وجهات نظر
بشير موسى نافع
وقعت إيران ومجموعة 5 + 1 اتفاقاً مرحلياً حول ملفها النووي في
ساعة متأخرة من مساء السبت 23 تشرين ثاني/نوفمبر. لم يكن الحدث مفاجئاً، فالمؤشرات
على اقتراب التوصل لاتفاق كانت تتزايد منذ زيارة الرئيس روحاني لنيويورك في
أيلول/سبتمبر الماضي. ولكن عدداً من القوى الإقليمية كان يأمل، حتى اللحظة
الأخيرة، في أن يفشل المفاوضون في حل ما تبقى من مسائل عالقة. وما إن وقع الاتفاق
حتى بدأ ما يعرف بالخبراء في رسم سيناريوهات لخارطة التحالفات والتوازنات في الشرق
الأوسط لما بعد الاتفاق.
والأرجح أن انتخاب روحاني جاء ليعزز فرص التوجه الإيراني الجديد، ويوفر مسوغاً للمقاربة الأمريكية للعملية التفاوضية. ما دفع إيران للبحث عن تسوية كان حجم الأعباء التي ألقتها العقوبات الغربية، سيما في حزمتها الأخيرة، على عاتق البلاد. في العام الماضي، تراجع إنتاج النفط الإيراني بما يزيد من خمسين بالمئة، وانكمش الاقتصاد بنسبة خمسة بالمئة، وارتفعت معدلات البطالة بما يزيد عن عشرين بالمئة، طبقاً لبعض الإحصاءات.
في ظروف عادية، لم تكن مثل هذه الأعباء لتكسر إرادة دولة إيديولوجية، واضحة التوجهات. ولكن المشكلة أن ثمة تيارا سياسيا معارضا في إيران، يزداد تبلوراً وانتشاراً منذ 2009، وفي حال تفاقمت أزمة الاقتصاد الوطني والمالية العامة، لم يكن من المستبعد أن يصبح التدهور الاقتصادي سلاحاً فعالاً في يد المعارضة. كما إن الأثر البالغ للعقوبات، من جهة أخرى، بات يهدد المكاسب الجيوسياسية التي حققتها إيران في العراقولبنان وسورية منذ انطلاق حرب جورج بوش الابن على الإرهاب. بكلمة أخرى، أصبح على إيران التضحية بطموحاتها النووية من أجل الحفاظ على وجود الجمهورية الإسلامية والنفوذ الإقليمي القلق الذي أنجزته في العقد الأول من هذا القرن.
أما ما دفع إدارة أوباما للبحث عن تسوية فكان هموماً من نوع آخر، هموم القوى العظمى وهي تواجه إرثاً ثقيلاً للحروب الأمريكية في المشرق العربي والإسلامي، وتحديات اقتصادية واستراتيجية متزايدة في مناطق أخرى من العالم.
منذ توليه مقاليد الأمور في البيت الأبيض، أظهر أوباما تصميماً على وضع نهاية لحروب الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وإعطاء اهتمام أكبر بمصالح الولايات المتحدة في حوض الباسيفيك والتحديات الاستراتيجية التي تمثلها الصين، ما يسمى بسياسة المحور الاسيوي (Asian Pivot). وتدرك إدارة أوباما، كما إدارة سابقة، أن الخيار البديل للدبلوماسية للتعامل مع الملف النووي الإيراني هو الحرب؛ وخيار الحرب، أولاً، ليس مضموناً لوضع نهاية لمشروع نووي موزع في أنحاء بلاد واسعة؛ كما إنه، ثانياً، خيار محفوف بالمخاطر، مخاطر لا تنتهي عند احتمالات الرد الإيراني على أية ضربة توجهها الولايات المتحدة. ولكن أوباما، مستخدماً السيطرة الغربية شبه الكاملة على النظام المالي والاقتصادي العالمي، فرض عقوبات بالغة الضرر على إيران، مؤكداً عزمه على منع إيران من اكتساب القوى النووية.
في لحظة ما، في ربيع هذا العام، التقت تقديرات الطرفين، وأطلقت بالتالي جولة من المباحثات السرية في سلطنة عمان، أوصلت إلى لقاءات نيويورك ومباحثات جنيف. وكانت النتيجة اتفاقاً مرحلياً حتى الآن، يستمر العمل به لستة شهور، بانتظار انطلاق جولة جديدة من المفاوضات للتوصل إلى اتفاق نهائي. إن التزمت إيران بشروط هذا الاتفاق، وليس هناك ما يوحي برغبتها في عدم الالتزام، فلن يكون لذلك سوى دلالة واحدة: أن إيران تخلت عن حلمها النووي. فرض الاتفاق على إيران إيقاف العمل في منشأة آراك، التي كان يتوقع أن تبدأ في إنتاج الماء الثقيل خلال عام والبلوتونيوم بعد ذلك بعام آخر؛ والتوقف عن تخصيب اليورانيوم عند مستوى أقصاه خمسة بالمائة (مع العلم أن السلاح النووي يتطلب يورانيوم مخصباً لمستوى تسعين بالمئة، أو أعلى)؛ والتخلص مما يقارب 200 كيلوغرام من اليورانيوم المخصب عند 20 بالمئة، سواء بالتخفيف مع الخام أو التحويل إلى أوكسايد؛ والتوقف عن استخدام 8000 جهاز طرد مركزي جديدة، تم نصبها بالفعل ولكنها لم تغذ باليورانيوم بعد. في المقابل، سيفرج تدريجياً عما يقارب سبعة مليارات من الأموال الإيرانية، التي جمدت في الفترة الماضية في الولايات المتحدة وأوروبا ودول أسيوية، بفعل العقوبات. ولكن الإطار العام للعقوبات الاقتصادية والمالية الغربية سيبقى في مكانه بانتظار التوصل إلى الاتفاق النهائي.
فما الذي يمكن أن ينجم عن هذا الاتفاق من اثار جيوسياسية واستراتيجية؟ طبقاً لمختلف أطراف التفاوض، كانت إيران، منذ انطلاق لقاءات التفاوض السرية، ترغب في التوصل إلى ما يعرف بالصفقة الكبرى، أي التفاوض على الملف النووي ودور وموقع إيران الإقليمي؛ ولكن الأمريكيين رفضوا مثل هذا المسار، وحصروا المفاوضات بالملف النووي. ولكن ما ينبغي رؤيته أن اتفاق جنيف ولد مناخاً جديداً للعلاقات الإيرانية الغربية، سيما العلاقات الإيرانية الأمريكية. كما أن ستة شهور ليست زمناً طويلاً في العلاقات بين الدول.
وفي حال تم بالفعل التوصل إلى اتفاق نهائي، وهو الأمر الذي أصبح مرجحاً، ستبدأ مفاوضات أخرى حول عدد من الملفات الإقليمية، مثل العراق ولبنان وسورية، ورغبة إيران في أن تصبح شريكاً اقتصادياً وأمنياً في منطقة الخليج. الاتفاق، من جهة، وما يمكن أن يترتب عليه من آثار جيوسياسية، من جهة أخرى، أطلق سلسلة من التخمينات والتوقعات والمخاوف، سواء في السعودية أو الدولة العبرية، أو ما يتعلق بتصور الولايات المتحدة لخارطة منطقة الشرق الأوسط الاستراتيجية وتوازناتها.
يمثل الاتفاق ضربة ثقيلة للسياسة السعودية الإقليمية. مخاوف السعودية لا تتعلق بما يشاع من تفريط غربي في ‘كبح جماح إيران النووي’؛ فالسعودية، كما غيرها، تدرك أن الاتفاق جاء أقرب إلى أقصى المطالب الغربية من إيران، منه إلى طموحات إيران النووية. ولكن السعودية تخشى أن يكون الاتفاق مقدمة لرفع الضغوط السياسية والاقتصادية عن إيران، وإعادة تأهيل إيران إقليمياً، بموافقة وتأييد من واشنطن. بمعنى استقرار العراق ضمن دائرة النفوذ الإيراني، واختلال التوازن في لبنان لصالح حلفاء إيران، وبقاء الرئيس السوري، بصورة أو أخرى، في موقعه. أطلقت هذه المخاوف، إضافة إلى توترات سابقة في العلاقات السعودية الأمريكية، غضباً سعودياً على سياسة أوباما، وولدت تخمينات باحتمال بحث السعودية عن تحالفات دولية جديدة، بديلاً عن التحالف اللصيق والمستمر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية مع الولايات المتحدة.
كانت الدولة العبرية، سيما رئيس حكومتها، بنيامين نتنياهو، الطرف الإقليمي الثاني الذي صدع بمعارضته للاتفاق، وأبدى شكوكاً حول مصداقيته. ولكن نتنياهو، كعادته، يمارس التشبيح والابتزاز السياسي، أكثر من القلق من الاتفاق. مصادر أمريكية تقول إن أجهزة الأمن الإسرائيلية أكدت لنتنياهو أن الاتفاق يضع حداً لمسيرة المشروع النووي الإيراني؛ والواضح أن نتنياهو يستهدف الضغط باتجاه تجريد إيران كلية من مقدرات التخصيب في الاتفاق النهائي. ولكن قلق نتنياهو من الآثار الجيوسياسية للتوافق الأمريكي الإيراني تختلف عن القلق السعودي. تعتبر كل من الدولة العبرية والسعودية من أكثر الدول نفوذاً في واشنطن، ولكن أياً منهما لم تستطع التأثير على مسار التفاوض حول الملف النووي ولا يبدو أنها استشيرت في اللحظات السابقة على التوصل لاتفاق. وهذا هو المشترك بينهما: تراجع تأثيرهما على القرار الأمريكي الاستراتيجي في محيطهما الإقليمي ذاته. بغير ذلك، لا النفوذ الإيراني في العراق ولا سورية ولا لبنان يشكل هماً كبيراً للإسرائيليين، طالما أن الولايات المتحدة استطاعت، وضمنت، تغيير السلوك الإيراني في المنطقة.
وهذا ما يستدعي محاولة رؤية ما تريده الولايات المتحدة من هذه الخطوة الكبيرة تجاه إيران. ما ينبغي تذكره ليس فقط أن هذا الاتفاق مرحلي، وأن الاتفاق النهائي لم يزل مجرد احتمال، حتى إن كان احتمالاً مرجحاً، ولكن أيضاً أن الاتفاق يبدأ عملية سياسية قد تطول، وستتناول ملفات إقليمية شائكة، ليس من السهل أن يجد الأمريكيون والإيرانيون نقطة التقاء عندما يبدأ التفاوض حولها. ما يمكن رؤيته الآن أن إدارة أوباما تعلمت من إدارة بوش أن هناك حدوداً لما تستطيع الحرب تحقيقه، وأن سياسة الحروب في المشرق الإسلامي سرعان ما تأتي بنتائج معاكسة لما خططت له. ولأن الولايات المتحدة تجد من الضروري أن تبذل جهداً أكبر لمواجهة التحدي الصيني المتسارع، أصبحت أكثر استعداداً لإجراء تغيير جوهري لمقاربتها لشؤون الشرق الأوسط.
وستساعد علاقات أفضل مع إيران على تأمين الدولة العبرية، على تعزيز الجهود لمكافحة الإرهاب الإسلامي (السني)، وعلى التحكم في أطراف توازن القوى المشرقي. تدافع القوة بين إيران والسعودية وتركيا (على أساس أن مصر وسورية والعراق خارج هذ التدافع الآن)، ليس جديداً. ولكن ثمة فرقا شاسعا بين أن يعمل أحد أطراف التدافع الرئيسيين ضد المصالح الأمريكية، وأن تكون الأطراف جميعها على علاقة جيدة مع واشنطن.
مهما كان الأمر، فالولايات المتحدة لن تدير ظهرها لا للدولة العبرية ولا للسعودية؛ ولكنها سترحب بعضو جديد إلى نادي الصداقة. بيد أن هذه العضوية لن تنجز إلا بعد تقليم أظافر الوافد الجديد، بدون أن يؤدي تقليم الأظافر إلى شل فعاليته. وبالرغم من القفزات السعودية والإسرائيلية باتجاه الصين وروسيا، مرة، واتجاه فرنسا، مرة أخرى، فليس من سبيل للهروب من العلاقة الأمريكية. ما قد يحدث، ربما، أن كلتا الدولتين ستصبح أكثر طواعية في علاقتها مع واشنطن. هذا، بالطبع، عندما تصل هذه العملية الطويلة والشاقة إلى نهايتها، إن كان لها من نهاية.
ملاحظة:
نشر المقال هنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق