موقعنا الجديد، مع التقدير

موقعنا الجديد، مع التقدير
نأسف لإزعاجكم، انتقلنا إلى هنا رجاءً، يرجى الضغط على الصورة للانتقال إلى موقعنا الجديد

السبت، 9 يونيو 2012

اللا رفض واللا قبول، عقيدة سياسية ودينية في إيران

في مقاله المهم، يتحدث الأستاذ نزار السامرائي، عن واحدة من أهم العقائد التي تحكم المؤسسة المسيطرة في إيران، انها عقيدة اللاقبول واللارفض، التي نعبر عنها أحياناً باسم التقية، وهي فكرة دينية وسياسية في آن معاً.



اللا رفض واللا قبول، عقيدة سياسية ودينية في إيران
نزار السامرائي
ما كان لاجتماعات بغداد التي ضمت مجموعة (5+1) وإيران حول برنامج طهران النووي، أن تخرج بغير النتيجة التي خرجت بها، على الرغم من كل الرسائل المتفائلة التي سبقت بدء الاجتماعات، والتي كانت كما ظهر لاحقا لا تعبر عن وقائع على الأرض بقدر ما كانت تعبر عن أماني فارغة، بأن إيران ستتراجع حقا عما حققته من انجازات حقيقية ومفترضة في بحوثها النووية في المجال العسكري، لاسيما وأن حكومة نوري المالكي استبقت اللقاء وأطلقت بالونات ملونة رفعت معها من سقف التوقعات بقرب التوصل إلى اتفاق يضع حدا للمواجهة الإيرانية مع المجتمع الدولي.
وترجع هذه التوقعات إلى سذاجة المسؤولين في حكومة المالكي، الذين اعتبروا مجرد نقل الاجتماع من اسطنبول إلى بغداد، وكأنه الضلع الثاني بعد القمة العربية، من مثلث الدور العربي والإقليمي والدولي الذي سيسجل لحكومة نوري المالكي وهو هدف تحرص عليه الولايات المتحدة أكثر من غيرها، ولكن ربط تنازلات إيرانية صغيرة في ملفها النووي، مقابل إطلاق يدها في المنطقة من القوى الدولية الكبرى كماسكة بمفاتيح استقراراها أو اضطرابها، فضلا عن اشتراطها رفع العقوبات الاقتصادية عنها مقابل وقف عمليات تخصيب اليورانيوم بنسبة 20%، يمكن أن تكون سببا في العراقيل التي حالت دون الاتفاق، وهنا يمكن أن تتضح حقيقة الصعوبات التي تركتها العقوبات الدولية على طهران، وأدت إلى نشوء احتقان داخلي حاد، ومع ذلك فإن تعليمات الوفد الإيراني كانت تتلخص بكلمتين، عدم الرفض وعدم القبول، وهذه قاعدة ذهبية في الفكر السياسي والديني في إيران تهدف إلى إثارة الملل والسأم عند الطرف الآخر من أجل الحصول على أكبر قدر من التنازلات، وهذا النهج ليس مقتصرا على الملف النووي فقط، وإنما هو سلوك راسخ في الدبلوماسية الإيرانية، ينم عن استخفاف بعقول الآخرين ويزعم احتكار الفطنة والخبرة في النفس، ولكن هذا لا ينفي أن إيران استطاعت في الماضيين القريب والبعيد، أن تحقق إنجازات سياسية كبيرة في علاقاتها مع العرب بشكل خاص، ولكنها عجزت عن تحقيق أي خرق ومهما كان صغيرا في علاقاتها مع الأطراف الأخرى، ربما يعكس ذلك شيئا من ثقة العرب بالتعهدات التي تقطع لهم من جانب الدول الأخرى، وربما كان العراق أكبر الخاسرين على مر التاريخ في علاقاته مع بلاد فارس التي استبدلت اسمها إلى إيران، ولكن شهية حكام إيران كانت تتفتح مع كل شبر يقضمونه من الأراضي العربية، ابتداء من المنذرية العراقية المقابلة لقصر شيرين الإيرانية في القاطع الأوسط من الحدود المشتركة، نزولا إلى إقليم الأحواز والشاطئ العربي الشرقي للخليج العربي وما يحتويه من جزر، وتؤكد المطالبات الإيرانية بالبحرين، والتي تجاوزت حد الوقاحة، أهم مبادئ العمل المتتابع الذي تعتمده الزعامات الإيرانية للقضم التدريجي للأراضي العربية.
اعتذار عن أخطاء لم ترتكب
ولكن الاجتماع انفض وكانت نتيجته الوحيدة الاتفاق على عقد اللقاء الجديد في موسكو، وهي المكان الذي لا ترفض طهران تقديم ما تعتبره تنازلات فيها أيضا، تعبيرا عن الامتنان لمواقفها الداعمة لنوايا إيران النووية أيا كان اتجاه الريح أو البوصلة فيها، وفي رد فعل على عدم حصول طهران ما ظنت أنها حاصلة عليه في بغداد، فقد أرسلت الزعامة الإيرانية بمحمد علي جعفري قائد قوات الحرس الثوري، إلى الجزر الإماراتية الثلاث، ومن وسط الحشد العسكري الذي تعمد التلفزيون الإيراني عرض حجمه، قال جعفري إنه يوجه رسائل السلام لدول المنطقة خاصة، كي نقطع معا يد الاستكبار العالمي عنها، على الرغم من أن دول المنطقة ترى في الخطر الإيراني، الذي يظهر على المسرح بشعارات دينية تحاول أن تسلب من الأمة هويتها وتمسخها، وتعيد تصدير دينها إليها بقوة الردع النووي المنتظر، ولكن الدين لن يكون كما عرفته شعوب المنطقة التي انطلق منها، بل بنسخة جديدة ومحرفة على طريق إقامة الامبراطورية الفارسية الجديدة، وخدمة مشروعها التوسعي المتطابق مع المشروع الصهيوني في التهام المنطقة استنادا إلى أساطير بالية وأوهام لم تعد تجد لنفسها مكانا في عالم اليوم، اللافت أن إيران وهي ترفع من نبرة صوتها في باطلها، فإن أصحاب الحق، وهم العرب ومن دون استثناء للأسف، حينما يطرحون حقهم فإنهم يفعلون ذلك على استحياء شديد وبنبرة خجولة وفيها من الاعتذار عن أخطاء لم يرتكبوها، وينزعون أسلحة قوتهم السياسية والاقتصادية بأنفسهم، لنأخذ مثلا واحد على مجمل المشهد في مجلس التعاون الخليجي، وهو موقف دولة الإمارات العربية نفسها من دعوة العاهل السعودي للانتقال بالمجلس من التعاون إلى الاتحاد، فسجل الامارات العربية حافل بكثير من المواقف المعرقلة لتطوير بنية المجلس ودفعه نحو أهدافه المرجوة، على الرغم من أنها على وفق السياقات الطبيعية، يجب أن تكون أكثر الدافعين لرفع درجة الاستعداد لمستوى الفعل الميداني للمجلس، على حين أنها تتذرع بمختلف الذرائع المتهافتة لسد الطرق على المقترحات الطموحة للارتقاء بميثاق المجلس وجعله المرآة التي تعكس طموح المنطقة، ولكن الإمارات وعلى ما ظهر جليا ظلت تشكل الاستثناء على قاعدة أن كل دولة في العالم تعمل بما ينسجم ومصالحها وطموحاتها وأمنها القومي، فالإمارات هي صاحبة المصلحة الكبرى والأولى في نشوء مجلس الاتحاد الخليجي، وتعزيز قدراته السياسية والاقتصادية والعسكرية، ضمانا لوحدة أراضيها وسيادتها واستقلالها، فالإمارات لا الآن ولا بعد عشرات السنين قادرة عن الدفاع عن نفسها لوحدها، مما سيضطرها على الدوام لتقديم التنازلات للطرف الآخر وهو إيران، ويمكن تأشير ملاحظتين على الموقف الإماراتي السلبي تجاه الدعوة السعودية لتحويل مجلس التعاون الخليجي إلى مجلس الاتحاد الخليجي، الأولى، أن هناك حالة من الهلع غير المبرر، وهاجسا من تصعيد إيراني يمكن أن يبتلع أجزاء أخرى من أراضي الدولة، أو يهدد كيانها ووحدة أراضيها، وعلى الرغم مما في هذه الهواجس من قصر نظر سياسي واستراتيجي، فإن دولة الإمارات العربية ماضية في تبني ما تصطلح عليه بسياسة التعقل والواقعية، كي لا تستثير إيران وتضعها في حالة عداء أكبر مما هو عليه الحال الآن وهذه السياسة وحدها التي ستدفع إيران لمزيد من التشدد في مواقفها تجاه الملفات المطروحة، وما التصعيد الإيراني في الجزر العربية الثلاث إلا التطبيق الميداني لهذه التوجهات، والثانية أن الإمارات كما شأن كثير من الأقطار العربية، تتعامل بحساسية مفرطة مع أية دعوة عربية للوحدة أو الاتحاد، متعكزة على وهم أنها ستفقد سيادتها أو جزءً منها، وهنا سيبدو منطقيا طرح السؤال التالي، لماذا هذا التشدد العربي مع العرب، والتخاذل مع الأجنبي؟ أهو الإحساس بالضعف والانكسار النفسي من الغرباء؟ والاستعداد لتقديم التنازلات لهم ورفض مجرد التفكير بالتنسيق العربي المفضي إلى القوة والمنعة؟
المطلوب وقفة عربية جدية  
إن الرد على وهم القوة الإيرانية يستدعي وقفة مع الذات ومراجعة السياسات الخاطئة وصولا إلى القرار الصائب بالتنازل للأشقاء في التفاصيل، من أجل الصمود والثبات في الموقف السياسي الاستراتيجي مع الأعداء، وخاصة إيران التي رفعت من سقف تحديها للعرب عموما ولدول مجلس التعاون الخليجي.
لم يكن مدهشا أبدا أن تتعسكر الجزر الثلاث، وتتحول إلى قاعدة فيها من الابتزاز السياسي أكثر مما فيها من القدرة الحقيقية، على تحويل نوايا إيران إلى وقائع على الساحل الغربي للخليج العربي، وتحولت الجزر الثلاث إلى محطة لتوجيه رسائل محملة بالكراهية والتهديد، باسم رسائل الصداقة للدول الإسلامية، كما عبر عن ذلك محمد علي جعفري قائد حرس الثورة في زيارته للجزر الثلاث، وربما يذهب حسنو النية من مراقبي المشهد السياسي الساخن في منطقة الخليج العربي، إلى إعطاء هذه الزيارة تفسيرا مماثلا لتفسيراتهم لزيارة محمود أحمدي نجاد لجزيرة أبو موسى باعتبارها رسالة تشدد إيرانية استباقية لاجتماع بغداد، ولكن مضي إيران في هذا الخيار الحرج، جاء نتيجة لسماعها عن قرب أنفاس الهلع المتردد في صدور الممسكين بمفاتيح صنع القرار في بعض دول منطقة الخليج العربي والمتمسكين بخيار دويلات الطوائف التي أسقطت الأندلس ودعت آخر أمرائها للبكاء المر، حتى قالت له أمه بحزم وعزيمة، ابك كالنساء على مجد لم تحفظه كالرجال.
دعم الدول الكبرى
إيران في مواقفها السياسية وتحركاتها العسكرية، كانت بصفة مستمرة تعتمد على وقوف قوى دولية كبرى إلى جانبها بلا تحفظ ولا حدود، فبعد أن ظل الشاه يعتمد على الدعم الأمريكي والغربي، جاء النظام الجديد ليجمع بين الدعمين الغربي والشرقي، واستوى في ذلك الاتحاد السوفيتي السابق مع روسيا الحالية، وقد تجسد الدعمان خلال الحرب العراقية الإيرانية، الاتي أفرزت إحدى قواعد العلاقات الدولية الجديدة والمثيرة للدهشة، ففي الوقت الذي كان على الاتحاد السوفيتي أن يكون وفيا لالتزاماته التعاقدية مع العراق بموجب معاهدة الصداقة والتعاون الثنائية، نراه يقطع توريدات السلاح والذخيرة عن العراق في أصعب ظروف الحرب على القيادة العراقية، أما الولايات المتحدة التي يفترض بها أن تقف موقفا مضادا لإيران استنادا إلى مبدأ الرد على التصرفات الإيرانية على مستوى الشارع، ابتداءً من احتجاز الدبلوماسيين الأمريكيين في سفارة بلادهم في العاصمة الإيرانية بطريقة مذلة ومهينة، وما كان يرافق التظاهرات من إهانة للعلم الأمريكي تحت أقدامهم في مشاهد علنية، ومع ذلك فإن الشرق والغرب التقيا على دعم إيران في حرب الثماني سنوات، من دون أن تكون للدبلوماسية الإيرانية دور في ذلك، فالمصالح الدولية هي التي وضع اتفاقية سايكس بيكو عام 1916، وهي التي أصدرت وعد بلفور عام 1917، وهي ساعدت إيران الشاه على احتلال الجزر العربية الثلاث، عام 1971، وهي التي أمدته بكل أسباب القوة حتى تمكن من أن يفرض على العراق توقيع اتفاقية عام 1975، وكما فعلت في مكيدة الشيخ خزعل الكعبي أمير المحمرة عام 1925، وهكذا يستطيع المراقب أن يكوّن قناعة راسخة، أن المعسكرين الشرقي والغربي لا يعارضان التمدد الفارسي على حساب الأراضي العربية، لأن الأصل في موجة العداء الموجهة للإسلام، تستهدف العرب لأنهم مادة الإسلام الأولى، وقوة فهمه الحقيقية، وعلى أكتاف أبنائها انتشر الإسلام في شتى الأصقاع، ولعل ما تعرض له الإسلام على أيدي بعض من زعموا الإيمان به، من تشويه وعداء كان أكثر بكثير مما أصابه على أيدي أعدائه غير المسلمين، فحروب غير المسلمين مثل الحروب الصليبية وكذلك حروب جنكيز خان وهولاكو وتيمورلنك، زادت من تماسك المسلمين، على حين أن الحرب بين المسلمين أنفسهم، كانت سببا في الفتن والاقتتال الداخلي وتمزق أوصال المسلمين إلى طوائف ومذاهب متصارعة.
واشنطن وتل أبيب دعمتا طهران
كانت الحرب العراقية الإيرانية على وشك أن تنهي عامها السابع، في ذلك الوقت كانت صورة مسرح العمليات الحربية تنبئ بأن إيران تسير بسرعة نحو هاوية هزيمة عسكرية مؤكدة، خاصة بعد أن حشدت إيران لمعركة نهر جاسم التي وقعت في يناير عام 1987، كل مدخراتها في مجال السلاح والعتاد والمقاتلين والمال، وحورت اقتصادها ووضعته في خدمة مجهودها الحربي، ومع ذلك فقد خرجت منها وقد كسر عمودها الفقري فيها، بعد أن شهدت أكبر معركة برية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، على حد ما وصفته تقارير الاستخبارات التي توصلت إلى تلك القناعة، بعد تحليل صور الأقمار الصناعية لحشد الدروع الإيراني والاستعدادات العراقية لمواجهة التطورات الميدانية، وسير المعارك الطاحنة التي شهدتها المنطقة، بعد هذه التطورات، عادت أفكار الدول الكبرى إلى نقطة الانطلاق الأولى، وهي فكرة اللا غالب واللا مغلوب في تلك الحرب التي أتت على كل شيء مرت عليه أو على مقربة منه، والتي أرادت لها الدول الكبرى أن تكون نهايتها على هذه الصورة، حينذاك تداعى مجلس الأمن الدولي لعقد جلسة مفصلية في تاريخ الحرب، للخروج بصيغة ترضي الطرفين وتؤمن مصالح التوازنات الاستراتيجية الدولية، حتى في حال تعارض صيغتها مع ما تقرأه الوقائع على الأرض، فصدر أهم قرار لمجلس الأمن الدولي يتعلق بالحرب، وهو القرار 598، في العشرين من يوليو من السنة نفسها، ولكن ولادة القرار كانت عسيرة جدا، لأن الاتحاد السوفيتي الذي أصبح في ذمة التاريخ، كان يساوم العالم ويبتزه كما تفعل روسيا بوتين الآن، في أية قضية يمكن أن تضّخم من حجم اللقمة الممنوحة لموسكو كالبرنامج النووي الإيراني والملف السوري، ويبدو أن هذه الاستراتيجية ليست حكرا على مرحلة دون أخرى، فحقائق الموقع الجغرافي وعلاقة الأمر بالمصالح العليا، هي التي ترسم معالم السلوك السياسي لأي بلد من بلدان العالم.
هناك أمر راسخ في سياسة روسيا منذ عهد كاترين التي خلفت زوجها بيتر أو بطرس، والتي تحدد فيها حلم روسيا ذات المناخ البارد حد التجمد، بالوصول إلى المياه الدافئة، فتوارث هذا النهج قياصرة روسيا الذين خلفوا كاترين حتى نيقولا رومانوف الذي أشرف على تدوين شهادة وفاة روسيا القيصرية، عندما أسقطته ثورة فلاديمير إليتش لينين عام 1917، ومع كل الفروق في التوجهين البلشفي والقيصري، فإن لينين لم يستطع التحرر من حلم كاترين، فاقتبس منها استراتيجية الزحف العقائدي بجيوش أو من دونها نحو الجنوب، ولكن بشعار دكتاتورية البروليتاريا، الذي يعتمد سياسة الدواخل في صناعة النظم المرتبطة بموسكو، وكان سقوط الاتحاد السوفيتي المدوي نفسه أحد نتائج هذه السياسة، فمن المعروف أن الاتحاد السوفيتي الذي ارتكب الخطأ الاستراتيجي المميت، بغزو أفغانستان والذي بني على حسابات خاطئة وسوء تقدير لنوعية الشعب الذي يواجهه، هو الذي أدى إلى إسقاط الاتحاد السوفيتي في مستنقع لم يكن بوسعه التخلص منه، إلا بإشراف ميخائيل غورباتشوف على رفع معدات إدامة الحياة الصناعية عن روسيا القيصرية بلباس بلشفي.
 اللارفض واللاقبول
بعد أن استقر الرأي على الخروج من الحلقة المفرغة التي دخلتها الحرب المنسية، برزت على السطح مجددا معضلة الفيتو السوفيتي في مجلس الأمن ما لم يحصل المرابي الروسي على كامل الثمن المطلوب، وكان موقف موسكو مثيرا لدهشة كثير من المراقبين، إذ تربط العراق بالاتحاد السوفيتي معاهدة صداقة وتعاون تم توقيعها في التاسع من أبريل عام 1972، من قبل الرئيس الراحل أحمد حسن البكر، ورئيس وزراء الاتحاد السوفيتي أليكسي كوسيجين، وربما لتاريخ التوقيع على تلك المعاهدة مغزاه ويعطي الدليل على مدى جدية موسكو في الوقوف مع حلفائها وأصدقائها.
حينذاك باشر الجنرال والتر فرنون مندوب الولايات المتحدة الدائم لدى الأمم المتحدة، مهمة مكوكية قادته إلى موسكو وبكين، اللتين وجدتا أن فرصتهما للحصول على ثمن ما مقابل السماح بتمرير القرار، فعرضت موسكو قائمة طلباتها على طريقة مهربي المخدرات أمام فرنون، وبعد صراع إرادات وليْ أذرع تم التوصل إلى صيغة أولية للقرار.
ولكن هذا الأمر كان مسبوقا بجهد أمريكي استثنائي لإنقاذ رأس من المقصلة التي أحكم الرئيس صدام حسين أطباقها حول عنق الخميني، تحركت إيران بسرعة تعيد إلى الذاكرة الجسر الجوي الأمريكي لإسرائيل عام 1973، فأرسل الرئيس رونالد ريغان مستشاره لشؤون الأمن القومي روبرت ماكفرلين، وأوليفر نورث الموظف في مجلس الأمن القومي الأمريكي عام 1985، إلى طهران حيث التقيا هاشمي رفسنجاني رئيس مجلس الشورى وممثل الخميني في مجلس الدفاع الأعلى، بعد أن تنكّرا بملابس عمال صيانة الطائرات، وقدما له كيكة أمريكية صنعت خصيصا لهذه المناسبة، وكانت على هيئة خارطة العراق، ومعها سكين، في رسالة سياسية تجسد موافقة الولايات المتحدة على خطط تقسيم العراق، والتي تلتقي فيها البرامج الإسرائيلية الإيرانية مع الرؤية الأمريكية التي عبر عنها جوزيف بايدن، نائب الرئيس الحالي والذي قدمه لمجلس الشيوخ عام 2008 ووافق عليه في قرار غير ملزم على ما ذكر حينها، ومع الكيكة حصلت إيران بموجب صفقة إيران غيت على قطع غيار لأسلحتها الأمريكية من كل الأنواع، وهي الصفقة التي عرفت بإيران غيت أو إيران كونترا، لأن الأموال المستحصلة عنها حولت لثوار الكونترا الذين كانوا يقاتلون نظام الرئيس دانيال أورتيغا الشيوعي في نيكاراغوا، كما حصلت طهران على نوعيات متطورة من صواريخ جو- جو، وصواريخ مضادة للطائرات تحمل على الكتف، من نوع ستينجر، زعمت إيران أنها حصلت عليها من المجاهدين الأفغان، وتضمنت قائمة الأسلحة التي حصلت عليها الزعامة الدينية الإيرانية 96 صاروخاً من نوع "تاو" تم شحنها من إسرائيل إلى إيران على متن طائرة DC-8 انطلقت من إسرائيل، في أغسطس من عام 1985، وفي نوفمبر من عام 1985، تم إرسال 18 صاروخاً تم شحنها من البرتغال وإسرائيل، تبعها 62 صاروخاً آخر أرسلت من إسرائيل، كما كان الاتفاق يقضي ببيع إيران وعن طريق إسرائيل، ما يقارب ثلاثة آلاف صاروخ من نوع "تاو" المضاد للدروع، وصواريخ هوك أرض جو مضادة للطائرات، كل ذلك، مقابل إخلاء سبيل خمسة من الأمريكان المختطفين في لبنان، والذين تم اختطافهم من قبل حزب الله اللبناني.
استماتت إيران من أجل إبقاء هذه الصفقة السياسية طي الكتمان، فقد خسر حسين علي منتظري الذي كان حتى ذلك الوقت نائبا للخميني، نفوذه وفرصته لخلافة الخميني، ودفع مدير مكتب منتظري، محمد هاشمي وهو شقيق صهر منتظري، حياته ثمنا لتلك الصفقة، عندما سرب أخبار زيارة ماكفرلين لطهران وما رافقها وأعقبها من اتفاقات، وخاصة في مجال تجهيز العتاد الحربي الأمريكي والإسرائيلي لجمهورية الخميني الإسلامية، وما دفع هاشمي لكشف الفضيحة، أنه أصيب بصدمة وخيبة أمل، بسبب ما حصل على خلاف ما كان يعتقد من عداء بين إيران والولايات المتحدة، وما كان يتلقى من توجيه وبناء دعائي مستمر، فقد صدّق بما كانت الزعامة الدينية الإيرانية تطرحه من شعارات الموت للشيطان الأكبر والموت لإسرائيل، ولذا فقد وجد في اللقاء التسليحي لقاءً استراتيجيا على كل المستويات، فالسلاح ليس سلعة تجارية يمكن أن تصدر لكل من يطلبها، بل أن الولايات المتحدة لا تصدر كل الأسلحة التي تنتجها إلى دول صديقة لها، لأن واشنطن تضع في اعتبارها الأول قضية الأمن الإسرائيلي، والصفقة بموجب هذا التوصيف يمكن النظر إليها على أنها صفقة للدولة الأكثر رعاية وتطابقا مع الاستراتيجية الأمريكية والإسرائيلية، خاصة وأن إسرائيل أفرغت جانبا من خزينها التسليحي الاستراتيجي لصالح إيران.
شبه جزيرة الفاو
ومع ذلك فلم تنجح تلك الصفقة إلا على نطاق ضيق، حينما نجحت إيران بتحقيق خرق كبير في مغزاه، مع أن نطاقه كان ضئيلا، وذلك عندما عبرت القوات الإيراني شط العرب واحتلت شبه جزيرة الفاو، ولكن مخادعة الفاو التي أسهمت فيها الولايات المتحدة كجزء من الثمن المدفوع لإيران عبر صور الأقمار الصناعية التي تم إيصالها للعراق قبل بدء عمليات الفاو، لتدخل في روع القيادة العراقية أن منطقة الهجوم الإيراني هي منطقة شرقي دجلة في قاطع العمارة، لم تنجح في توسيع رقعة الأرض العراقية المحتلة من جانب القوات الإيرانية، والتي كانت إيران تراهن على أنها المنطقة النموذجية الصالحة للانتشار إلى سائر الأراضي العراقية الأخرى، واستكمال احتلال العراق، بعد هذه الأحداث المفصلية، تحركت القوى المحبطة من صمود العراق بوجه إيران مع كل فارق القوة البشرية والعسكرية والاقتصادية، والعمق الاستراتيجي، على مجلس الأمن من أجل تطويق آثار الحرب وحصرها في أضيق نطاق تمهيدا لوقفها، فجاء القرار 598 لسنة 1987، بعد أن تعسرت ولادته عدة شهور بسبب المماطلة السوفيتية التي ورثتها جمهورية بوتين اليوم.
وفي نهاية المطاف صدر القرار، ولكن إيران اعتمدت سياسة في تعاملها مع القرار، اللارفض واللاقبول، لأنها وجدت أن هذا القرار هو نتاج إجماع دولي لا تستطيع مواجهة العالم برفضه بشكل صريح، ولما كانت تظن أنها قادرة على حسم المعركة بالقوة، فقد ارتأت عدم إعطاء موافقتها عليه، ولكن عمليات تحرير الفاو وما أعقبها من انجازات عسكرية في القاطع الجنوبي، أرغمت الزعامة الإيرانية على إعادة برمجة حساباتها الاستراتيجية، ولكن عناد الخميني على فراغ، كاد أن يقود إيران إلى أكبر كارثة في تاريخها منذ الفتح العربي الإسلامي بعد معركة القادسية، وأمام إلحاح الخط الثاني من الزعامة الإيرانية، خاصة هاشمي رفسنجاني، اضطر الخميني لتجرع كأس السم فوافق على قرار 598 بعد عام كامل من صدوره.
هذه هي إيران باختصار شديد، لن تخضع إلا لقوة السلاح، ولن تغريها للعدول عن أطماعها قصائد الغزل، ولو كانت لجميل بثينة أو عمر بن أبي ربيعة أو نزار قباني.


ليست هناك تعليقات:

تنويه من المحرر

تنويه من المحرر
وجهات نظر موقع شخصي تماماً لا يمثل أي جهة أو حزب أو منظمة، ولا ينتمي إلا للعراق وأمته العربية والإسلامية، وهو محمي بالقانون وبميثاق الشرف الصحفي ولايسمح بإعادة النشر إلا بشرط ذكر المصدر.. الكتاب يتحملون مسؤولية مقالاتهم، والناشر غير مسؤول عنها..