زيد الحلي
هل الحنين، ام الذهول، ام حالة تقدم العمر، ام الشعور بالعيش بالمكان الخطأ، هو الذي جعلني اذرف دمعتي امس، وهي العصية، اثناء متابعتي لـ (قناة العباسية)
هذه القناة الشابة، عرضت فلما وثائقيا عن شارع الرشيد، صُورت مشاهده بأشهر قليلة قبل الاحتلال الامريكي، وتحديدا في العام 2002، كان الشارع يمثل حيوية، افتقدها لاحقاً، رغم ان العراق كان يعاني من الحصار المجرم، لكن النظافة والنظام والحرص على التراث، كان ظاهرا بشكل واضح ... بل واضح جداً ... فمن غيَّر حال العراقيين من الرقيّ الى الفوضى.. من؟
طافت بنا الكاميرا، بعفوية، في أزقة الشارع الذي شهد مقتله بعد 2003 وتجول بنا بين ذكريات "مكتبة مكنزي" احدى حواضر العراق الثقافية، وبين خلجات الخياط الشهير "احمد خماس" الذي استبدلناه بـ (خرق) البدلات الصينية، والمجوهراتي الشهير "زهرون" وذهبه، بلمعانه الاصيل، واستعضنا عنه بالذهب البرازيلي، رخيص الثمن!
واخذنا معه مخرج الفلم جاسم الذهبي الى سوق الصفارين، وركزت كاميرته على منتجات وحرفية هذه السوق، عالية الذوق، لكن الزمن الحالي، ردم هذه السوق وحولها الى دكاكين، فقيرة تعرض السائد من المنتوجات المستوردة ..
ان توجه هذه القناة الى عرض، افلام وثائقية، عن بغداد والمحافظات ومعالمها التي ضيعتها الجهالة، إسهامة في افهام الجيل الجديد، ان عراقهم وبغدادهم ليست التي يرونها حاليا، حيث السواد والسيطرات والحواجز الكونكريتية، بل هي شوارع السعدون وابو نؤاس والنهر ومحلات البتاويين والكرادة والكاظمية والاعظمية، وأن عراقهم شناشيل البصرة، وغابات الموصل.. هي مشاهد آية في الجمال والطمأنينة ...
ذرفت دمعة، ولحقتها دمعات وانا اشاهد عيادات الاطباء ومحلات ومعارض شارع الرشيد بكل رزانتها ورصانتها وديكوراتها واضويتها في ساعة متأخرة من الليل، وعلى محيا اصحابها بسمة الود والامل، وفي ثنايا حديث احد الذين التقتهم الكامرا، تحس معنى الحبور والبشر، فقال هذا المواطن، وهو في كامل اناقته إنه مدعو الى حفل زفاف، سيذهب اليه بعد قليل، وكان حديثه في وقت تجاوز الساعة التاسعة مساء..
هذا الشارع، بهكذا حيوية كان يعج بالناس والحركة، لكنه بعد اشهر قليلة، تحول الى شارع خال من الحضارة، تملؤه العربات التي تجرها الحيوانات، وباعة الفلافل، والمعلبات منتهية الصلاحية.. شارع يغمض عينيه عصرا !!
لو كان هناك ضمير حي لدى اي مسؤول عن الخدمات والاعمار، لأنتفض خجلا من ما آل اليه حال هذا الشارع.. إنه يشكو من جرح غائر، ويعتب على غدر الزمان الذي حوله الى شارع مهجور، لأن من بيدهم الأمر لا يقدرون اهميته التاريخية في حياة العراقيين..
لعن الله عقلية القرية حين تتحكم بأمور الثقافة والوعي والتقدم والحضارة، قلبي معك شارع الرشيد واقترح على ادارة قناة "العباسية" اهداء هذا الفلم وغيره الى المعنيين، كي يدركوا حجم الخراب والشرخ الذي أحدثوه في حضارة العراق، فيما هم يدعون انهم جاؤوا ليحكموا من بلاد راقية !!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق