علي حسين باكير
لا تقتصر مخاطر السياسات الإيرانية في المنطقة على المستوى السياسي أو الأمني فقط، وإنما تظهر انعكاساتها على الدول العربيّة بشكل مدمّر على المستوى الاجتماعي، حيث نجحت في تحقيق انقسامات أفقيّة وعامودية على أساسي طائفي بغطاء ودعم سياسي ومالي وأمني على مدى عقود من الزمان تحت عناوين متعددة ومختلفة ترتكز إلى الديماغوجية السياسيّة والتلاعب بعواطف الشعوب.
هناك انطباع عام سائد في العالم العربي مفاده أنّ مبايعة مواطنين عرب من الطائفة الشيعية كأفراد أو كأحزاب (كحزب الله في لبنان) للولي الفقيه الإيراني يعني التزامهم فقط بالأمور الفقهيّة الصادرة عنه دون السياسية أو الأمنيّة أو العسكريّة، وأن هذه المبايعة لا تشكّل تبعية على الإطلاق ولا تؤثر على الأمن القومي والسياسي والاجتماعي ولا على النسيج المجتمعي للدول العربية داخل الطائفة الشيعيّة نفسها أو بين الشيعة والسنّة. في هذا الطرح مغالطات استراتيجية تساهم عن قصد أو جهل بالتغطية على الصورة الحقيقية.
في البيان التأسيسي لحزب الله، عرّف الحزب عن نفسه فقال: «... نلتزم بأوامر قيادة واحدة حكيمة عادلة تتمثّل بالولي الفقيه الجامع للشرائط وتتجسد حاضرا بالإمام المسدّد آية الله العظمى روح الله الموسوي الخميني دام ظلّه».
يقول الشيخ نعيم قاسم نائب الأمين العام لحزب الله في كتابه «حزب الله، المنهج، التجربة المستقبل» شارحا علاقة «المسلم» بالولي الفقيه: «... يحتاج المسلم المكلف في قسم العبادات والمعاملات إلى مرجع تقليد لمعرفة الأحكام الشرعية وضوابطها، وفي القسم العام المرتبط بالأمة ومصالحها وحربها وسلمها وتوجهاتها العامة يحتاج إلى قائد هو الولي الفقيه.. وقد تجتمع المرجعية والولاية في شخص واحد.. كما حصل بالنسبة للإمام الخميني مع انتصار الثورة، وللإمام الخامنئي بعد اختياره للولاية».
وفي سياق شرح العلاقة بين المرشد الأعلى والمُكلَّف، يقول: «لا علاقة لموطن الولي الفقيه بسلطته كما لا علاقة لموطن المرجع بمرجعيته.. والارتباط بالولاية، -كما يقول الشيخ نعيم قاسم- تكليف والتزام يشمل جميع المكلفين، حتى عندما يعودون إلى مرجع آخر في التقليد».
وفي سياق شرح العلاقة بين المرشد الأعلى والمُكلَّف، يقول: «لا علاقة لموطن الولي الفقيه بسلطته كما لا علاقة لموطن المرجع بمرجعيته.. والارتباط بالولاية، -كما يقول الشيخ نعيم قاسم- تكليف والتزام يشمل جميع المكلفين، حتى عندما يعودون إلى مرجع آخر في التقليد».
يؤكد حسن نصرالله الأمين العام لحزب الله هذا الكلام بقوله: «في مسيرتنا الإلهية نحن قوم نؤدي تكليفنا الإلهي والشرعي، ويحدده لنا ولي الأمر في خطوطه الكبيرة والعريضة وأحياناً في التفاصيل ونحن علينا أن نؤدي هذا التكليف الإلهي الشرعي».
بطبيعة الحال التكليف «الإلهي والشرعي» المرتبط بالولي الفقيه الإيراني في هذا الكلام المهم الذي يقوله، لا يتعلّق بمسائل مثل الخُمس والصلاة والنكاح والفرائض الدينية. وإذا توهّم القارئ ذلك فهو تأويل من جانبه لما لا يقبل التأويل. هذا كلام صريح وواضح يتعلّق بخطوط كبيرة وتفاصيل واستراتيجيات. فأين الاستراتيجيات في الزواج والخُمس والصلاة؟! المقصود هنا السياسة والأمن والمصلحة. وهنا يرتبط السياسي بالديني من خلال الولي الفقيه والتكليف الشرعي. وفي هذا الإطار يوضّح الشيخ «محمد تقي مصباح يزدي» عضو مجلس الخبراء الذي يعيّن المرشد الأعلى ويعزله إذا ما رأى ذلك، أن «سلطة الولي الفقيه هي سلطة كليّة، مطلقة وعامّة لا فرق بين السياسي والديني لمن بايعه».
هذه الاقتباسات هي نموذج صغير من أشخاص ذوي مناصب قيادية معروفة ومشهورة وقادة لأحزاب وجماعات لها أتباعها في العالم العربي، وإذا كنت أخذت لبنان كنموذج فهناك نماذج أخرى في البحرين وسوريا واليمن وغيرها من الدول التي تخترقها إيران بأتباع مثل هؤلاء.
هذه الاقتباسات فيها اعتراف صريح وواضح يرقى إلى العمالة والخيانة، وفيها إقرار ليس بازدواجية الولاء حتى وإنما إعلان أولوية الولاء إلى طرف خارجي يرسل الأوامر السياسية والأمنية والعسكرية وهو ما يتخطى جرم التجسس إلى جرم الخيانة العظمى. فما الفرق هنا بين عميل إلى دولة أجنبيّة وبين عمالة من هذا النوع؟ ولماذا يتم تجريم الأولى قانوناً ويتم تجاهل الثانية؟ بل الأَولى أخذ الثانية بعين الاعتبار لأن كثيرا من العملاء في الحالة الأُولى يقوم بذلك نتيجة الحاجة أو العوز فيما يقوم أصحاب الحالة الثانية بذلك مجاناً وطوعاً واقتناعاً منهم! كما أنّ مخاطر الثانية تتجاوز بأشواط مخاطر الأولى.
فلنتصور أنّ لدينا (وبالفعل لدينا) من هؤلاء في الجيش والمؤسسات الأمنيّة وفي القطاع العام وفي الإعلام وفي الحكومة وفي البرلمان وفي المؤسسات الدينية والتربوية، لمن برأيكم يعملون ومن يوالون وعن من يدافعون؟ هذا يفرض علينا أخذ الموضوع بكثير من الجدّية.
والمثير للاهتمام أنّ إيران استطاعت خلال العقود الماضية تغيير البنية الاجتماعية الشيعية أيضا داخل الدول العربية؛ إذ نجحت في تحويل ولاء كثير من الشيعة العرب إليها. من المعروف على سبيل المثال لا الحصر أنّ شيعة لبنان يقلّدون تاريخيا مرجعيّة النجف، لكن اليوم يوجد شريحة كبيرة تدين بالولاء لمرجعيّة الولي الفقيه المرشد الأعلى. كما تستقطب قم منذ سنوات على سبيل المثال من البحرينيين أكثر مما تستقطب النجف!
ولا يجب أن ننسى هنا أنّ الولي الفقيه المرشد الأعلى عدا عن كونه القائد السياسي الحقيقي لإيران، فإنه وبموجب الدستور الإيراني يعتبر القائد الأعلى للقوات المسلّحة للبلاد، فكيف يمكن التعامل مع أفراد أو جماعات أو أحزاب تدين بالولاء للقائد الأعلى للقوات المسلّحة لدولة أخرى؟ من الخطأ الاعتقاد أنّ مواجهة السياسات الإيرانية التخريبية في العالم العربي إنما يجب أن تكون أو تتم عبر مجال واحد هو المجال الأمني، وإنما يجب أن تتم مواجهتها عبر مختلف الوسائل السياسية والاقتصادية والأمنية والقانونية والاجتماعيّة حتى يمكن تفكيكها وتفريغها من مضمونها. ما الذي يمنعنا من تقديم مشاريع قوانين تدين وفق القانون تقليد الولي الفقيه المرشد الأعلى في العالم العربي على هذا الأساس؟
ملاحظة:
نشر المقال هنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق