وجهات نظر
نواف شاذل طاقة
على الرغم من صدوره قبل نحو تسع سنوات، ما برح كتاب (ثورة النخب.. وخيانة الديمقراطية) الذي ألفه عالم الاجتماع الأمريكي الراحل كريستوفر لاش (1932-1994)، يثير جدلا متواصلا بين أوساط المثقفين في الغرب.
يتناول الكتاب أزمة الديمقراطية في الغرب، وفي الولايات المتحدة تحديدا. ويتعرض لاش في احد فصوله إلى التطور الذي بات يلقي بظلاله على مفهوم الدولة-الأمة او ما يُعرف عربيا في بعض الاحيان باسم الدولة القومية.
وترجع جذور مفهوم الدولة-الأمة إلى اتفاقية ويستفاليا لسنة 1648، وهو المفهوم الذي شهد تطورا عبر التاريخ حتى تبلور عند منتصف القرن التاسع عشر بشكله الحالي، وتأسست في ضوئه بعد ذلك دولنا الحديثة بحدودها المعروفة. وتُعَرِّف احدى الموسوعات الغربية هذا المفهوم باختصار، على أنه "شكل من أشكال التنظيمات السياسية يعيش فيه قوم متجانسون نسبيا في إطار دولة ذات سيادة، مع التأكيد بأن الدولة قد تضم بين طياتها قومية واحدة أو عدة قوميات".
وعن الوهن الذي أصاب الدولة-الأمة في الغرب، يقول الكاتب، أن النظام الاجتماعي الغربي كان في السابق عرضة للتهديد من جانب "الثورات الجماهيرية" والتقاليد الحضارية الموروثة.
وفي وقتنا الراهن، يعتبر كريستوفر لاش أن الأخطار الرئيسية التي تهدد المجتمعات الغربية تأتي من قمة الهرم الاجتماعي، وليس من قعره، أي ليس من جانب الجماهير، في إشارة إلى النفوذ الذي باتت تكتسبه النخبة المعولمة ذات الثراء الفاحش والتي صارت تسيطر على اقتصاديات العالم الغربي أو على "التدفق العالمي للأموال"، على حد وصف الكاتب.
وهكذا يرى كريستوفر لاش أنه "في ظل الاقتصاد العالمي الذي لا يعرف الحدود، خسر المال صلاته بالقومية"، وأن النخب في سعيها المحموم هذا نحو الثراء تخلت عن الطبقة الوسطى، وتقوقعت داخل أبراجها العاجية، وخانت الديمقراطية، فالحقت الدمار بدولتها القومية. أما بخصوص أسباب ضعف الدولة-الأمة، فيعتقد الباحث بأن ذلك مرتبط بتراجع الدور الذي تلعبه اليوم الطبقة الوسطى في عموم مجتمعات العالم. يستنتج الكاتب بان الطبقة الوسطى ساهمت إيجابيا لفترات طويلة في إثراء مفهوم المكان الذين وجدت نفسها فيه، وفي إسباغ الاحترام على فكرة التواصل التاريخي.
يخلص لاش إلى القول أنه بمعزل عن الاخطاء التي ارتكبتها، فقد نجحت الطبقة الوسطى، عبر تمسكها بهويتها القومية، في خلق أرضية مشتركة، ومعايير ثابتة، وإطار مرجعي مشترك، من دونه يتلاشى المجتمع ولا يغدو أكثر من محض أساطير متصارعة أو حرب يخوضها الجميع ضد الجميع.
من جانب آخر، يتطرق الكاتب في أحد فصول كتابه إلى العالم الثالث، إذ يقول لاش، بعد ان استعرض بعض الازمات السياسية والحروب العرقية التي وقعت في بقاع كثيرة من آسيا وأفريقيا وأجزاء من أوروبا: "إن ضعف الدولة-الأمة يبرز في جميع التطورات السياسية التي تحصل اليوم، أي التوجه نحو التوحد مقابل التوجه المعاكس نحو التقسيم. فالدول لم تعد قادرة على احتواء صراعات عرقية محددة، ولم تعد قادرة أيضا على احتواء القوى الدافعة باتجاه العولمة".
ويمضي الكاتب موضحا: "عقائديا، تتعرض القومية إلى هجوم من كلا الجانبين: من دعاة الخصوصية العرقية، ومن أولئك الذين يقولون بأن الأمل الوحيد في بلوغ السلام يكمن في تدويل كل شيء بدءا من الأوزان والمقاييس وصولا إلى التأملات الفنية".
قد يكون ما عرضه هذا الباحث ليس بجديد، ولكن ما يثير الانتباه، قدر تعلق الأمر بالأوضاع العربية، ثمة إشارة أخرى وردت في مقابلة أجرتها مؤخرا واحدة من المواقع المتخصصة مع مبعوث بريطانيا السابق إلى العراق السفير جيريمي غرينستوك وهو يتحدث عن الأزمات في المنطقة، ومنها العراق، حيث ردد الدبلوماسي البريطاني السابق ذات الجمل التي جاءت في كتاب لاش، وبالاخص قوله أن"الدول الحديثة لم تعد تستوعب أو لم تعد قادرة على احتواء الصراعات العرقية فيها". يمضي غرينستوك ليصبح أكثر وضوحا في حديثه عندما يؤكد بأنه "لم يعد بالامكان الحفاظ على الحدود التي رسمها السياسيون في القرن العشرين".
كل هذا يشير بشكل لا لبس فيه إلى تفاعلات وتحولات مقبلة سيشهدها العالم. فكما ظهرت مفاهيم مثل الدولة-الأمة قبل نحو قرنين واندثرت مفاهيم مثل الامبراطوريات والدول الدينية، فان دولنا التي نعيش فيها اليوم قد لا نجدها بعد 20 أو 30 سنة، أو ربما أقل من ذلك بكثير.
وفي الظروف الطبيعية، كان من المفترض أن تقف الطبقة الوسطى في العالم العربي بوجه محاولات نسف المجتمعات العربية من الداخل، غير أن هذه الطبقة أجبرت على التخلي عن دورها في بعض البلدان العربية التي تعرضت إلى هزات اجتماعية شديدة سواء كان ذلك جراء احتلال اجنبي ارغم الغالبية العظمى من هذه الطبقة على مغادرة البلاد، كما حدث في العراق، أم من خلال حروب أهلية وإضطرابات داخلية شجعت هذه الطبقة على ترك البلاد والتخلي عن دورها.
خلاصة القول، ان الضغوط الواقعة على الدولة-الأمة، سواء في دول الجنوب أو الشمال، باتت تهدد النظم الاجتماعية القائمة. بيدّ أن المثقفين والبحاثة الغربيين ما انفكوا عاكفين على دراسة وقع العولمة على دولهم القومية وعلى مجتمعاتهم، وتأثير الشركات متعددة الجنسية والثورة المعلوماتية على التنظيمات السياسية السائدة لديهم، في حين تغيب مثل هذه الدراسات عن مجتمعنا العربي.
في الواقع، ليس ثمة مشكلة في التحولات ذاتها، فالتحول أو التطور أو التغيير، سمه ما شئت، هو سمة التاريخ، ولكن المهم في كل هذا هو أن تكون المجتمعات مدركة أولا، وقادرة ثانيا، على السيطرة على هذه التحولات وتوجيهها في مسار يخدم مجتمعاتها، وألاّ يتركوا الآخرين يتحكمون بهذه التحولات لصالحهم. وما لم تعِّ الشعوب العربية والقوميات التي تسكن المنطقة كنه هذه التحولات وضرورة التحكم بها فان الامة مقبلة مرة أخرى على سايكس-بيكو جديدة يقع فيها العرب والأقليات المتناحرة في المنطقة مجددا ضحية مخططات الكبار!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق