وجهات نظر
عوني القلمجي
هذه
ليست المرة الاولى التي تفرض امريكا ارادتها وتسقط من تشاء وترفع من تشاء. فقبل إسقاط نوري المالكي من "عليائه"، وحرمانه
من "استحقاقه الانتخابي" كمرشح اول لرئاسة الوزراء، فقد سبق لها واسقطت ابراهيم
الجعفري، وهو مرشح الكتله الفائزة في انتخابات عام 2005 ، مثلما منعت اياد علاوي
من تشكيل الحكومة، وهو الفائز الاول في الانتخابات الثانية عام 2010.
ما
اثار استغراب عدد كبير من السياسيين والمعنيين في الشان العراقي، هو لجوء امريكا
الى هذا الفعل العنيف ضد المالكي واجباره على التنازل، وهو الذي قدم لها كل ما
يلزم من الخدمات، و"شعل من اجلها "العشرة شمع"، كما يقال باللهجة العراقية.
ناهيك عن تهديم ما روجت له من مقولات وترهات عن الانتخابات وقدسية نتائجها والتغني
باعراسها والتغزل ببنفسجية اصابعها وخضرة صناديقها، بمعنى اخر، اذا كان هناك ما
برر اسقاط الجعفري وعلاوي حينها، فما هو المبرر الذي دعا امريكا واجبرها على اسقاط
المالكي، رجلها المدلل والمخلص لها والامين على تنفيذ اجندتها، واختيار شخص مجهول
او مغمور مثل المدعو حيدر العبادي بديلا عنه؟
نعم
للضرورة احكام، وامريكا، على ما يبدو، وجدت نفسها امام ضرورات متعددة وليست ضرورة
واحدة دفعتها لهذا الاجراء وبهذه الطريقة الحادة والقاطعة. فمن جهة لم تعد هذه هذه
الحكومة قادرة على اداء واجباتها المرسومة لها من قبل امريكا في ظل ولاية ثالثة
للمالكي. فبالاضافة الى الحالة المزرية التي وصلت اليها العملية السياسية، والسقوط
الاخلاقي والاجتماعي لاطرافها، والعجز في تقديم الخدمات وتوفير الامن والاستقرار، ازداد حجم الاستياء الشعبي العام ضدها، وتطوره
من حالة الصمت والتململ والاحتجاجات الخجولة الى التعبير عنه بتظاهرات واعتصامات عمت
العديد من المدن العراقية، وشاركت فيها جميع الاحزاب والقوى الوطنية والقومية
والاسلامية المعادية للاحتلال وللعملية السياسية برمتها. لينتهي بها المطاف الى
ثورة شعبية مسلحة سيطرت على اكثر من ثلث مساحة العراق واخذت تهدد بالسيطرة على
العاصمة العراقية بغداد واسقاط العملية السياسية برمتها من حكومة وبرلمان ودستور.
من
جهة ثانية، فوجئت امريكا بمدى ضعف الحكومة وتدني قدراتها العسكرية، جراء عجزها عن
مواجهة الثورة المسلحة او حتى الحد من توسعها وانتشارها، على الرغم من المساعدات الامريكية،
الجوية منها واللوجستية والاستخباراتية والاستشارية، اضافة للدعم العسكري الايراني
لها. ناهيك عن فتوى المرجعيات الدينية للتطوع والقتال الى جانب الحكومة. ومما زاد
من خيبة امريكا في هذا الخصوص عجزها عن التدخل العسكري المباشر، خشية من تكرار
تجربتها المرة مع المقاومة العراقية التي كبدت قواتها المحتلة خسائر بشرية ومادية كبيرة.
اما
ما حققته امريكا واعلامها العملاق من نجاحات محدودة في تشويه الثورة وتحجيمها على
المستوى الشعبي، حين اختصرت مرجعيتها الوطنية والشعبية والقومية بتنظيم الدولة
الاسلامية، المعروف بتوجهاته المتشددة وسمعته السيئة، سيتبخر ويزول مع مرور الوقت،
ان لم يحدث ذلك في فترة زمنية قصيرة. اذا لا يمكن لفصائل الثورة السكوت طويلا عن هذا
الخلط المتعمد بينها وبين ذلك التنظيم وتحمل تبعاته وما ارتكبه من جرائم بحق الناس
الابرياء او بحق مقدساتهم وامكان عباداتهم.
اذا
كانت هذه هي الضرورات ترى ماهي احكامها؟
يبدو
ان امريكا لم تجد حكما اخر غير تبديل هذه الحكومة ورئيسها بحكومة ورئيس جديد غير
متهم بارتكاب جرائم وسرقات مثل احمد الجلبي وعادل عبد المهدي وباقر صولاغ، ليسهل
تمريرها بين الناس على انها حكومة انقاذ وطنية، وان رئيسها هو بمثابة المخلص او
المنقذ على امل كسب ثقتهم وتوجيه انظارهم اليها، وبالتالي حرمان الثورة المسلحة من وقودها الدائم ليسهل لاحقا
عزلها واضعافها ومن ثم اجبار فصائلها او على الاقل الهشة منها على القبول بانصاف
الحلول. وفي هذا الخصوص لا نستبعد اطلاقا اقدام الحكومة حال تشكيلها على اتخاذ
اجراءات او قرارات سريعة تلبي بعض مطالب الناس مثل اطلاق سراح سجناء ابرياء والغاء
قوانين جائرة وتامين قدر محدود من الخدمات الضرورية والحد من الفساد الاداري
والمالي ،وربما تقدم على تقديم مجرمين ومفسدين في العملية السياسية الى القضاء
واصدار احكام بحقهم الخ.
لقد
استخدمت امريكا مثل هذا السلاح من قبل وسمته السلاح السياسي وعدته في بعض الاحيان
اشد تاثيرا من الطائرة والدبابة والمدفع. فحين عجزت امريكا عن انهاء المقاومة
العراقية عسكريا، او الحد من توسعها وانتشار لهيبها الى عموم مناطق العراق ومدنه،
فتحت ابواب مشاجب سلاحها السياسي على
مصراعيها للالتفاف عليها وتشتيت قواها ومنعها من تحقيق انتصارها النهائي وحققت
نجاحات مهمة في عز قوة المقاومة في عام 2005 حيث جرت بعض فصائلها الى المشاركة في
الاستفتاء على الدستور وفي الانتخابات التشريعية والعملية السياسية مقابل منحها
مكاسب فئوية ضيقة لتنتهي بالنجاح الاكبر ونعني به تشكيل ما يسمى بالصحوات التي
طعنت المقاومة في ظهرها طعنة لئيم غادر.
ترى
هل سيعيد التاريخ نفسه وتنجح امريكا في تحقيق هدفها المنشود، ام ان الثورة المسلحة
قد حصنت نفسها ضد محاولات غادرة من هذا النوع؟
من
دون التورط في اطلاق الاحكام المسبقة فان متابعتنا لما يجري في ساحات المعارك لا
تبشر بالخير العميم، حيث لم يتوفر لحد الان موقف موحد لفصائل الثورة فيما يخص
التصدي لاية محاولة حكومية تسعى للالتفاف عليها مهما كانت المكاسب مغرية. حيث ظهرت
توجهات مساومة داخل الثورة حال تكليف العبادي بتشكيل الحكومة، فقد اعلن عدد من
شيوخ العشائر وقادة من الحراك الشعبي وعدد من المسؤولين في هذا الحراك والثورة
المسلحة استعدادهم للدخول في العملية السياسية، اذا اعادت الحكومة المرتقبة حقوق
"السنة" وحافظت على كرامتهم، في حين نجد فصائل طالبت الحكومة باقامة
الاقليم السني في مناطقها، مقابل منحها التاييد الكامل.
اما
من يقف ويشجع هذه المساومات من دول وقوى وشخصيات بصرف النظر عن اهدافهم سواء كانت
بريئة ام مشبوهة، فقد بداوا العزف على مقولات ظاهرها الحق وجوهرها الباطل. من قبيل
كفانا حروبا وسفك الدماء البريئة، كفانا تدميرا وخرابا، لنعطي القادم الجديد فرصة
وفسح المجال امام الحوار معه وحل مشاكلنا الخ. في حين يجري على مستوى اخر تنظير
سياسي للمساومات المذلة. حيث يجري خلط متعمد للمفاهيم السياسية لخدمة ذات الغرض.
ونقصد هنا الخلط بين ما يسمح به المفهوم
السياسي من مساومات مشرفة وتقديم تنازلات متبادلة بين القوى الوطنية، في ظل بلد
مستقر وامن ومستقل. وبين مساومات مذلة تجري في ظل بلد محتل واحزاب طائفية وعرقية
وساحة تعج بالخونة والعملاء. هنا لا يجوز اطلاقا سلوك ذات النهج وفق المفهوم
السياسي العام. وانما يتطلب التمسك بالثوابت الوطنية وعدم المساس بها او المساومة
بشأنها، من قبيل رفض الصيغ السياسية والمبادرات الكاذبة ومحاربتها والعمل على
اسقاطها بكل الوسائل والسبل. بل ورفض اقامة اية علاقة او اتصال او حديث مع اصحابها
او حتى القبول بالجلوس معهم.
هنا
وعند هذه النقطة لا نجد امامنا من خيار سوى التذكير مجددا بالحقائق العنيدة التي
تؤكد لنا بان لا طريق امام الثورة سوى السير بها حتى النهاية وان اي صلح او هدنة
او مفاوضات مع الحكومة المرتقبة يعد
تفريطا بالثورة وبدماء شهداءها، بل يعتبر خيانة وطنية بامتياز
الحقيقة
الاولى هي ان امريكا لن تفسح الطريق امام الثوار لاستلام السلطة سلميا، او عبر
المفاوضات حتى اذا ضمنت جميع مصالحها في العراق، فالتعامل مع بلد مستقل شيء
والهيمنة عليه والتحكم بمصيره شيء اخر تماما.
والحقيقة
الثانية هي ان القرار الامريكي بشان العراق لم يعد يخص الادارة الامريكية وحدها،
بقدرما يخص اللوبي الصهيوني الذي اصبح متحكما في صناعة القرار الامريكي ويخص ايضا
البيوتات المالية والمجمعات العسكرية، وكل هؤلاء لن يسمحوا لاية ادارة امريكية
بالتخلي عن العراق طواعية، او لمجرد ضغوطات من اية جهة كانت بما فيها ضغط الثورة
المسلحة. وما ينطبق على امريكا ينطبق بالضبط او اكثر على ايران التي لم يتوقف
حلمها عن الاستيلاء على العراق يوما واحدا. وهذا ما يفسر تحالفها المتين مع
الشيطان الاكبر، والكيان الصهيوني.
والحقيقة
الثالثة تخص الية الثورة وقواها المختلفة، وهي الاقرار بانه ليس بالامكان تحرير
العراق من قبل هذا الفصيل او ذاك، او هذه الجبهة او تلك مهما علا شانها او قوتها.
ومن يعتقد بان مؤتمر عمان قد عالج هذه المسالة لهو في ضلال مبين. فهذا المؤتمر لا
يتعدى كونه مظاهرة سياسية مفيدة ومؤثرة وجهد مشكور لدعم الثورة. على الرغم من
الاشارة التي وردت في بيانه الختامي حول عقد مؤتمر اوسع واشمل، فهذا شان يحتاج الى
ادلة قاطعة او على الاقل مطمئنة لتحقيق الهدف المنشود.
الالتزام
بهذه الحقائق والاسترشاد بها من شانه ان يعزز سلامة ومسيرة الثورة بالاتجاه الصحيح،
ويحصنها ضد محاولات تقسيمها او الالتفاف عليها ويسارع في تحقيق انتصارها، ويجنبها،
في نفس الوقت، مزيد من الخسائر والتضحيات. ومن دون هذا الالتزام لا يكفي للاطمئان
على الثورة والحفاظ على مسيرتها لمجرد وجود قيادة عسكرية وسياسية متمرسة، مثلما لا
يكفي ايضا قوة الثورة العسكرية والعقيدة القتالية المستمدة من تجارب حروب التحرير
الطويلة الامد، والتي تعتمد على سرعة الحركة، وامتلاك زمام المبادرة والتحكم بعنصر
المفاجئة والقدرة على المناورة وامكانية الاختفاء والظهور واختيار الاهداف بحرية،
في الوقت الذي تشاء.
ازعم
بان عموم العراقيين يتطلعون الى اليوم الذي تتمكن فيه فصائل الثورة بتوحيد نفسها
وتحصينها ضد اي محاولة لخرقها او احداث شرخ داخلها لكي تكون مؤهلة لتحقيق نصرها
النهائي ويعود العراق محررا ومستقلا وواعدا، وازعم ايضا بان كل العرب يشاركوننا في
تحقيق هذا الامل، لما للعراق من موقع ومكانة في قلوبهم وعقولهم ووجدانهم.
هناك تعليق واحد:
من افضل التحليلات التي طالعتها وقد لامس الكاتب جميع الجوانب التي مرت على العراق منذ احتلاله ووضع اصبعه على جوانب الخلل في الثورة ومسيرتها كما حدد بشكل واقعي العلاج كذلك اشار الى حجم التحديات التي تواجهها
إرسال تعليق