محمد عارف
العراقيون الذين يدركون بعد عشر سنوات من هذا العراق أنه ليس العراق الذي يريدون، هم أمل العراق.
والعراقيون الذين يؤمنون بأن جميع العراقيين أهل البيت، وليس أهل البيت وحدهم، أمل العراق، والعراقيون الذين لا يعتقدون أن الدين، أو المذهب، أو العقيدة، أو المرجعية، أو الدستور أثمن من أهل العراق، هم أمل العراق.
والذين يعرفون أن العراقيين هم أمل العراق هم الأمل للعراق، والذين لا يمكن أن يعيشوا دون الأمل بالعراق، ولا يملكون شيئاً غير العراق، هم الأمل للعراق.
والعراقيون الذين يعتقون بأن سلامتهم الشخصية من سلامة بقية العراقيين ومن سلامة العراق، هم أمل العراق، والعراقيون الذين يأخذون بالحسبان قدرة غيرهم من العراقيين على التحمل، ويؤمنون بأن سلامتهم من سلامة غيرهم من العراقيين هم أمل العراق، والعراقيون الذين يدعون للعراق في صلواتهم في الجامع، أو في الحسينية، أو في الكنيسة، هم الأمل للعراق. والعراقيون الشيعة الذين ينكتون على الشيعة، والعراقيون السنة الذين ينكتون على السنة، والأكراد الذين ينكتون على الأكراد، هم جميعاً أمل العراق، ذلك لأن الضحك على الذات أول علائم الحكمة، والحكمة أمل العراق.
ومن يحزر مذهب عراقي مريض شكا للدكتور أن كل مكان في جسمه يؤلمه عندما يمسه، ففحصه الطبيب، ليجد أن إصبعه مكسور؟ ومن بطل النكتة عن شخص يعاني الأرق نصحوه أن يعِد للمائة فينام، فشعر بالنعاس عندما وصل في العد إلى الخمسين، فقام يغسل وجهه حتى يواصل العد إلى المائة؟ كل عراقي مهما كان مذهبه أو دينه قد يكون هو الذي اتصل بالإطفاء يقول لهم: «يعني شنو إذا ماكو حريق ما نشوفكم؟».. وما مذهب عراقيين اثنين يتناقشان حول شرب القهوة، قال الأول: «من أشرب القهوة ما أقدر أنام»، وقال الثاني: «أنا بالعكس، من أنام ما أقدر أشرب قهوة»؟
و«لا شيء عظيم في العالم أمكن إنجازه من دون هوى عظيم»، حسب هيجل، أحد أكثر الفلاسفة العالميين عقلانية. وهل غير الهوى العظيم بالعراق يمكن أن ينجز العراق. وهذا هو الهوى بالفلوجة الذي أنجز أسطوانة مدمجة عنوانها «وسلاماً عليك يا فلوجة»، وهو مقتبس من قصيدة الشاعر العراقي معروف الرصافي الذي ولد في الفلوجة. والأسطوانة أول عمل فني عراقي عالمي عن الفلوجة التي صدرت عنها أفلام روائية وثائقية، وأعمال فنية، وأدبية أميركية وغربية. وتفتتح الأسطوانة بقراءات شعرية، وأراجيز، وابتهالات، ومقتطفات فيديو خبرية، وعزف على الناي، والبيانو، وشهادات مفكرين عالميين، ومجندين أميركيين، يتحدثون على خلفية ضجيج مروحيات «الأباتشي» الأميركية في سماء العراق. «وحيّا الله أهل الفلوجة الكلهم شجعان، ما دنّوا راس وما انذلوا للأميركان». غناء رجولي شجي ومُعّسل بحنين بدوي مشدود بنبض مقاومة مدينة أصبحت رمزاً للتمرد على الطغيان الأميركي حول العالم. أشرفت على إعداد الأسطوانة الكاتبة والروائية العراقية هيفاء زنكنة، وأصدرتها منظمة «تضامن» لنساء العراق، وموقعها في الإنترنت تتصدره المنحوتة الآشورية المشهورة لأنثى الأسد الجريحة تسحب بدنها المشلول بطعنات السهام، فاغرة فاها بصرخة تحطم قلب الحجر، وتخترق الألفيات التي تفصلنا عنها.
و«الحب روح مصنوعة كلها من نار»، حسب شكسبير؛ هذا هو حب قصيدة «إلى أب في الفلوجة دفن ابنه في حديقة منزله». كتبت القصيدة بالإنجليزية الشاعرة العراقية الكندية نسرين ملك، وتلقيها الشاعرة والكاتبة البريطانية آن آيلور. «لا تغسل دماء ابنك عن التراب واسألهم ماذا فعل لهم. احفر حفرة صغيرة له مبسوط الذراعين، واسألهم ماذا فعل لهم، أروِ الزهور بدمعك، واسألهم ماذا فعل لهم، اسأل ابنك أن يغفر لهم، واسألهم ماذا فعل لهم، دوِّنْ أسم ابنك وأسماء الأطفال القتلى وأسألْ ماذا فعلوا لهم». وتتصاعد فوق طنين مروحيات الأباتشي قراءة الفنانة باديه عبيد أسماء شهداء الفلوجة كصواعق متلاحقة، تتسارع، وتشتعل ناراً عندما تنطق عبيد أسماء شهداء أسرة واحدة، وتنهار بصوت دموع مدرارة، من دون أن تتوقف عن تلاوة الأسماء. وتتعالى أغنية تحية المقاومة: «أهل الفلوجه الصكاره ما يهمهم ضرب الطياره».
وحب العراق هو الحب الذي يقول عنه العالم والمفكر الإنجليزي فرانسيس بيكون: «مستحيل أن تحب وتكون عاقلاً»، وأعقل محبي العراق مدونة مجهولة الهوية تكتب يومياتها بالإنجليزية باسم مستعار هو «ليلى أنور»، لم تتوقف منذ نحو عشر سنوات عن توجيه شتائم «رهيبة» وهذا أخف ما يمكن قوله عن شتائمها للسياسيين والعسكريين الأميركيين المسؤولين عن احتلال العراق، والعراقيين المتواطئين معهم، وهي شتائم موثقة بالمعلومات والصور، ولا تستثني معظم الشعب الأميركي الذي أيّد الغزو، ولا تتردد بالدخول في «ردح» نسائي عربي مع كل من يتورط بمراسلتها، وأخف شتائمها «الضباع» وهي مخصصة؛ حسب التسلسل لأميركا وإسرائيل وإيران.
و«آه أيها الحب، ألست كافياً بنفسك، لِمَ أبكي إذن بعد الحب؟». تتساءل الشاعرة الأميركية الغنائية ساره تيسدال. والأكاديمي العراقي حكمت شُبّر، أستاذ القانون الدولي سابقاً في جامعتي بغداد والمستنصرية يبكي بعد الحب وقبل الحب وخلال الحب؛ وغالباً ما تبكيني قصائد دواوينه، وبعضها مخطوطات يرسلها لي بالبريد الإلكتروني، ويبكيني أن لا أستطيع قراءتها إلاً إذا تفرغت من الكتابة الأسبوعية فترة سنة. وأمزح في الحقيقة فعندي «آي فون» أقرأ فيه صباحاً ومساءً، مستلقياً على السرير، أو ماشياً، وأسمع الأخبار، فيما أنا أقرأ مؤلفات «شبّر» في القانون الدولي: «السيادة العراقية وشركة بلاك ووتر»، «المحكمة الدولية وقضايا الإرهاب- العراق نموذجاً»، «أزمة حصانة الجنود والمتعاقدين الأميركان في العراق»، وروايات ودواوين شعرية، بينها «الحنين إلى ينابيع الحب»، و«زفرات شيخ»!
وأختلس قراءة قصائد شُبّر المهداة إلى زوجته إيمان الرفيعي، وهي من عائلة سدنة «الروضة الحيدرية» في النجف التي تضم ضريح الإمام علي رضي الله عنه. عنوان المجموعة «الزنبق الحلو». في عمر السبعين يبتهج شعر الحب الزوجي في النجف، كشعر السومريين قبل خمسة آلاف عام، غير متورع عن الغزل بأكثر مواضع الحب حميمية. ويمكن تصور ما تحتويه قصيدة شُبّر «الكنز» التي تتحدث عن «تموضع الزنبق المشدود محترباً». والنجفي وحده يمكن أن يكتب ذلك، وهو عميد سابق للكلية الإسلامية في النجف، وقبل «الزنبق الحلو» مباشرة قصيدة «عراق حبيبي» تشتم من «أباحوا غناك بدون حياء، فجاروا، وضلّوا سواء السبيل، وراحت فتاويهم تنفث سُمّاً، لقتل العراق وطمس الدليل»! العراقيون راية الأمل للعراق. وتعلو أرجوزة «حيّا الله أهل الفلوجة تيجان الراس، وقفوا لدين الله ورسوله حراس، بيهم شارات الأئمة وجدنا العباس»!
ملاحظة:
نشر المقال هنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق