وجهات نظر
جمال خاشقجي
بدا رئيس حكومة تركيا رجب طيب أردوغان الإثنين الماضي واثقاً مطمئناً وهو يعلن حزمة الإصلاحات التي وعد بها. إنها الأخطر في تاريخ تركيا الحديثة، ذلك أنها تمسُّ «الهوية»، ولكن بدت مهمته سهلة يومها، ذلك أنه حسم معركته مع الجيش والاستخبارات والقضاء قبل ذلك بسنوات، لذلك كان سهلاً أن يلغي نشيداً قومياً مغالياً في الأتاتوركية، ويسمح بالحجاب، والتعليم باللغة الكردية، مسائل كانت كفيلة بجره إلى المشنقة لو أننا في العام 1960 مثلما حصل لأول رئيس وزراء يتحدى الأتاتوركية، عدنان مندريس. كم تغيّرت تركيا منذ ذلك الزمن!
ولكن أردوغان لم يكمل مهمته بعد، بقي الدستور وقد وعد بكتابة دستور جديد لتركيا «متفق مع معايير الحقوق الأساسية الأوروبية». ذكي هذا الرجل، حوّل قضية الانتماء لأوروبا إلى مكسب لتحقيق أجندته في تعميق الديموقراطية وسلطتها، بعدما كانت مسألة خلافية حادة مع القوى العلمانية التي حاولت فرض عملية «تغريب» على المجتمع التركي، كأن أردوغان يقول للأتراك: «إذا أردتم أن تكونوا غربيين، فيجب أن تكونوا ديموقراطيين، ثم اتركوا المجتمع يختار الهوية التي يريد».
في البداية حاولت النخبة السياسية التي صنعها مؤسس تركيا الحديثة مصطفى كمال أن تكون ديموقراطية. في العام 1924 وضعوا (وحدهم) دستوراً لتركيا، من دون مجلس تأسيسي منتخب أو إشراك أحزاب وتيارات أخرى، كان دستورهم يدعو للمفاهيم العامة السائدة للديموقراطية، ولكنه «لم يضع أي ضوابط أو توازنات رقابية ضد السلطة المطلقة للغالبية البرلمانية، فسمح بقيام نظام الحزب الواحد الاستبدادي الذي استمر حتى عام 1946» كما يقول الباحث أرغن أوزبدون بجامعة بلكنت التركية في مقالة مطولة له عن الدستور التركي الجديد نشرت بمجلة «رؤية تركية» أخيراً، وقد استندت إليها في كثير من المعلومات الواردة في مقالتي هذه.
عندما تحولت تركيا نحو ديموقراطية حقيقية بعد الحرب العالمية الثانية، فأفرزت الانتخابات ممثلين حقيقيين عن الشعب كما هو، وليس كما تتمنى النخبة السياسية والثقافية المتسيّدة والمتحالفة مع جيش عقائدي ورجال المال، التي ترى دوماً أنها تعرف الأفضل للشعب، فرفضت النتيجة وتآمرت لإسقاط بل حتى إعدام أول رئيس وزراء منتخب من خارج الحزب الحاكم، عدنان مندريس، على رغم أنه نجح اقتصادياً، وأحدث نهضة صناعية في تركيا، وعزز علاقات بلاده بالغرب، وضمها إلى حلف الناتو، ولكنه أيضاً سمح بعودة الأذان بالعربية والتعليم الديني، وظل ينجح في أي انتخابات تُجرى في البلاد، فحركت القوى العلمانية والجيش تظاهرات بدأت في الجامعات، وتحولت إلى أحداث شغب في شوارع المدن الكبرى تبيّن لاحقاً أنها كانت مخططة، فاستغلها الجيش ذريعة وتحرك في أيار (مايو) 1960 ليقود أول انقلاب عسكري صريح «لإنقاذ تركيا».
منذ ذلك اليوم، بدأ العبث في الدستور التركي، بصياغته بشكل يحمي رؤية النخبة الكمالية للمجتمع التركي ومستقبله واختياراته، بوضع ضوابط تضمن «عدم انحراف المسار الديموقراطي»، فيرى الأستاذ في العلوم السياسية بجامعة الشرق الأوسط التقنية بأنقرة الباحث إحسان داغي أن واحدة من أكبر أزمات الكماليين مع الديموقراطية أنهم «لا يثقون بالأشخاص غير المتعلمين، المعرّضين للخداع من قبل الساسة ذوي الشعبية والآيديولوجيات (المعادية للثورة)، وأن الناس بحاجة إلى من يرشدهم وينير لهم الطريق».
بالتالي عمدوا في الدستور الذي كتبوه بعد الانقلاب (مرة أخرى من خلال لجنة معينة وليست منتخبة، مستبعداً كل نواب الحزب الديموقراطي الفائز بآخر انتخابات)، إلى وضع ما يمكن وصفه بمبادئ «فوق دستورية» تحكم الدستور، وسمّوها «المبادئ الأتاتوركية»، وتكرس ذلك بشكل أكثر شراسة بعد انقلاب 1980 الذي صاغ دستوراً ثالثاً بلجنة معينة بالكامل بعد حل كل الأحزاب السياسية، فامتلأ الدستور- الذي لا يزال يُعمل به، وهو موضوع معركة أردوغان القادمة - بعبارات استبدادية مثل «لا يجوز حماية أي فكر أو عمل يتعارض مع القومية الأتاتوركية، أو إصلاحات، ومبادئ أتاتورك»، كما توجد 3 مواد أساسية لا يمكن تعديلها حتى بإجماع الأصوات تحكم الدستور، مثل المادة الثانية التي تصف الجمهورية التركية بـ «الموالية لقومية أتاتورك»، والمادة 58 التي تمنح الدولة «مهمة تربية وتثقيف الشباب وفقاً للفكر الكمالي».
معركة أردوغان وحزبه هي إزالة كل هذه الإشارات التي تتعارض مع المعايير الأوروبية للحريات، على أساس أن المبدأ الأول للدستور الديموقراطي هو عدم وجود «آيديولوجية رسمية له»، مثل تلك الاشتراطات «الكمالية».
التحدي الثاني هو إزالة «الضمانات» لحماية المبادئ الأتاتوركية المشار إليها، وهي التي تميز دستور 1982، إذ يبدو أن العسكر شعروا بضرورة وجودها بعد انقلابهم الثاني، إذ عادت الحياة الديموقراطية على رغم اشتراطات دستور 1961 (الانقلاب الأول)، فطغت على دستورهم الجديد روح وصائية على الدولة تظهر عدم ثقة المؤسسة العسكرية بالساسة المدنيين، حتى العلمانيين منهم، فجعلوا لأنفسهم وضعاً تفضيلياً فوق الحكومة من خلال مجلس الأمن القومي، فكانوا خط الحماية الأول، ثم جعلوا «القضاء» خطاً ثانياً، وسلّحوه من خلال المحكمة الدستورية بصلاحيات مكّنته من حل عشرات الأحزاب، بل إن حزب أردوغان نفسه كاد وعلى رغم نجاحه وغالبيته البرلمانية أن يحل بقرار قضائي عام 2008 (أي قبل 5 أعوام فقط) ونجا بفارق صوت واحد.
رئاسة الجمهورية أيضاً كانت واحدة من خطوط الحماية، إذ صيغت صلاحيات الرئيس ليكون الضامن للدستور، وكان ذلك مناسباً وذكياً عندما توج قائد انقلاب 1980 الجنرال كنعان ايفرين بمنصب الرئيس، ولعلهم كانوا مؤملين أن يتوالى على المنصب دوماً قادة عسكريون، وهو ما لم يحصل نتيجة قوة التاريخ التي لا تخدم الاستبداد وحكمة ساسة مدنيين آمنوا بالتدرج مثل تورغوت أوزال، الذي قبل به العسكر على مضض ليخلف ايفرين على رئاسة الجمهورية، ويمكن النظر إليه بأنه الرجل الشجاع الذي قبل أن يكون الجسر بين زمن استبداد العسكر وزمن الديموقراطية، بل ربما دفع حياته ثمناً لذلك، إذ شهد الشهر الماضي أولى جلسات محاكمة ضابط كبير متهم بدس السم له قبل 20 عاماً.
معركة الديموقراطية طويلة وقاسية في عالمنا، تحتاج صبراً وحكمة وتدرجاً، وليس غضباً وتظاهرات، ولعل هذا ما يفسّر صمت أردوغان عن مشروع كتابة الدستور الجديد على رغم أن الجميع يعلم أن اللجنة المكلفة بذلك قطعت شوطاً طويلاً فيه.
ملاحظة:
نشر المقال هنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق