وجهات نظر
عمران الكبيسي
العسكر هم العسكر، والتاريخ يعيد نفسه، وما أشبه اليوم بالبارحة، والعنف يلد عنفا، مقولات تكررت في مقالاتنا عن مصر العروبة، وقد تسمَّرت أياما أمام الفضائيات، أراقب بألم بالغ تداعيات الأحداث ومنها فض اعتصام رابعة العدوية والنهضة وما تلاها من احداث محزنة موجعة للقلب، ويطرق سمعي هاتف كجرس الإنذار، قرية كرداسة، فتقفز ذاكرتي 40سنة إلى الوراء، كنت طالب دراسات عليا بجامعة القاهرة 1976ـ، وأسكن بشارع الهرم قريبا منها، فاستضافني زميل من أهلها يوما كاملا تعرفت إلى أهلها وقصة عروسها.
كرداسة أكبر قرى الجيزة، تبعد أربعة أميال يمين شارع الهرم، تطل عليها قمة هرم خوفو، تتوسد ترعة المنصورية، محاطة ببساتين الفاكهة ومزارع الخضار، مكتفية ذاتيا، فيها مصانع للنسيج، وحظائر للمواشي، وأهلها متعلمون لا يخلو بيت من مكتبة تتصدر غرفة الضيوف، ويحمل أهلها ذكريات كابوس مرعب لواقعة عرس عاشوه أيام عبدالناصر، واختزنته ذاكرتهم وأرويها كما سمعتها:
تزوج عام 1965 احد شباب كرداسة بفتاة من القاهرة، وكان عرسا مشهودا لبيت موسوم بالتدين. وفي اليوم الثامن تحديدا خرج زوجها للعمل، وقبل العودة مساء حل بالقرية ثلة رجال غرباء يستدلون على بيت العريس، يدعون أنهم جاءوا يباركون، وحين لم يجدوا العريس اقتادوا العروس، فتصور الناس أنهم يريدون اختطافها فأوقفوهم وضربوهم وأسقطوهم أرضا وحرروا العروس، وتبين بعدها أنهم “شرطة عسكرية” وان مصيبة ستحل بهم. مضت سويعات لتحضر قوة يرأسها شمس بدران وزير الداخلية بنفسه. جمع الناس بساحة المدرسة وعلى رأسهم العمدة وأسرته، ليقول: لدي أوامر بمسح القرية عن آخرها، ثم توعدهم وغادر. فرقت العساكر بعده الرجال عن النساء والصبيان، وأمرت كل زوجة أن تدعس على ظهر زوجها، وكل صبي بإهانة أباه أمام الآخرين عقابا لمن أساؤوا الأدب، كما زعموا، وأشاعوا في القرية رعب اليوم الأعظم، واقتادوا رجالا ونساء إلى السجن الحربي، وحكم على العريس وآخرين بعشرين عاما سجنا، والتهمة الانتماء إلى تنظيم إسلامي متشدد محظور.
مرَّت سنوات وكرداسة لا تنسى أحزانها، غرس الحقد في رحمها، وكبتته داخلها، أصبح اغلب شبابها من الإسلاميين المتشددين كيدا بالدولة وكرها، يشاركون في كل مناسبة تظاهر واحتجاج، يناوئون الحكومات وفي مقدمة من يثور بعنف ضد مراكز الشرطة والعسكر، تأصلت صدمة عروس كرداسة في أعماقهم، وحفرت في صدورهم الكره لقوى الأمن، وظلوا يتحينون الثأر لكرامتهم بتشوق، يقدمون الضحايا في كل صدام مع الحكومة. وفي ثورة 25 يناير عبثوا بمركز الشرطة واعتدوا على العساكر وسقط منهم شهداء في الثورة على مبارك، وتظاهروا أيام حكم الرئيس مرسي احتجاجا على وزارة الداخلية والقضاء لتأخر إصدار الأحكام بحق شرطة قتلوا المتظاهرين أيام الثورة.
وبعد محاولة الجيش والشرطة فض اعتصام رابعة العدوية وساحة النهضة بالقوة، قتل بعض أهل كرداسة المعتصمين في النهضة على بعد أميال منها، فثار أهلها واحتلوا المركز، وحرروا أسلحة عساكره، وقتلوا أربعة ضباط - اثنان برتبة لواء واثنان برتبة عقيد - وعددا من الشرطة واحرقوا المقر، وقفزت كرداسة إلى واجهة الأحداث ثانية تتصدر أخبار وزارة الداخلية والقنوات الفضائية، فذكرتني بقصة عروسها أيام زمان وما ترتب عليها من آثار سلبية وأعادت للناس المشهد، ومن يزرع الشوك لا يجني العنب.
العسكر هم العسكر، والتاريخ يعيد نفسه، وما أشبه اليوم بالبارحة، والعنف يولد العنف، فهل فكر مقتحمو اعتصام رابعة العدوية والنهضة بقوة وقسوة أودت بحياة المئات بما سيلد من رحمها؟ ورحم القرى التي تداهم اليوم بالطائرات والدبابات في رفح والشيخ زويد وقرية الدجا وغيرها بالنتائج الوخيمة على وطنهم وشعبهم جراء العنف المفرط؟ هل حسبوا ردود الفعل والآثار السلبية المقبلة؟ حين يقص كل معتصم ومتظاهر ومحتج، لأبنائه وأحفاده ما عاش وما شاهد من جثث المساجد والميادين المتفحمة، وتجريف الموتى بالجرارات؟ وقنص الفتية والفتيات، وكيف ستكون نقمة الأجيال من ذوي القتلى يتوارثونها عن سوء إدارة العسكر وقسوة تعاملهم؟ ألم نعتبر من قصة جنوح الطبيب الجراح أيمن الظواهري إلى فكر القاعدة وردة فعله تجاه اعتقاله وتعذيبه رغم براءته من دم الشيخ الذهبي؟ فكم مجموعة إرهابية؟ وكم حاقد ستخلف مجزرة فك الاعتصام بالنار والحديد ناقمة على الحكومات وقوى الأمن تتحين الفرص للثأر؟ وماذا لو ولد عشرات من أمثال عرس كرداسة من رحم اعتصام رابعة العدوية، ترى كم أيمن الظواهري يوشك أن يولد من اعتصام النهضة؟ وكيف ستنظر الأجيال إلى جيش أولغ قادته بالدم؟ وهل سيثقون برئيس وحكومة وجيش وشرطة هذا شأنها بغض النظر عما إذا كان المعتصمون مجرمين أم أبرياء؟ يستحقون أم لا يستحقون؟ “اخونجية” أم عامة الناس؟ تظاهروا سلما أم لا، والمثل المصري يقول: “عمر الأسى ما يتنسى”.
ملاحظة:
نشر المقال هنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق