالسلطة والمال والأجهزة الأمنية التي تحولت عن وظيفتها في الدفاع عن مصالح الشعب، إلى قوة قمع لم يعرف لها التاريخ مثيلا من قبل، فقد مارست القتل والتغييب والتهميش والإقصاء للغالبية الساحقة من أبناء الشعب السوري، وقفت روسيا بكل صراحة مع الظلم والقمع وناصبت الشعب السوري أقصى درجات العداء، وذلك من خلال توريدات الأسلحة التي قتل بها حتى الآن أكثر من 100 ألف سوري، وغير الملايين من المهجرين داخل سوريا وخارجها، هذا غير الدمار الشامل الذي تعرضت له البنية التحتية في سوريا، بحيث بات أكثر الخبراء الاقتصاديين تفاؤلا، لا يتوقع نهوض سوريا من كبوتها قبل نصف قرن من الزمن وقبل تخصيص 100 مليار دولار على الأقل وفقا للخسائر الحالية.
وحينما دخلت إيران على خط الأزمة السورية وجرّت معها حزب الله اللبناني والمليشيا الطائفية العراقية، أدلى مسؤولون روس بتصريحات مثيرة للفزع حينما قالوا بأن هذا التدخل كان دفاعا عن مقدسات دينية وكأنهم يعطون المسوغ غدا لكل من يريد أن يهب للوقوف مع الشعوب الإسلامية في روسيا الاتحادية دفاعا عن مقدساتها ومزاراتها وما أكثرها في القوقاز.
فهل كانت روسيا بوقفتها هذه تمثل الضمير الحي لأي شعب يعرف حقائق ما يحصل على الأرض؟ أم أن روسيا تقاتل معركتها الخاصة حتى لو سقط ملايين السوريين ضحايا معركة محسومة طال الزمن أم قصر، لأن المهم عندها أن تبيع السلاح لتنشيط الاقتصاد المتدهور، والمهم عندها أن تبقي على قاعدتها البحرية في طرطوس كي تكون قاعدتها المتقدمة لوجود بحري على مستوى بحار العالم وخاصة حلم المياه الدافئة.
هذه إستراتيجيات لقوى إقليمية ودولية، تسعى كل منها لتحريك أدواتها المحلية وأذرعها العسكرية كلا حسب قدرته، فما الذي دفع المالكي لتحريك أربعة من الألوية العسكرية نحو الحدود العراقية مع كل من سوريا بواقع ثلاثة ألوية، ومع الأردن بواقع لواء واحد، ويتألف اللواء الواحد من أربعة آلاف جندي مدعومين بآليات ودروع وطائرات مروحية؟
مرة وأثناء الحرب العالمية الثانية قال يونس بحري في معرض حديثه عن حركة قوات المحور وقوات الحلفاء ضد بعضها، (تحركت الجمال فمد الفأر رجله)، ويبدو أن حال المالكي في تحريك الألوية الأربعة لا يختلف كثيرا عن الوصف الذي أطلقه الإذاعي العراقي الشهير يونس بحري، فماذا أراد المالكي من حركته هذه؟
يلاحظ مراقبو المشهد العراقي، أن هناك تنسيقا على أعلى المستويات بين مكتب القائد العام للقوات المسلحة، والمليشيات المصنعة في إيران والتي حافظت من مستوى من التبعية والانقياد لقوة القدس الإيرانية التي تشرف على تنفيذ العمليات الإرهابية في المنطقة، وتخضع لإشراف مباشر من الولي الفقيه علي خامنئي، وخاصة مليشيا عصائب أهل الحق المنشقة عن جيش المهدي والتي وصفها مقتدى الصدر بأنها عصائب أهل الباطل، وكذلك مليشيا ثار الله وحزب الله العراقي، إضافة إلى مليشيات الحكومة والمسماة بقوات سوات ومليشيا فيلق بدر، وأن هذا التنسيق أثمر عن إرسال الآلاف من المقاتلين من تلك المليشيات بإشراف حكومة المالكي، تحت لا فتة حماية المراقد الدينية، ويبدو أن إرسال الألوية الأربعة نحو الحدود الغربية للعراق يقع في نطاق تأمين إرسال المزيد من التعزيزات العسكرية والعتاد الحربي من إيران من دون توقف، ومن ثم تأمين وصول التوابيت القادمة من الأراضي السورية.
ما يدفع إلى هذا الاستنتاج أن منطقة الحدود العراقية الأردنية ظلت منطقة آمنة، حتى أن نوري المالكي حينما كانت العمليات العسكرية في قمة نشاطها سواء ضد القوات الأمريكية أو فيما ضد مؤسسات الحكومة كان يوجه الاتهامات للحكومة السورية بل للرئيس السوري بشار الأسد شخصيا بالوقوف وراء كل ما يحصل في العراق من أعمال عنف، إلى الحد الذي طالب بعد يوم الأربعاء الأسود في 19 آب 2009 بإحالة بشار الأسد إلى محكمة الجنايات الدولية، ولكن عجلة الأحداث دارت دورة كاملة، وتحول المتهم الرئيس بالقتل إلى حليف تقدم له كل أشكال الدعم من ميزانية العراق لقتل شعبه، وتحويل الأرض والأجواء العراقية إلى ممر آمن لكل أشكل الدعم والإسناد الإيرانيين، فما الهدف من إرسال لواء من أربعة آلاف جندي إلى منطقة الحدود الأردنية؟ هل هي محاولة للضغط على الأردن؟
إن المالكي يريد من خلال هذه المنطقة أن تأتي الإمدادات الإيرانية عبر الحدود العراقية الإيرانية ثم ترسل إلى سوريا عبر منطقة النخيب ثم الرطبة، لأن معركة من طراز ما يجري حاليا في سوريا بحاجة إلى تعزيزات هائلة بالرجال والسلاح، وتحت لافتة مكافحة الإرهاب ينفذ جريمة كبرى للتدخل في شؤون بلد آخر ويسهم في زيادة أعداد القتلى والجرحى والمشردين، ويطيل عمر نظام القتل الطائفي، لأنه تلقى أمار من طهران بذلك وما عليه إلا الإذعان لما صدر له من أوامر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق