وجهات نظر
أحمد دياب
غالباً ما يكون النصر مجرد بداية للمزيد من الحروب،
ذلك أنه ما أن تندلع الحرب حتى تنكأ جراحاً يصعب مداواتها لاحقاً لتصاب بالتعفن
وتبقى الحرب مستمرة، ويرى الباحث في معهد «كاتو» الأميركي دوج باندو أن تفكك
الاتحاد السوفياتي السابق ترك أميركا باعتبارها القوة المهيمنة عالمياً، فجعلت
واشنطن الحرب شيئاً مألوفاً، وأصبح القصف والغزو واحتلال دول أخرى، مجرد مبادرة
سياسية يطلقها رؤساء من كلا الحزبين الكبيرين، إذ قامت واشنطن بشن سلسلة حروب
لتصفية فلول وجيوب حروب الأيديولوجيا.
وقال الرئيس السابق جورج دبليو بوش أثناء خطابه عن
«حالة الاتحاد» لعام 2006، إن: «جيلنا الحالي يخوض حرباً طويلة ضد عدو مصمم على
خوضها». كما أعلن وزير الدفـاع السابق دونالد رامسفيلد بعده بشهور قليلة أن هذه
الحرب قد تستمر نحو 40 عاماً قادمة. وسرعان ما بدأ المصطلح بالانتشار. ففي العام
2010، تبنت مجموعة في البنتاغون وبعض زملائهم خارج الوزارة عقيدة أطلقوا عليها
تسمية «الحرب الطويلة»، التي قد تستمر لما يتراوح بين 50 -80 سنة.
بيد أن الحروب الأميركية الطويلة في النصف الثاني
من القرن العشرين، والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، سرعان ما ساعدت على
صعود القوى الآسيوية. فانشغال الولايات المتحدة في الحرب الباردة مع الاتحاد
السوفياتي السابق لمدة 40 عاماً تقريباً، التي اتخذت شكل سباق التسلح النووي
الباهظ (أنفقت الولايات المتحدة وحدها 16 تريليون دولار) والحروب التقليدية
الطويلة في كوريا (1950- 1953) وحرب فيتنام طوال الستينات الماضية، ساعد على صعود
اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان على التوالي. فهذه الدول كانت ساحة خلفية للمجهود
الحربي الأميركي في تلك الحروب، فضلاً عما قدمته واشنطن لهذه الدول من مساعدات
كيلا تقع فريسة للشيوعية وتكون عوناً لها في حروبها مع الاتحاد السوفياتي السابق
وأعوانه في آسيا. ولا ننسى أن دواعي الحرب الباردة وتوازناتها كانت سبباً قوياً في
الانفتاح الأميركي على الصين ومساعدتها اقتصادياً وعسكرياً.
نتائج الارهاب
لكن الاستفادة الصينية الكبرى جاءت على خلفية تورط
أميركا في ما تسميه الحرب على الإرهاب غداة هجمات 11 أيلول 2001، إذ تمددت أميركا
أكثر بكثير من طاقتها وذلك بكلفة اقتصادية فادحة. إذ ارتفع حجم الإنفاق العسكري،
من الناتج القومي الأميركي من 3 في المئة العام 2001 إلى 5.1 في المئة العام 2011،
ووفق «معهد ستوكهولم للسلام الدولي» العام 2011، فإن الولايات المتحدة تنفق الآن
على القوة العسكرية بقدر ما تنفقه دول العالم كافة تقريباً - وست مرات أكثر من
البلد الذي يخصص ثاني أكبر موازنة للدفاع، وهو الصين.
وأفاد تقرير أعده معهد «واطسون» للدراسات الدولية
التابع لجامعة «براون» في نهاية حزيران (يونيو) 2011 (بمشاركة 20 أكاديمياً) عن
تكاليف الحروب الأميركية بأن إجمالي كلفة هذه الحروب ستناهز 3.7 تريليون دولار على
الأقل، ويمكن أن تصل إلى 4.4 تريليون دولار.
وستظل هذه الأرقام في ارتفاع باعتبارها لا تشمل
تكاليف لا يجري الالتفات إليها عادة مثل الالتزام على المدى الطويل بجرحى
المحاربين القدامى والإنفاق الحربي المتوقع بين عامي 2012 و2020. كما لا تشمل
تريليون دولار على الأقل من مدفوعات فوائد مستحقة وبلايين أخرى من تكاليف لا يمكن
إحصاؤها مثل موازنات العمليات السرية لأجهزة الاستخبارات، أو مئات الملايين التي دفعت
على شكل «تعويضات وفاة» ارتجالية، لعائلات الأميركيين وبعض الأجانب الذين قتلوا في
تلك الحرب. لكـــن النتيجــــة الأكثر إثارة للقلق، هي أن تلك الحروب قد تكلف
أميركا في السنوات المقبلة تريليوني دولار، على شكل أقساط فوائد على ديون الحرب،
واستمرار تكاليف الرعاية الصحية لحوالى 150 ألف جندي سابق مصاب. ويمكن أن تكلف
هاتان الحربان أميركا في نهاية المطاف 6 تريليونات دولار أو أكثر، في حال تمت
إعادة الجنود إلى أميركا حالياً.
وعلى مدى الأعوام الثمانية التي قضاها الرئيس جورج
بوش الابن في الحكم تضاعف حجم الدين الأميركي من 5.7 تريليون دولار ليصل إلى 11
تريليوناً. وفي ولاية أوباما الأولى ارتفع الدين الخارجي الأميركي إلى 16
تريليوناً، ومن 32 في المئة العام 2001 إلى 72 في المئة من الناتج الإجمالي العام
2012. وبلغ 18.7 تريليون دولار في 30 أيلول (سبتمبر) 2013، بنسبة 77 في المئة من
إجمالي الناتج المحلي. كما تواجه في العقد المقبل عجزاً متوقعاً بقيمة 6.3 تريليون
دولار. في المقابل فإن الصين احتلت، العام 2003، المركز السادس عالمياً في إجمالي
الناتج القومي، وتجاوزت فرنسا في العام 2004، وبريطانيا في العام 2006، وألمانيا
في العام 2009، واليابان في العام 2011، بإجمالي ناتج قومي يبلغ نحو 7 تريليونات
دولار، واحتياطي من النقد الأجنبي يُقدر بـ 3.6 تريليون دولار، وصارت الصين أكبر
دائن للولايات المتحدة، حيث تحوز سندات خزانة أميركية بلغت قيمتها 1.28 تريليون
دولار في 31 تموز (يوليو) 2013. وتشير مؤشرات المؤسسات الدولية إلى أنه في العام
2016، أي في نهاية ولاية أوباما الثانية، ستصبح الصين أكبر اقتصاد في العالم.
إن الحروب والديون هي عنوان انهيار الإمبراطوريات،
كما يقول المفكّر البريطاني جون غراي في آرائه الشهيرة التي نشرها في صحيفة
«أوبزرفر» البريطانية في تموز (يوليو) 2010، وتوقع فيها نهاية العصر الأميركي،
مشيراً إلى أن القوة تتسرب من الولايات المتحدة في شكل سريع، وأن الأميركيين يجب
ألا يغفلوا عن حقيقة أن قيادة بلادهم للعالم تنحسر. واعتبر الكاتب المتخصص في
الشؤون السياسية التاريخية تيموثي غارتون آش في أيلول (سبتمبر) 2011، أن العقد
الذي تلا هجمات سبتمبر، كان مجرد «تحويلة» عن الطريق الرئيس للتاريخ تنتقل فيها
القوة من الغرب إلى الشرق، واعتبر أنه في الذكرى الثلاثين لتلك الهجمات لن يعتبر
المؤرخون أن «الإرهاب الإسلامي» هو الذي حدد السياسات في العالم، بل سيشيرون إلى
أن الذي حدد الحقبة التي تلت تلك الأحداث هو التحول التاريخي الذي تنتقل فيه
السلطة من الغرب إلى الشرق حيث تكون الصين أكثر نفوذاً، والولايات المتحدة أقل
سلطة، والهند أكثر قوة، والاتحاد الأوروبي أكثر ضعفاً. وتوقع تقرير أعدته
الاستخبارات الأميركية لرصد «الأنماط العالمية» بحلول السنة 2030، في 10/12/2012،
انتهاء الهيمنة الأميركية و«تخطي الاقتصاد الصيني» لمنافسه الأميركي خلال أقل من
عقدين، فيما ستأخذ آسيا من أوروبا وأميركا الشمالية قيادة العالم.
ملاحظة:
نشر
المقال هنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق