مثنى عبدالله
قبَّل المالكي النجيفي في مُلتقى عمار الحكيم زعيم المجلس الاسلامي الاعلى بداية الاسبوع الجاري. أو قُل قبّل النجيفي المالكي فكلاهما وجهان لعملة واحدة.
هتف رجال الدين السنة والشيعة من أعوان السلطة أمام الرجلين "تحيا الاخوة السنية الشيعية " لأن الطوائف والاثنيات والاديان كلها تختصر في العراق بساسة العملية السياسية, ثم هرعوا الى عدسات الفضائيات التي كانت تغطي الحدث, ليعلنوا انتصار المصالحة والبشرى بوطن حر ومستقبل رغيد, بنفس النبرة التي تحدثوا بها قبل يوم واحد في لقاء الصلاة الموحدة التي أمر بها طاغية طائفي.
في الجانب الاخر وخارج أسوار المنطقة الخضراء المُحصّنة يوجد مشهد اخر بعيد كل البعد عما يجري في لقاء الاخوة الاعداء.
شباب وشيب ونساء ورجال, يصطفون طوابير في ردهات المستشفيات وعلى أبواب دوائر الطب العدلي, بعضهم يأمل بشفاء جريح والاخرين ينتظرون جثة شهيد, هي حصيلة معركة بغداد التي مازالت جارية حتى الان.
نعم انها معركة حقيقية شهدها العراق كله, وماذا يمكن أن نسميها عندما تنفجر في يوم واحد 18 سيارة مفخخة, ويقتل يوميا أكثر من 50 شخصاً بالعبوات والكواتم, وتنتشر المليشيات في العاصمة بعضها تحمل تخويلا رسميا, والاخرى تسير ببركة هذا المعمم أو ذاك, وتقفر الطرقات من المارة والعجلات وتغلق الاسواق التجارية أبوابها , لكن أطراف كثيرة لاتريد الاعلان عن حقيقة الامر واعتبار مايجري معركة, لأن فيه إحراج سياسي وأخلاقي لجهات كثيرة لها اليد الطولى في العراق.
يستعرض رئيس الوزراء شجاعته المختبئة خلف أسوار المنطقة الخضراء منذ سنين , فيتجول في ساعة متأخرة من الليل في بعض مناطق بغداد التي كانت كما عرضها التلفاز خاوية. واذا كانت أحدى النائبات عن التيار الصدري تقول في تصريح لها , بأنه عندما يتحرك من بيته الى مكتبه الذي لايبعد عنه سوى عدة أمتار في المنطقة الخضراء, فإن الدنيا تنقلب بالحمايات المدججة بالسلاح والطرق التي تقطع , فعليكم أن تتصوروا ماذا حدث في بغداد في تلك الليلة, ثم راح يلتقي بالمسؤولين عن الامن ويدعو الى تفعيل الاعتقالات, لأن سجونه السرية والعلنية لازالت تقول هل من مزيد؟ ولأنه يفهم الامن بأنه اعتقالات وتعذيب وعناصر مدججة بالسلاح تجوب الطرقات والاحياء.
في خضم كل هذا المشهد الرهيب يستطيع أي مراقب سياسي أن يحصي بسهولة عدد المرات التي قبّل فيها هذا السياسي شريكه الاخر فصفق لهم الحاضرون, وكم مرة اتهمه فيها بالتآمر والسير في ركاب أجندات خارجية وقبض الاموال من هذه الدولة أو تلك وأيده الحاضرون. لكن لا أحد يستطيع أن يحصي عدد المرات التي زرنا فيها جرحانا في المستشفيات, ولا عدد المرات التي هرعنا فيها الى القاضي الخفر كي نحصل منه على إذن يسمح لنا باستلام جثث شهدائنا من الطب العدلي كي يدفنوا , ولا عدد المرات التي هُجرنا فيها داخل الوطن كي لا يشملنا الاجتثاث الطائفي عند خطوط التماس. فهل يعقل أن يبقى شعب بحجم تاريخ وبطولة شعب العراق أسير ساسة طارئين , وحيز حركته محصور فقط في المسافة الممتدة بين خصومة هذا وذاك, ومصالح هذه الجهة الطائفية أوتلك, وابتسامة المالكي في وجه النجيفي والمطلك وملفاته المضمومة الى يوم غير معلوم, ومواعظ الحكيم الاسبوعية ورسائل الصدر الشرعية الى سائليه؟
وهل حقا أن المصالحة الاخيرة هي من أجل الوطن في محنته الاخيرة الاقسى, أم هي مجرد استراحة قوى مليشياوية تطلبتها لحظة مراجعة ذاتية لمعرفة الخسائر والارباح من استمرار معركة بغداد؟ أم بضغط أمريكي اقليمي لإيقاف بورصة الصراع بهدف التركيز على هدف اخر وعدم فتح ساحات ساخنة أكثر في الوقت الحاضر؟
اننا على قناعة تامة بأن المواطن بات يعرف جيدا بأن المجتمعين في لقاء الحكيم هم أنفسهم الذين اجتمعوا في أربيل سابقا , عندما خرجوا علينا مستبشرين متعانقين مهللين بأن الوطن قد قفز من الجب الى البر وأنه بألف خير , ولم يكد يجف حبر الاتفاق حتى أضحى نائب رئيس الجمهورية الهاشمي محكوما بثلاثة قرارات إعدام, ومجلس السياسات الاستراتيجية المفصّل على قياسات أياد علاوي في خبر كان, وانتفض الاكراد والصدر والعراقية لسحب الثقة من المالكي, وطُرد المطلك وحُرّم عليه دخول مجلس الوزراء, وأتُهم النجيفي بأنه أداة تركيا والسعودية وقطر. لذلك لايمكن التعويل على كل الاتفاقات التي تجري مهما أضفي عليها من هالات الواقعية وتسمية الشعور بالمسؤولية.
ان الشعور بالمسؤولية السياسية والاخلاقية تجاه شعب ووطن تتطلب وجود رجال دولة حقيقيين , وليس زعماء مليشيات تبرز في الازمات وتختفي عند سريان اتفاقات المصالحة.
ان بروز الدور المليشياوي في بغداد مؤخرا وعودة ظاهرة السيطرات الوهمية والاختطاف الطائفي , تؤكد بما لا يقبل الشك بأن الدور المليشياوي لازال يُعوّل عليه في السياسة الداخلية للسلطات الحالية لأنه محسوم الولاء, لذلك كان خروجها الاخير بسرعة قياسية في العاصمة واستعراضاتها العسكرية ومنشوراتها التي توعدت بالاستعداد ليوم الحسم دليل على وجودها المُستتر وعدم اندثارها, مما يؤكد بأن اللقاءات السياسية والمصافحات والاتفاقات والعناق هي مجرد تأجيل للحظة الانفجار وليس حلاً لمسبباتها, وأن شعبنا انما يواجه جوقة من الممثلين في مشهد تمثيلي يدعّون في كل مرة بأنهم تخلوا عن خلافاتهم شعورا بالمسؤولية.
ان حالة عدم الاستقرار المترافق مع العنف المسلح للاجهزة الامنية والعسكرية والمليشياوية والكلام المنمق عن الديمقراطية, هو حجر تعثَّر به شعبنا مرات عديدة طوال السنوات العشر المنصرمة ولايمكن العبور من فوقه مرة أخرى.
ان البديل الحقيقي اليوم هو الانتفاضة العراقية المستمرة منذ خمسة اشهر في المحافظات الستة, والتي يسعى البعض ممن في السلطة وممن هم خارج السلطة أيضا الى إضعافها وإطلاق رصاصة الرحمة عليها, لانها حراك جماهيري حقيقي غير مُسيس وغير ملوث بشهوات السلطة ومغرياتها, وبالتالي فإن مطاليبها كانت حلولا جذرية للمعضلة العراقية لا حلولا ترقيعية.
لذلك سينصب النقاش بعد لقاء الحكيم التصالحي الاخير بين الاطراف السياسية التي تصالحت على ضرورة إنهاء ساحات الاعتصامات العراقية , بإعتبار أن التهدئة والمصالحة يجب أن تنهي كل مظاهر الاعتراض على السلطة, وللاسف فإن الكثير من السياسيين الذين أعلنوا سابقا وقوفهم الى جانب المتظاهرين واستقالوا من مناصبهم الوزارية تضامنا معهم عادوا عن استقالاتهم وباتوا يكيلون المديح الى الطاغية, وهو دليل جديد على أن المحرك الاساسي لساسة العراق الجديد هي المصلحة ولا شيء غيرها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق