وجهات نظر
أبوالحق
تأملوا بحال الشارع العراقي اليوم. لا يبدو أن هناك ما يجمع سنته وشيعته سوى الوعي بعدم أحقية رواتب البرلمانيين مع إغفال التركيز على أي مطلب آخر هو أولى وأهم وأجدر.
تقريم وتحجيم رواتب البرلمانيين ليس إلا مطلب محدود من جملة مطالب مشروعة وملزومة لإنقاذ العراق وإخراجه من دوامة وضعه الإحتلال قي عينها. إنه مطلب يدور حول المادة لا غيرها وهو ليس إلا (كمادات) على رأس عراق يعاني من فرط (الصخونة) ويحتاج لمكافحة الإلتهاب المتسبب برفع حرارة المريض.
لا أحد اليوم يطالب بخلع النواب أو تجريمهم على تقصيراتهم أو إلزامهم بعدم السفر عقب إنتهاء دورتهم، ومن أمِنَ العقوبة أساء الأدب كما معروف لذا نجد الواحد منهم يرمي قناع المسكنة فور ترديده القسم ويبدي للناس غير ما كان يظهره.
المهم اليوم بنظر العراقيين هو إجهاض مشروع رواتب البرلمانيين التقاعدية وكأنما ذلك سيحل مشكلة العراق لكن لا أحد من المطالبين بذلك يسأل نفسه جملة الأسئلة المتسلسلة تلك:
من هم هؤلاء البرلمانيين القارونيين؟
من أين جاءوا؟
هل هم كائنات فضائية نزلت من صحن طائر أم هم مواطنون من بلد إسكندنافي تم توريدهم لنا كما ورَّد الإنجليز عائلة الملك فيصل من الحجاز كي تحكم العراق مطلع القرن الفائت؟
أليسوا هم أبناء نفس الشعب ومجرد أفراد كانوا يعيشون بيننا ولا يختلفون عنا، في غالبيتهم، باستثناء الطارئين فاقدي المواطنة وذوي الجنسيات الثنائية وأزلام الأحزاب الإسلامية الشيعية والسنية من جماعة "عبرت شط العرب على مودك خليتني على راسك"!! إلى أن حصل "الإنفجار الحقير" ذاك وترشحوا للعبة الإنتخابات؟
من إنتخبهم أصلاً غيري أنا وأنت؟
ألم نكن نعلم كم يتقاضون من وقت إنتخبناهم أم هي زيادات طرأت عقب غمس أصابعنا في الأزبري البنفسجي ذاك؟
وأنا كنت كلما شاهدت تظاهرة في محافظة جنوبية أو وسطى أو شمالية ولافتاتها تطالب بأمور من وزن "....منحنا حقوقنا المالية" أو "... مساواتنا بأقراننا.." (مقارنةً بمظاهرات وإعتصامات تطالب بمحاسبة الحكومة ورؤوسها الكبيرة عما إرتكبوه بحق الأبرياء وبحق العراق كله كوطن معروض للبيع) كلما شاهدت ذلك أصابني الإحباط من توحد النظرة صوب الخلاص ومن أي تحسن مرتقب للخروج من المطب الذي أوقع العراقيون أنفسهم به وهم ينتخبون كل متلون متعدد الوجوه يبذل الوعود ويزخرف العهود ومن ثم يدير ظهره لمن إنتخبوه ولسان حاله يقول "طز بيكم وبأبوكم وبروح اللي خلفوكم، أنتم إنتخبتم وعلى الناخب تدور الدوائر، القانون لا يحمي المنتخبين".
فها هي وجوه مجالس المحافظات الكالحة تلك تعود للظهور على الساحة رغم أن أهل المدينة مجمعون تقريباً على شتمهم مع كل نَفس يصعد أو ينزل، ومن لا يصدق فليجرب أن يفتح هكذا موضوع في أي تجمع أو داخل سيارة نقل عمومي.
ما نفع هكذا ديمقراطية تُبقي الكسيح ذاك راكباً على أكتاف الناس وساقاه تخنقان الرقاب التي تحمله إلى يوم القيامة؟
ما نفع ديمقراطية تتكفل بتوصيل المحتال والضلالي لكرسي الحكم المحلي وتؤهله لتعبئة المال الوفير بجيوبه المصرفية من دون أن تفرض عليه تحقيق وعوده ولو بالحد الأدنى؟
ما نفع نظام يكتشف تزوير الشهادات والتلاعب بالوثائق ومن ثم يتناسى الموضوع وكأنّه لم يحصل مطلقاً؟
أنت لو تقدمت كمقاول بعرض لتعمير دائرة ما لطالبوك بإيداع مبلغ من المال بحجة كونه (كفالة حسن أداء)، مبلغ يعلقونه لمدة سنة عقب إنهائك لإلتزاماتك كي يطمئنوا إلى أنك لن تركلهم وتغادر مهما حصل عقب مغادرتك من تردي في المشروع أو تكشفت من أعمال غش وخيانة ذمة.. هذا الإجراء لا مثيل له مع هؤلاء الذين يتنعمون بثقة الناخبين الذين منحوها (صك على بياض).
تلك الكفالة يطالب بها هؤلاء السفلة الذين يديرون محافظة من وراء جُدُر كبني إسرائيل أولئك كما وصفهم كتاب الله، يعاملونك كما لو كنت أنت الصهيوني المتربص بالعراق شراً وهم حماة الوطن والساهرون الغيارى على مصلحة البلد، كما لو كنت أنت المقصِّر من قبل خط الشروع حتى بينما هم في نهاية شوط دورتهم والتقصير يتلبسهم من قمة الرأس حتى الأقدام!
قبل أسابيع عرضت الشاشة تجمعاً لمحامين في الموصل يطالبون بإلغاء الرواتب التقاعدية. لاحظت بينها جملة وجوه لي معها تجارب مؤلمة ومخيبة للآمال من النوع الذي كنت قد كتبت عنه قبل سنين تحت عنوان (أناس أفقدوني الشعور بالمواطنة)، لذا عندما أرى أحداً منهم يهتف ويصرخ مطالباً بحجب الرواتب التقاعدية عن البرلمانيين تطفر لبالي بضعة أسئلة واقعية لا مفر من إيرادها:
1. لماذا لم تنتخ من قبل لكل الإنتهاكات تلك، لكنك هجت ومجت هذه المرة لأمر مالي بحت ولمنفعة تصب في جيوب البرلمانيين لا في جيبك، منفعة مهما كانت في غير محلها فهي تبقى لا تقارن بتقصيرات البرلمانيين الأخرى مما يطال حريات العراقيين وكرامتهم كتركيزهم على مصالحهم وكسطوهم على ميزانية البرلمان فيما بينهم كأيّة عصابة : الحالة الوحيدة التي يتوافق فيها سنة من العراق مع شيعة منه مع مسيحيين مع أكراد مع تركمان، من لا يتفقون في غيرها أبداً؟!
2. أستحلفك بالله وبكل مقدساتك: هل ستفعل ما هو أفضل من أولئك البرلمانيين لو وضعناك في محل الواحد منهم؟ هل ستلتفت لمطالب الناس وحاجاتهم وتفي بوعودك ووعودك؟ هل ستضع مصلحتك الشخصية ومنافعك في آخر الأسبقيات أم أنك ستكرر نفس ما خاض به هؤلاء؟
3. هل أنت لاطم على الحسين أم لأجل الهريسة؟
شخصياً: لا أرى أن هناك أحداً سيتصرف بأفضل من هؤلاء البرلمانيين المتنكرين للأصوات التي إنتخبتهم: أصوات البريّة! وليس هذا لإعطاء بعض الحق للبرلمانيين الحاليين ومن سبقوهم فأنا ضد العملية القميئة هذه، جملةً وتفصيلاً، لكن أنا أرى أنّ السفالة تكرر نفسها من دورة إنتخابية إلى ما يليها: مثل ركضة البريد: كل منهم يكرر ما فعله من سبقوه، لا بل ويبدع في إجتهادات شيطانية أخرى!
كما أنني أعاني من خيبة أمل عمومية لمجمل التردي الأخلاقي الذي ضرب المجتمع، قلّ أن تجد من تثق به وبما يبديه لك من ظاهر الأقوال والأفعال فعلام إستمرار الخوض في لعبة معروفة نتائجها؟
ليست المشكلة الكبرى هي في تقاضي البرلمانيين رواتب تقاعدية مهولة وليست المشكلة في سيارات مصفحة وقرطاسية وصحف بالملايين، ولا هي في فبركة موافقات علاجية لمؤخراتهم المستهلكة أو جهراتهم الزفرة وهم يبتلعون عشرات الملايين بالشهر مما يغنيهم أصلاً عن هكذا عمليات سحت حرام تنزل إليها دناءة نفوسهم. سيقول البعض "بل إنها مشكلة بحكم كونها نقيض رواتب الموظفين العاديين من حيث الفخامة والضخامة"، ولكن ماذا عن طبيعة عمل البرلمان ومدى شرعيته من عدمها بمعزل عن ضخامة الرواتب والمخصصات والإمتيازات؟
هل المهم هو تخفيف حمولة السارق أم إلقاء القبض عليه و قطع يده؟
المشكلة الكبرى تنبع من الأسئلة الأولى بالتناول هنا وهي:
ما الذي أنجزه البرلمان هذا طيلة هذه السنين؟
أين تذهب رواتبهم القارونية هذه؟
هل يفتتحون بها مصلحة بداخل البلد توفر خدمات وتقوي الإقتصاد وتكافح بعض البطالة مما يمكن تسميته ب (دورة رأس المال في الطبيعة)؟
أكيد لا فهم يحيلون ما يجمعونه إلى مصارف أجنبية إنتظاراً لشوط اللّحاق بها عقب إنتهاء المأمورية فالسارق والقاتل والخائن لا يمكنه أن يواصل الحياة في نفس البيئة التي تسرطن بها وعليها!
العملية كلها غلط في غلط والأسبقيات هذه لا تراعي الكرامة والشرف وحق الحياة بل تركز على الأمور المالية وكأنما لا قيمة للبشر، تذكرني بطلبات تعويض المواطنين التي تطفو في بيانات الهيئات والمنظمات والمرجعيات الدينية عقب كل مجزرة أو كارثة تقصر بها أجهزة الدولة. أول شيء تسمعه مقترناً ببيانات الشجب والإستنكار هي المطالبة بالتعويض المادي، ولا شغل لأحد بتقصير المتسببين عن الأرواح التي أهدرها التقصير، هان الناس فهانت عليهم أنفسهم، لذا يبقى المسيء في منصبه دوماً وتبقى آلية التقصير بالعمل هي هيَ نفسها، فالحكومة تسحب من لحم ثور جحا لتطعمه وتهدهد أعصابه كي ينام قرير العين!
أفهم أنها موروثة عن تقاليد الفصل والديّة حيث التعويض المادي هو محور الحل لفقدان روح عزيزة لكن هذا ليس من باب القتل الخطأ وغير المقصود، إنه عمل منظم وجماعي مدعوم من قبل المحتل وجارة السوء، يقود لقتل أمّة كاملة ويتولاه من يعتبرون قادة الأمة وبناة نظامها الدستوري والتشريعي بنظر العالم الخارجي.
هناك فلسفة للإجراءات العقابية، فما يصح معه التنبيه لا يحبذ اللجوء فيه لقطع الراتب، وما تنطبق عليه فقرة قطع الراتب لا يعقل أن يصار فيه للنقل من الدائرة، فتلك التجاوزات هي من باب الظلم ولا تقود لجعل المقصر ينتبه لخطئه ومن ثم فقد يصلح نفسه ويصحح مسيرته. وعلى نفس المنوال فهو غير منطقي بالمرة أن يتم التنازل بالإجراءات من الأعلى للأسفل لأن ذلك يفقد العقوبات مصداقيتها ويسلبها فاعليتها، فذلك يهدي معاني المثل التالي للمسيئين "الضربة التي لا تكسر ظهرك تقويك"!
أنت عندما تخفف عقوبة المسيء دون وجه حق فأنت تطعن المخلصين بظهورهم وتنقل لهم عبارة سوداء مفادها أن تربية أهاليهم لهم وجملة ما آمنوا به ونفذوه لخدمة بلدهم إنما هو وهم لا وجود له ولا قيمة، فهي دعوة لهم للإنحراف هم أيضاً، كما أنك تهيب ببقية المسيئين في الدائرة من حيث قد لا تفطن كي يطمئنوا لسلامة مواقفهم وأنهم بمأمن من العقاب طالما ظلوا في غيّهم سادرين.
عندما يكون إستحقاق المقصر هو قطع كفّيه، فإن الإكتفاء بقرص أذنه يعني "أبالك وإيّاك اتسوّيهه" وسيفهمها هو بدوره على أنها "روح بفالك، بس ما أوصيك؟ داري أموراتك زين من يوم وجاي"!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق