مهند العزاوي
شهدَ العالم المعاصر عدداً من المتغيرات التي فرضت ذاتها على هيكل العلاقات الدولية وتفاعلاتها بل ومجتمعاتها، وانعكست بشكل واضح على معظم مجالات الحياة ، ولعل الاعلام المفصل الاكثر تأثيرا اليوم, فأصبحَ الإعلام وأساليب تطويعه لتحقيق الأهداف السياسية والعسكرية عنصراً بارزاً من عناصر التاثير, وباستخدام الرسائل الموجهة لجمهور جرى تصنيفه مسبقا.
وهكذا أصبح العهد الذي نعيشه عصر الإعلام ممزوجا بثورات الاتصالات والمعلومات والتقنيات الحديثة والفضائيات, والذي افرز متغيرات ترتقي الى التحديات الفعلية في صناعة الاعلام الوقاية المجتمعية، وبلا شك تحوّل العالم إلى دولة عالمية نتيجة لما شهدته وسائل الإعلام من تقدم تقنيّ ووظيفيّ في العقود الأخيرة، وأدى ذلك لانتشار وسائل الاتصال والالكتروني وقنوات التواصل الاجتماعي، دافِعةً بالأحداث المختلفة والمحلية منها لعموم دول العالم، وبشكل عكسي تعمل على جاذب الأحداث العالمية إلى بؤرة الاهتمامات المحلّية, مما جعل تنافساً واضح المعالم في الرسائل الاعلامية الموجهة, وتنوع محتواها مع غياب واضح للرسالة الاعلامية العربية ورصانتها, وبالتأكيد انه مرتبط بمتغيرات مركزية طرأت على مسارح الاتصال والسياسة الدولي وبروز عدد من الظواهر وهي:
التحوّلات الأساسية وما نتج عنها من تصاعد لظاهرتي التدويل والعولمة حدّت من الطابع الوطني للدولة , إذ لم تعد مرجعيّتها مطلقة ومتحكِّمةً بمصادر المعرفة المختلفة , وبمعنىً آخر لم يعد المستوى الوطني مقياساً للإستراتيجيات المتنوّعة كما كان الحال عليه من ذي قبل , فهناك تسطيح تدريجي لمبادئ ونظم وأنماط التنظيم والتقييم ، للمصادر المادية واللامادية حول وحدة وتناسق النظام الوطني :- دولة واحدة ، اقتصاد ذاتي ، عملة ، قانون ، سيادة وطنية ، تربية وطنية ، ثقافة وطنية موحَّدة واضحى الاقتباس والاستعارة العمياء من ابرز المعايير المعتمدة دون الاخذ بنظر الاعتبار اختلاف القيم والبيئة والمهارات والمعرفة..الخ .
انتشار الحروب والنزاعات وظهور سياسة التقطيع الناعم المدعوم اعلاميا والتقسيم الخشن المنفذ عسكريا والزاحف في مسارح الاحداث السياسية والعربية منها هو الاخر قد افرز اصطفافات متعددة داخل وسائل الاعلام ( لوبي – امزجة شخصية ) اتاح الهيمنة الدولية على الرسالة الاعلامية وحزمة الاخبار والاهتمام بالتغطية الاعلامية وانتهاج رسالة غير عربية الفكر والمحتوى .
تفاقم مُتغيّرات الثورة التكنولوجية الواسعة التي عرفها قطاع الإعلام والاتصال وتنافس التكنولوجيات الرقمية في مجال الاعلام مما انتج رسائل مشوشة ومضطربة والبعض منها مروعة ضمن فلسفة الدعاية وقد تركت اثرا عميقا في نفوس الجمهور وقد فشل الاعلام في الوقاية والمعالجة .
بروز ظاهرة الخصخصة الاعلامية ونشوء اعلام عالمي يحاكي جمهور مصنف من ناحيته على انه عالم رابع وثالث , واتساع وسائل الاتصال والنقل التقني مما جعل من التوجيه الاعلامي ضعيفا للغاية , وبرزت في العالم العربي سيولة وسائل الاعلام الشركاتي والخاص والحزبي والإيديولوجي والديني والتجاري والإخباري الموجه ليحاكي ذات الجمهور , ليفرز بدوره خنادق مجتمعية متعددة متصارعة فيما بينها تعود سلبا على تماسك المجتمعات .
تحول العالم من فلسفة الاستقرار وعقيدة الامن الى فلسفة الاضطراب وعقيدة الارهاب بغية صناعة بيئة الارهاب لبيع منتجات الامن القومي , ويتم ذلك من خلال هيكلة العقول بالمبثوث الفكري الهدام , والاستدلال على اساليب ووسائل استخدام العنف سواء بالبرامج الدورية عبر القنوات العربية (برنامج صناعة الموت - قناة العربية) او من خلال الافلام الموجهة والتي تثقف على استخدام العنف والانتقام والجريمة .
صعود المليشيات الطائفية المسلحة الى سدة السلطة , وتوظيف المال العام في صناعة رسالة اعلامية ترسخ ثقافة التمييز الطائفي والإقصاء المذهبي وتشجيع القتل خارج القانون وفق مبررات وأساطير وهمية مختلقة لزرع الفتنة والاحتراب المجتمعي.
غياب الرقابة الاعلامية والمهنية على الصناعة الخبرية والحوارية , وغياب المسائلة القانونية مما اتاح لحرب الايديولوجيات والأفكار ملاذاً اعلامي امن لها .
اتساق الاعلام العربي بالإعلام الدولي دون الاخذ بنظر الاعتبار الاختلاف القيمي والبيئي والمنهجي ونوع الجمهور وشكل الرسالة ويوصف اعلام ناطق باللغة العربية لخلوه من الرسالة الاعلامية العربية المنهج
ظهور التكتلات الاعلامية ذات الطابع الجهوي من جهة , والنفعي التجاري من جهة اخرى , والمعتمد على فلسفة الاخضاع والتسطيح الاعلامي بالإغراق الصوري والهشاشة الخبرية وفق فلسفة " اكتب وانشر واعرض ما يرغبه الراعي " وليس ما يحتاجه المجتمع وبلاشك انها فلسفة تعتمد مصلحة الافراد الشخصية للاحتفاظ بالوظائف .
تحول بيوت الخبرة ومراكز الدراسات الى دكاكين مملوكة لأصحابها من جهة , وأسيرة مدرائها وعناصر التاثير من جهة اخرى , مما يفقد تلك الصروح الفكرية قيمتها ويجعلها مستعرضة للأحداث من وجهة نظر الراعي المالي , ويؤسس لأفكاره التي قد لتتسق بالواقع السياسي ومعالجاته .
بروز ظاهرة التجهيل الاعلامي من خلال ابقاء القيم الاعلامية اسيرة الطرائق النظرية التقليدية والتي اصبحت لتتسق بالقيم الاعلامية الحديثة والمتطورة , وإصرار البعض على التمسك بمنهجية فاقدة التحديث والتجديد ترتقي الى الكسل او التسطيح المعرفي , مما يتيح للآخرين التحكم بقواعد اللعبة الاعلامية والهيمنة على الرسالة والجمهور معا .
ظهور الحواشي الاعلامية في عدد من وسائل الاعلام الشائعة والمهمة والتي تنظر للرسائل الاعلامية وفق منظور متخلف وشخصي احيانا ليتسق بالمعايير المهنية من جانب وبالإحداث الراهنة المتفاعلة والوقاية الفكرية المجتمعية من جانب اخر .
غياب التحديث الاكاديمي للعلوم السياسية والإعلامية نظرا لاتساق كلاهما من حيث الاستراتيجية والبقاء على المناهج القديمة التي تحاكي عقود خلت في ظل المتغيرات السيالة العابرة للقواعد والطرائق العلمية القديمة .
اصبح الاتصال والإعلام متشعبا ليس في الاعلام والعلاقات العامة والإعلان والدعاية فحسب بل اتجه الى تشكيل امبراطوريات كبرى تبدأ من الاجهزة الالكترونية وبرامج التواصل وتمر بتنمية مهارات الاتصال ولم تنتهي بحاجز معين , بل تصنع جمهور متجدد كل يوم ليس في الجانب الاجتماعي فحسب بل في الجوانب الوظيفية والعملياتية والإستراتيجية , وقد تطور الاعلام كثيرا وقد غادر التسميات التقليدية , بل وتفرع من تلك العناوين الرئيسية اتجاهات حديثة تحاكي الاعلام التخصصي لكل جهة , وعلى سبيل المثال دخول الاعلام الالكتروني وقنوات التواصل الاجتماعي وسيولة البرامج المعنية بالتحدث المرئي جعل من الاعلام اكثر اتساعا ولم يقتصر على وسائل الاعلام المحلية والعالمية فحسب , بل اتجهت تلك الوسائل لتعزيز جمهورها بالذهاب الى التحديثات المتطورة وأسست قنوات اتصال الكتروني تساند الاعلام المرئي والمسموع والمكتوب والذي يحاكي الحداثة والتطور .
شهد عنصرا الرأي العام والدعاية هما ايضا اختلافا كثيرا, حيث اصبح الجمهور مختلف متعدد الامزجة متنوع التوجهات, متلقياً لأفكار هجينة بلا وقاية في ظل سيولة وسائل الاعلام, وتعدد حزمها, وتنوع تخصصاتها, واتساع دائرة الدعاية والدعاية المضادة, والتي اصبحت جمهوريات تصنع الخوف وتضخم التهديد , وتشيع الترويع, وتبسط جناح الهلع على الجمهور, لتحقيق اهداف وغايات استراتيجية تتعلق بتفكيك المجتمعات والولوج لعقولها , ولم تعد تقتصر على موظفين ودوائر فحسب , بل اتجهت لتوظيف التقنية المتطورة للوصول الى العقل البشري , وتغيير توجهاته وعاداته , وفرض التاثير السياسي والاجتماعي عليه , ويلاحظ هنا ان العالم برمته يتناول خبر غربي لمقتل 3 اشخاص في الولايات المتحدة الاميركية او اي دولة خارج النطاق العالم العربي ومحيطه , بينما يقتل مئات الآلاف في العراق والصومال والسودان وسوريا بلا تغطية ومسائلة قانونية دولية , ضمن سياسة التمييز الاقناعي بان هؤلاء وقود لبقاء الاقوى وهذا ما يحصل بالضبط في ظل غياب الرسالة الاعلامية العربية الناجعة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق