وجهات نظر
نزار السامرائي
إيران لاعب رئيس في المنطقة، يمتلك صواريخ عابرة للقارات أبعد مدى من أية صواريخ لدى الولايات المتحدة أو لدى روسيا، كما أن لديها سلاحا نوويا أكثر مما تمتلك كل الدول النووية في العالم، صواريخ إيران وقنابلها النووية تتمثل بتلك الولاية التي تفرضها على أتباع نظرية ولاية الفقيه، لأن هؤلاء الأتباع يتحركون من دون وعي حتى داخل غرف نومهم استنادا إلى أوامر ونواهي علي خامنئي مرشد الثورة الإسلامية، من دون نقاش أو شك بأن مخالفتها ترتب آثارا دنوية وأخرى أخروية، دنويا تبدأ بتحريم زوجته عليه في حال لم يصدق في ولائه المطلق لتلك البدعة، وما يلحق بذلك التحريم من تداعيات على نسبة الأولاد إلى بيت الزوجية، فضلا عن تحريم الرزق إذا لم يكن قد حصل على بركة ممثل الولي الفقيه في أية بقعة مهما كانت قصية أو مهملة على الأرض، وغير ذلك من المعاملات التي ينشؤها تابع الولي الفقيه.
أما أخرويا فيكفي أن المكلف لن يدخل الجنة حتى إذا قام بكل متطلبات الدخول إليها ومهما أخلص في عباداته لله تعالى أو ساعد المحتاجين، أو اقتفى آثار الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم والأئمة الأطهار، ما لم يحصل على رضا الولي الفقيه، على حين أن مرتكب الكبيرة إذا ما أخلص في طاعة الولي الفقيه فإنه قادر على سحبه من جهنم وإرساله إلى الجنة بفرمان مقدس.
فأي من الدول العظمى كالولايات المتحدة أو روسيا أو الصين، تستطيع أن تحرك كل هذه الكتل البشرية عبر ريمونت الفتوى الدينية كما تفعل إيران؟
إن هذه المجاميع البشرية، لاسيما من الشباب الجاهزين لعمل كل ما يؤمرون به، والمنقادين هذا الانقياد الأعمى لمركز التوجيه في طهران، ربما هم أكثر تأثيرا وفاعلية من الأسلحة النووية والصواريخ والقواعد العسكرية فيما وراء البحار التي تمتلكها الولايات المتحدة وتطوق بها الكرة الأرضية، وحاملات الطائرات والبوارج الحربية التي تجوب أعالي البحار، ربما لأن هؤلاء لا يخضعون للتوازن الإستراتيجي بكميات الأسلحة ونوعياتها ولا أحد يعرف متى تصدر لهم الأوامر بتنفيذ الخطط الموضوعة استنادا إلى حسابات خفية، ويتحركون من دون أن تراهم أقوى الرادارات في العالم، فيغيرون من التوازنات الإقليمية والإستراتيجية عبر القوة الناعمة في مرحلة من مراحل التحرك، ثم ينتقلون بقوة القرار والفتوى إلى القوة الخشنة حينما تقتضي مصلحة إيران أولا وأخيرا، بالمقابل فإن ما تمتلكه الدول الكبرى من قدرات تدميرية قد تخضع لاتفاقيات دولية ثنائية أو جماعية ملزمة، أو تخضع لسيطرة قوة عاقلة هي التي تحركها على وفق حسابات دقيقة، أو ربما لأن الدول العظمى كلما توصلت إلى طراز جديد من الصواريخ وأسلحة الدمار الشامل، كلما توصلت الدول المنافسة إلى سلاح مكافئ أو مضاد له، يحد من تأثيره أو قدرته على الوصول إلى أهدفه، أو سلاح متطور مماثل يخلق الروادع والكوابح المانعة من خوض مغامرة استخدامه مهما اشتدت الأزمات الدولية.
قصور الرؤية المستقبلية في مراكز الدراسات العالمية
إن مراكز الدراسات الإستراتيجية الأكثر دقة في العالم لاسيما مراكز الدراسات الأمريكية، لم تتمكن من التنبؤ بحصول الزلزال الهائل الذي انطلق من إيران في شباط 1979 على الرغم من انتشار عملاء المخابرات المركزية في كل مرافق الدولة الإيرانية في عهد الشاه، بل يقال إن رجال المخابرات المركزية هم الذين قيدوا ردود فعل الشاه ضد الثورة التي كانت تتعاظم منذ عام 1978، لأن حسابات الإدارة الأمريكية وصلت إلى نتيجة مفادها أن الشاه أصبح ورقة مستهلكة تماما وأن رميه في سلة المهملات هو الحل الأمثل لمثل حال عملاء أمريكا، التي لم تلتزم في يوم من الأيام بالوقوف إلى جانب عملائها أو أصدقائها، خاصة وأن واشنطن كانت تعد العدة لمشروع تطويق الاتحاد السوفيتي السابق بحزام الفتن الدينية، فكان مجيء الخميني في وقت نموذجي لخطوات أخرى كان من بينها وصول بابا إلى حاضرة الفاتيكان من بولندا التي كانت ما تزال حتى ذلك الوقت جزء من منظومة الدول الشيوعية المنضوية تحت لواء حلف وارشو، فظنت أن وصول الخميني إلى الحكم سيثير تململ شعوب الجمهوريات الإسلامية في الاتحاد السوفيتي، ولكنها في واقع الحال لم تحقق هذا الهدف وربما وظفت موسكو اتجاهات النظام الجديد في طهران لصالحها، وخاصة عندما أصدر آية الله الخميني أوامره لما أطلق عليهم بالطلبة السائرين على خط الإمام، باحتلال مبنى السفارة الأمريكية في طهران تحت عنوان احتلال وكر الجاسوسية، وتم احتجاز الدبلوماسيين الأمريكان داخلها مما شكل أول نكسة للمشروع الأمريكي، ووقف الرئيس الأمريكي يوم ذاك جيمي كارتر مشلول الإرادة والتفكير، ولم يستطع رؤية الحل الذي يبعث برسالة إلى حكام طهران بأن اللعب بالنار مع واشنطن محفوف بمخاطر جسيمة، ولكنه لم يفعل وعاش حالة من التردد أغرت المجموعة الجديدة الحاكمة في إيران بأنها لن تخسر كثيرا في أية مواجهة محتملة مع الولايات المتحدة التي ستخسر هيبتها بمجرد تراجعها خطوة واحدة إلى الوراء، أو حتى في حال عدم تقدمها إلى الأمام كما عرفها العالم في عهد الرئيس جون كندي عندما أطبق على كوبا بحصار بحري خانق أوشك أن يجر العالم إلى حافة حرب عالمية ثالثة لو لم يتراجع السوفييت عن خطط إقامة القواعد الصاروخية على مقربة من الشواطئ الأمريكية، ولكن كندي وهو يجلس على كرسيه الهزاز، لم يكترث لعمليات التقرب التي نفذها الأسطول السوفيتي في محاولته اختراق ذلك الحصار المحكم، لأن كندي كان مصمما على عدم السماح لسفينة سوفيتية واحدة بالمرور مهما كلف الأمر.
إيران وسياسة الغاية تبرر الوسيلة
إن أخطر ما في ظاهرة ولاية الفقيه، أنها تمتلك رصيدا كبيرا من القوة البشرية التي لا تخضع لأي توازنات عسكرية في العالم، لأنها ببساطة جيش من ملايين الشباب رهن الإشارة وقوة مدربه وجاهزة للتدخل في أي وقت يطلب منها ذلك في أي مكان في العالم، واستطاعت الظاهرة الخمينية توظيف الشعارات التي تلاقي قبولا محسوما لدى الشارع العربي والإسلامي، من قبيل شعار تحرير فلسطين، على الرغم من أن إيران لم تقدم شيئا من الناحية العملية لتحرير فلسطين، بل أنها ربطت بين حربها العدوانية على العراق وتحرير فلسطين حينما رفعت شعار طريق القدس يمر ببغداد، ثم أوجدت طهران لنفسها أذرعا فاعلة في كل من العراق واليمن ولبنان والمنطقة الشرقية من الملكة العربية السعودية والبحرين، ووضعت الخطط لتوسيع دوائر نفوذها في آسيا وأفريقيا، وتحالفت مع دول ذات نظم سياسية يسارية أو علمانية استنادا إلى قاعدة الغاية تبرر الوسيلة، فأوجدت إيران لنفسها قواعد سياسية ودبلوماسية في سوريا وفنزويلا، ولم تجد تقاطعا بين توجهاتها الدينية المعلنة والتوجهات المضادة في كل من دمشق الأموية التاريخ والعلوية الحاضر، وكراكاس المسيحية الديانة الكاثوليكية المذهب الإسبانية اللغة، وكانت تستخدم مع كل بيئة اللغة المناسبة التي تصلح لفتح الأبواب الموصدة أمامها، ربما تسجل تلك النجاحات لصالح المخطط الإيراني، ولكن إيران ظلت تقاتل برجال غير رجالها، ولكن هؤلاء الذين يقاتلون نيابة عن طهران يراهم المراقب سعداء جدا بتلك التبعية والولاء الذي منحوه للولي الفقيه، كما هو حال حزب الله اللبناني وزعيمه حسن نصر الله الذي يجاهر مفاخرا بأنه النسخة اللبنانية من دولة ولاية الفقيه، واستغل نتائج حرب تموز عام 2006، لكسب مزيد من التعاطف العربي والإسلامي مع إيران، معتبرا أن ما تحقق هو إنجاز لإيران بالدرجة الأولى وليس لأي طرف آخر، واستطاع حزب الله وبلغة عربية أن يطرق نيابة عن إيران أبوابا ظلت مغلقة بوجه الدور الإيراني لسنين طويلة.
ولكن علينا أن نؤشر النصف الآخر من الحقيقة، وهو أن ما تحققه إيران من إنجازات لم يكن بنقاء عقيدتها أو صواب سياستها أو عبقرية مخططيها، بقدر ما كان نتاجا لخطل السياسة العربية وأخطائها وإخفاقها في انتهاج إستراتيجية عربية واحدة تضع المصالح العربية العليا فوق أي هدف آخر، بالأصل لم تكن هناك إستراتيجية عربية واضحة المعالم يمكن يتم التعامل الدولي معها، وإذا كانت هناك إستراتيجيات لكل بلد عربي على حدة، فإنها ستبدو متصادمة مع بعضها وذلك بسبب تصادم المصالح بين الدول العربية وتفشي حالة الشك والريبة بين دول الجامعة العربية وسياسة المحاور التي قادت الوطن العربي من نكبة إلى نكبة أكبر، في حين أن إيران تمتلك رؤيا واضحة لما تريد وتمتلك صوتا واحدا يعبر عنها، والعالم يفضل التعامل مع سياسة واحدة منسجمة لبلد واحد بدلا من التعامل مع 22 موقفا لاثنتين وعشرين دولة، فأين يكمن الخلل في أسباب تقدم المشروع الإيراني وتخلف المشروع العربي؟ ولنا في الانجازات التي حققتها إيران في سوريا هذه الأيام وسط ذهول عربي وإسلامي عاجز عن إيجاد الرد المناسب، على الرغم من أن حزب الله لم يخف البعد الطائفي للمعركة في سوريا.
أي الخطرين أولى بالملاحقة؟
هناك خلل بنيوي في طبيعة اتخاذ القرار العربي، فمعظم الدول العربية إن لم تكن كلها، لا تجرؤ على خطوة قد تسبب إزعاجا للولايات المتحدة، وهذا الأمر يصب في صالح القرار الإيراني سياسيا وإستراتيجيا لأنه يعطيها فضيلة الاستقلال بقرارها السياسي عن مراكز الاستقطاب العالمية، والأمثلة حاضرة على هذا، ففي اليمن وحينما كان الجيش اليمني على وشك الإطباق على مدينة صعدة معقل الحوثيين المرتبطين بالمشروع الإيراني، أبدت الولايات المتحدة انزعاجا شديدا من تحول الدولة اليمنية عن الحرب على تنظيم القاعدة في الجزيرة العربية، إلى معارك ثانوية، وجندت واشنطن في تغيير اتجاهات الزعامة اليمنية بمنظمات حقوق الإنسان التي ضاعفت من تقاريرها التي تتحدث عن حصول انتهاكات في مناطق الحوثيين، وبذلك جندت الولايات المتحدة أدواتها السياسية الضاغطة على معركة تخص الأمن الأمريكي، حتى بفرض أنها ستصب في صالح التمدد الإيراني على جنوب المملكة العربية السعودية لتطويقها من الشرق والجنوب.
ما يحصل اليوم في سوريا هو التعبير الكامل عن الشلل الذي أصاب العالم الإسلامي تجاه تغوْل المشروع الإيراني على المنطقة وتحقيقه نقاط ارتكاز للوثوب إلى مناطق أخرى، كل هذا يحصل والإدارة الأمريكية غير جادة في إعطاء رأي صريح بشأن تدخل إيران وحزب الله في سوريا، وعلى الرغم من أن هناك أدلة قاطعة على استخدام السلاح الكيمياوي من جانب قوات الرئيس بشار الأسد وهو ما أكدته فرنسا وبريطانيا والأمم المتحدة، فإن واشنطن بقيت أسيرة موقف كانت قد أعلنه البيت الأبيض من أن استخدام السلاح الكيمياوي سيغير قواعد اللعبة، ولهذا ظلت تبحث عن ذرائع التخفيف من دقة معلومات لندن وباريس، وكأنها ما تزال حريصة على معرفة جنس الملائكة قبل أن تقدم على خطوة لن تحصل منها أبدا.
فمن أين هبطت كل هذه الحكمة على الأمريكيين؟ ولماذا لم يتحل الرئيس جورج بوش الابن بجزء يسير منها حينما قرر غزو العراق واحتلاله وإسقاط نظامه الوطني؟ يذهب بعض مراقبي الإستراتيجيات الدولية، إلى أن الرئيس الأمريكي السابق كان قد اقتفى بغزو العراق خطوات زعماء الاتحاد السوفيتي السابق الذين تدخلوا عسكريا في أفغانستان وورطوه في مستنقع لم يتمكن من الخروج منه بقليل من ماء الوجه أو الهيبة المفترضة، وهو ما فعله بوش تماما في العراق وأخرج بلاده مثخنة بجروح عسكرية ونفسية ومادية غير قابلة للإلتئام ولو لزمن طويل، وكما أن ميخائيل غورباتشوف الزعيم السوفيتي الذي وقع على شهادة وفاة الاتحاد السوفيتي وساهم بتربع الولايات المتحدة على كرسي مركز الاستقطاب الواحد في العالم، فإن هؤلاء المراقبين لا يستبعدون أن يكرر الرئيس باراك حسين أوباما دور غورباتشوف ولكن مع أمريكا، أمريكا لم تعرف في تاريخها الطويل رئيسا أحمقا مثل جورج بوش، ولم تعرف رئيسا مترددا مثل أوباما، تارة بالحكمة وتارة بالحرص على عدم توريط بلاده في مغامرات جديدة، ومع كل لحظة تأمل يمضيها الرئيس أوباما في مكتبه البيضاوي، تكون جحافل إيران قد حققت قفزات في أكثر من بقعة لتعزز من ثقلها الإستراتيجي إقليميا ودوليا، ثم لتفرض وجهات نظرها في القضايا الإقليمية بعد ربطها بمشروعها النووي.
غياب الوعي الجماعي العربي وتعدد الإستراتيجيات المحلية وعدم تأشير المصالح العليا للأمة العربية، بل عدم الارتقاء إلى مستوى الحد الأدنى من العمل العربي المشترك على وفق ما رسمه ميثاق جامعة الدول العربية ومعاهدة الدفاع العربي المشترك، وعدم تفعيل اتفاقيات الوحدة الاقتصادية العربية، كل ذلك جعل البلدان العربية تعيش هاجس الخوف من الشقيق ووضع الخطط الاحترازية لمواجهته بل المشاركة في شن الحرب عليه كما حصل في ضرب العراق وقطع اليد التي كانت تحمي السياج العربي من موجات تسونامي الإيرانية، على نحو يتقدم على الشعور بالخطر القادم من إيران أو إسرائيل أو سايكس بيكو الجديدة.
إيران تحقق إنجازات داخل البيت العربي ولا تتردد عن التدخل في أي أرض عربية، والموقف العربي الخجول يشجعها على المضي بسرعة أكبر في مشروعها الإقليمي، هذا كله يحصل قبل امتلاك إيران للسلاح النووي، ومع كل الحصار الاقتصادي المفروض عليها، ترى ماذا سيحصل إذا امتلكت الأسلحة النووية وأطلقت معاملاتها التجارية المفتوحة؟ ثم أين تذهب الأموال العربية الطائلة إذا لم تخصص لمواجهة الأخطار التي تسعى لقضم الوطن العربي بالتدريج؟ وأين الحكمة العربية التي تقول مثقال وقاية خير من قنطار علاج؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق