وجهات نظر
نزار السامرائي
إذا جاز لنا أن نفترض نتيجة ما للعدوان
الأمريكي على العراق، فإننا نستطيع أن نقطع وبشكل جازم بأن تراجع مكانة الولايات
المتحدة من موقعها كقوة عسكرية اقتصادية جبارة وكمركز استقطاب دولي وحيد في
العالم، إلى قوة دولية كبرى من بين مجموعة دول تحتل حاليا الوصف نفسه أو هي في
طريقها لتنتزع هذا التوصيف، هو الشيء الوحيد الذي حققته من حربها العدوانية على
العراق.
الحرب لم تبدأ ليلة التاسع عشر من آذار، وإنما
بدأت فعلا عندما استكمل الاحتلال الأمريكي للعراق آخر حلقاته بالوصول إلى ساحة
الفردوس في قلب العاصمة العراقية بغداد، فقد استيقظ العراقيون على كابوس مرعب كانوا
قد سمعوا عن أمثاله في تاريخ بلدهم القديم عندما وجدوا بلدهم وقد أصبح تحت
الاحتلال الأجنبي بعد ثمانين عاما من قيام الدولة العراقية الحديثة، فكانت هذه الحقيقة
أكبر من كل الصدمات التي تعرضوا لها في تاريخهم الحديث، وبدلا من إشغال أنفسهم بتوزيع
الاتهامات يمنة ويسرة عن الأسباب الحقيقية التي أدت إلى وقوع الكارثة وهي كثيرة
جدا، مع عدم إغفالها من الدراسة الموضوعية المجردة من الغرض السياسي، فقد انطلق
الفعل المقاوم المسلح للاحتلال في أكثر من مدينة عراقية بعد أقل من أربع وعشرين
ساعة من الوقت الرسمي المثبت للاحتلال، فتعامل الأمريكيون مع هذه الظاهرة بكثير من
التعالي وغرور القوة، حتى أن الرئيس السابق جورج بوش الذي سجلت الحرب باسمه بلا
منازع وقف من على ظهر حاملة الطائرات الأمريكية لينكولن في الثاني من أيار 2003 أي
بعد نحو ثلاثة أسابيع من احتلال بغداد ليعلن من هناك النصر في الحرب.
ولما انطلقت المقاومة بإمكاناتها
الذاتية وأخذت مسارا متصاعدا أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية أنها بصدد إحداث
تعزيزات إضافية في تدريع العربات القتالية العاملة في العراق لمواجهة العبوات
الناسفة المبتكرة وظن القادة الميدانيون أن هذا هو الحل السحري لمعالجة الخسائر
المادية والبشرية المتزايدة والتي صارت تشكل عبئا سياسيا على مستوى الشارع
الأمريكي المكلوم من تجربة الحرب الفيتنامية، وبمرور الوقت كانت الدلائل الميدانية
تشير إلى أن الولايات المتحدة بدأت تخسر الحرب، ولكن عنجهية الكابوي الأمريكي وغطرسته
لم تسمح له للتعامل مع الحقائق على الأرض، ولهذا مضت إدارة الرئيس السابق بوش في
خيار التحدي إلى ما لا نهاية، فكان ذلك سببا في غوص واشنطن في مستنقع الدم والوحل
العراقي أكثر فأكثر.
وبدأت الأزمة الاقتصادية الأمريكية تطل
برأسها وبدأت القوات الأمريكية تفقد فعاليتها وقدرتها على مواجهة المقاومة الوطنية
المسلحة، مما أجبر الرئيس بوش ووزير دفاعه ورئيس الأركان إلى اعتراف مر بأن
الولايات المتحدة لن تستطيع خوض حربين في وقت واحد بعد (الآن) أي في ذلك الوقت،
ولكن ما لم يذكره كبار المسؤولين الأمريكيين سياسيين وعسكريين، أن بلادهم التي
اكتوت بنار الحرب ستبقى تبحث عن الذرائع للابتعاد عن خوض أي تجربة جديدة يمكن أن
تستدرجها إلى مستنقع غير معروف الأعماق وما حصل أثناء الأزمة السورية دليل على الوهن
الذي أصاب القدرة الأمريكية وأنزل هيبتها من قمة الهرم الدولي الذي احتلته بعد
نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي ومنظومة الدول الشيوعية.
هذا ما تحقق للولايات المتحدة فماذا عن
العراق؟
أمريكا التي جاءت تحت ذريعة نقل
الديمقراطية إلى العراق، لم تكن غبية عندما نفذت عدوانها واحتلت العراق، وبصرف
النظر عن الدعاوى الدينية التي طرحها بوش، وبصرف النظر الدوافع التي تم طرحها
لتبرير الغزو، فإن هدفين كانا يقفان وراء خطة الحرب، أولهما أمن الطاقة والتحكم
بمسالكها من باطن الأرض إلى البيع للمستهلك في محطات الوقود في أوربا والولايات
المتحدة وكندا واليابان وأستراليا وكوريا الجنوبية، ومن هنا نستطيع التعرف على
أسباب تشكيل التحالف الدولي الذي ضم الدول المذكورة، وثانيهما الأمن الإسرائيلي
الذي يعتبر حجر الزاوية في الاستراتيجية الكونية الأمريكية، ولذلك لم تكن واشنطن
لتفكر حقا بمستقبل العراق بعد احتلاله، ولهذا رأينا كيف غضت النظر عن عمليات السلب
والنهب التي حصلت في كثير من مدن العراق والتي قال بول بريمر الحاكم المدني للعراق
إنه كان بالإمكان إصدار أوامر بفتح النار على المشاركين في تلك الأعمال المشينة
ولكن القوات الأمريكية لم تفعل، كما القوات الأمريكية غضت الطرف أيضا عن تدفق
عشرات الآلاف من أفراد الحرس الثوري الإيراني والمليشيات الشيعية التي تم تشكيلها
في إيران وبأموالها، من أجل التأسيس للنفوذ الإيراني الفعلي في عراق ما بعد
الاحتلال الأمريكي، ولهذا وصف الخبراء السياسيون والعسكريون الاستراتيجيون نتائج
الحرب الأمريكية على العراق بأن الولايات المتحدة قدمت العراق لإيران على طبق من
ذهب ومن دون جهد أو تضحية منها بأي قدر من المقادير.
والواقع الذي أفرزته الحرب هو ما كانت
ترمي واشنطن إليه بدليل أنها كانت تستطيع وقف الزحف الإيراني على العراق وبالتالي
لتشكل تهديدا جديا لمنطقة الشرق الأوسط ابتداء من حدودها الغربية وصولا إلى شرق
المتوسط وحتى ميناء عدن، إذ ركزت القوات الأمريكية على ما تسميه بالحرب على
الإرهاب وتجاهلت متعمدة إرهابا أخطر منه وهو خطر الإرهاب الإيراني الذي يتحرك
بموجب سيطرة عن بعد، فينتقي أهدافه بدقة ويختار توجيه الضربة بدقة أيضا.
في العراق الذي بشرت واشنطن بأنه سيصبح
واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط وفنارا لها في المنطقة، تحول إلى غابة تتحرك بها
القوى المتصارعة من دون رادع أخلاقي أو قانوني أو ديني، فانهارت منظومة الدولة
وأصبحت جزء من ذكريات الماضي، فلم تعد هناك مؤسسات بالمصطلح المعاصر لمفهوم الدولة
الحديثة، فقد انهار الاقتصاد كليا وتوقفت المنشآت الصناعية بصورة تامة، كما أن
القطاع الزراعي أصبح عبئا على المجتمع العراقي بعد أن كان رافدا مهما من روافد
الناتج القومي، أما الفساد المالي ولإداري فقد أصبح توأما سياميا للفساد السياسي
المستشري في البلد، حتى أحتل العراق قمة جبل الفساد في العالم.
أما الأمن فإن المواطن العراقي بات نهبا
لأخطار تتضافر عليه من أجهزة السلطة التي يفترض أنها توفر الأمن، ومن مليشيات
طائفية تحمل ولاء لمرجعياتها وتحمل مشروعا يسعى للعصف بالنسيج الاجتماعي العراقي،
مع أخطار خارجية قادمة بالدرجة الأساس من حدود العراق الشرقية يهمها جدا أن يبقى
العراق منقسما على نفسه متشرذما متصارعا مع بعضه حتى آخر قطرة دم عراقية.
هذه هي صورة عراق ما بعد الاحتلال ويخطئ
من يظن أن الولايات المتحدة كانت تسعى لتحقيق هدف آخر غير الصورة الراهنة، والتي
لن يكون بوسع العراق الخروج منها ما لم يلتق العراقيون على
كلمة سواء فيما بينهم ويتنازل بعضهم لبعض، ولكن هل تسمح إيران لعملائهابأية مرونة
سياسية ولو من باب التقية؟
ذلك ما يشكك به المراقبون استنادا إلى
أن إيران التي حققت الخطوة على طريق إحياء الإمبراطورية الفارسية بضم العراق إلى
دولة الفقيه التي تظن أن حدودها الجغرافية تلتصق بحدود مشروعها لدولة الفقيه
الكبرى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق