بدر الدين كاشف الغطاء
يصف بعض المثقفين انتفاضة العراقيين الأخيرة التي إنطلقت أواخر كانون الأول عام 2012 بأنها نتيجة وإستمرارا لثورات الربيع العربي، وهذا التوصيف فيه قصور يتعلق بالعلاقة بين السبب والنتيجة، ومع كل التقدير لثورات الربيع العربي فإن التحدي الذي واجهه العراق كان أسبق وأكبر بكثير من تحدي حاكم ظالم ونظام فاسد.
فالعراق يواجه منذ إنتصاره في الحرب العراقية – الإيرانية عام 1988 مخططا دوليا تقوده الصهيونية العالمية والصفوية الفارسية لإسقاط تجربته الوطنية القومية التنموية الرائدة وتقسيمه، ولقد واجه شعب العراق هذا المخطط بمقاومة وصمود أسطوريين ، تحدى فيهما جوع الحصار الشامل لثلاث عشرة سنة وتحدى التدمير المنظم بالآلة العسكرية الغربية لبناه التحتية ومدنه وقراه ، ثم جاء الإحتلال العسكري الذي قادته أمريكا وساعدتها عسكريا بشكل مباشر 48 دولة (حسب إقرار بوش الإبن في مذكراته) ونجحت المقاومة العراقية في الإنتصار على هذا الإحتلال الغاشم، وكان هذا الإنتصار نقطة تحوّل كبرى في التاريخ الإنساني بدأت آثارها تظهر في مجمل العلاقات الدولية بدءا من سقوط نظام القطب الواحد وإنكفاء الدور الأمريكي في الأزمات الدولية مرورا بالأزمة الإقتصادية العالمية التي كان من بين أكبر أسبابها الإختلالات التي سببتها خسارة أمريكا ثلاثة ترليونات دولار نتيجة غزوها للعراق، وأخيرا وليس آخرا شجّع هذا الإنتصار موجة النهوض الجماهيري العربي لإسقاط الهياكل السياسية الاستبدادية التي فشلت في تنمية قدرات الأمة وحرمت شعوبها من حقوقها الأساسية ونكثت بالتزاماتها القومية. إنتفاضة كانون الأول 2012 هي صفحة من صفحات جهاد العراقيين التاريخي المجيد لإسقاط ما تبقى من مشروع الإحتلال وإقامة سلطة وطنية ديمقراطية تتصدى لمهمات النهوض بالبلد وتحقيق تطلعات شعبه ذو التاريخ الحضاري الفريد.
ان إنتفاضة كانون الأول 2012 هي إنتفاضة عراقية أصيلة إنطلقت عفوية ردا على الظلم والتهميش والفساد وعمالة الحكّام للأجنبي ، لكن لا يجب أن تبقى هذه الإنتفاضة أسيرة العفوية وردود الفعل، وعلى قياداتها الوطنية مسؤولية تاريخية في توحيد شعاراتها ومطالبها وتحصينها من مساومات عملاء الإحتلال المشاركين في العملية السياسية ومن محاولات بعض القوى الخارجية ركوب موجتها ، كما يجب تحديد مساراتها المقبلة في ضوء دراسة دقيقة للواقع الحالي وآفاقه . إن الهدف الآنيّ الأكبر هو توحيد الإنتفاضة حول شعار ستراتيجي جامع، والشعار الوحيد الذي يبدو جامعا فعلا هو شعار(الشعب يريد إسقاط النظام) وذلك للأسباب الآتية :
1– النظام السياسي المنشأ في ظل الإحتلال باطل شرعا وقانونا وأطرافه أحزاب أنشأتها دول معادية للعراق لخدمة مصالح تلك الدول، وأشخاصه عملاء فاسدون مفسدون ، وهذه الحقيقة عززتها تجربة الأعوام العشرة منذ الإحتلال التي تحول فيها العراق إلى الدولة الأكثر فسادا والأقل أمنا وتحول غالبية شعبها الى أرامل وأيتام وفقراء يقطعون الفيافي لإشباع بطونهم في (موائد حسينية) جاءت من مال حرام .
العراقيون الشرفاء من الفاو إلى زاخو متوحدون اليوم حول هدف إسقاط النظام ، والمقصود بالنظام هنا ليس حكومة المالكي بل كل ما جاء به الإحتلال من إجراءت وقوانين ودستور وهياكل سياسية وتشريعية وقضائية كونها ، بموجب القانون الدولي، غير شرعية وباطلة ولا أثر قانوني لها ولا يجب الإعتراف بها كلا أو جزءا، والتجربة أثبتت أن أمل البعض في إصلاح هذا النظام هو أمل زائف إضافة إلى أنه غير شرعي وغير أخلاقي ، فإزالة علاوي جاءت بالأسوأ منه هو الجعفري وإسقاط الأخير جاء بالأسوأ منه وهو المالكي وإسقاط هذا قد يأتي بصولاغ مثلا، وشاعرنا يقول:
لا تقطعن ذنب الأفعى وترسلها إن كنت شهما فأتبع رأسها الذنبا
2– شعار (الشعب يريد إسقاط النظام) إكتسب شهرة عالمية وأصبح رمزا للشعوب الثائرة على حكامها الطغاة، وشعوب العالم تدعم هذا الشعار وتعارض إستخدام السلطة للقوة ضد متظاهرين يرفعون هذا الشعار.
3- هذا الشعار سيجعل مهمة عملاء إيران في الحشد الطائفي أكثر صعوبة على عكس الكثير من الشعارات والتصريحات العفوية التي رفعت في الأسبوعين الأولين من إنطلاق الإنتفاضة الحالية كإزالة فقرة من قانون الإرهاب أو طلب المساواة في تطبيق (قانون المساءلة والعدالة) أوتحقيق التوازن الطائفي في توزيع المناصب الحكومية. هذه المطالب إستغلها عملاء إيران للإدعاء بإنها ذات صفة طائفية وإستدعوا لمحاربتها طائفيتهم المضادة بأبشع صورها.
4 - هذا الشعار يفصل الخنادق ويمنع محاولات إختطاف الإنتفاضة من قبل سياسيي المنطقة الخضراء المنتمون للمحافظات الغربية، فهؤلاء يرفضون إسقاط النظام لإنه مصدر ترفهم وثرائهم وسحتهم (صرح ظافر العاني يوم 10/1/2013 قائلاً: ان المتظاهرين في المحافظات الثلاث لايريدون اسقاط النظام الحالي بل يريدون اصلاحه)، وكل ما يريده هؤلاء من الإنتفاضة هو إستخدامها كورقة ضغط لإبتزاز شركائهم في العملية السياسية من عملاء إيران لمنحهم مناصب أعلى وعقودا أكبر وسرقات أوفر، وكان المنتفضون واعين لهذه النوايا الخبيثة وطردوا المطلك من بين صفوفهم شر طردة .
عكست ردة فعل عملاء إيران، على هذه الإنتفاضة، رعبهم وإنهيارهم خاصة بعدما شعروا أن شرارة الإنتفاضة بدأت تمتد لجميع انحاء العراق، ولذلك لجأوا الى التهييج الطائفي كملاذ أخير، وهدد جلال الصغير في خطبة الجمعة يوم 11/1/2013 قائلا بإن إشارة واحدة ممن أسماه أسد العراق (يقصد السيستاني) سترسل خمسة ملايين من العشرين مليونا الذين شاركوا في الزيارة الأربعينية لكي (يمسحوا الأرض بهؤلاء الطائفيين) وأضاف (فانا اقولها لكم جادا ثمة اسود لم تروها حتى في الكوابيس ولدينا مصنعا من الرجال يتخرج من هذه المسيرات فمن يسير بكل هذا التعب من اجل قيمه ومبادئه ماذا سيفعل بكم اذا رآكم تتآمرون على هذه المبادئ والقيم) .
والمالكي قبله هدد بتحويلها الى حرب طائفية كحرب 2005-2006 ، ووجه حزبه وإعلامه أن يطلقوا عليه صفة (مختار العصر) كما تظهره الصورة أدناه التي رفعها رجال أمنه وعمال البلدية الذين أخرجهم للتظاهر لنصرته يوم 12/1/2012 في بغداد.
والمختار المقصود هو المختار الثقفي الذي قاتل الجيش الأموي تحت شعار (يا لثارات الحسين) .
إن هذه الشعارات والتهديدات الفارغة تعكس الإفلاس الديني والسياسي والإنحطاط الأخلاقي لهؤلاء العملاء الذين يهددون المتظاهرين السلميين بمذابح طائفية ويسيئون لإمام الزاهدين وشيخ الأتقياء الإمام علي (كرم الله وجهه) بإدعاء الإنتساب له وهم أبعد الناس عنه وعن نهجه وسلوكه ، ولو عاد عليا لحاربه الداعون اليه وسمّوه بعثيا !!
ومن أسباب تصرفات عملاء إيران الموتورة إزاء هذه الإنتفاضة ، أنهم يعرفون أن نظامهم في مهب الريح وأنه يدين بالفضل لإستمراره لحد الآن إلى أمريكا وإيران، فهاتان الدولتان، ولكل منهما أسبابها الخاصة، تريان أن بقاء هذا الشكل المتهريء من نظام الحكم في العراق يخدم مصالحهما، ويعرف عملاء إيران أن هذه المعادلة بدأت تتأرجح في الفترة الأخيرة، فإنشغال إيران في أزماتها الداخلية والرفض المتصاعد لشعوب إيران لحكم ولاية الفقيه وثورة شعب الأحواز العربي وضغط االعقوبات الإقتصادية وتعمّق عزلة إيران الدولية على خلفية مماطلتها في كشف الحقائق حول ملفها النووي ونزيفها المادي والمعنوي في سوريا ولبنان والسياسات الحازمة لدول مجلس التعاون الخليجي إزاء مخططاتها التوسعية والتقسيمية في الخليج العربي، كل ذلك جعل قبضتها على العراق تتراخى ، أما أمريكا فهي أصلا إقتنعت بهزيمتها في العراق منذ وقت طويل ولم يعد يهمها كثيرا إستمرار النظام السياسي (الديمقراطي) الذي أقامته في العراق .
ونحن نقترب بعون الله من تحقيق النصر الناجز على بقايا مشروع الإحتلال لا بد من إجراءات عملية تهيء لمرحلة ما بعد سقوط مشروع الإحتلال، وحبذا، كخطوة عملية، أن تقوم قيادة المقاومة والقوى الوطنية العراقية المناهضة للإحتلال بشكل عام وبدعم عربي بالإعلان عن تشكيل مؤتمر التحرير الموسع ليضمّ الأحزاب والجبهات والقوى العراقية المقاومة والمناهضة للإحتلال إضافة الى الشخصيات الوطنية العراقية المستقلة من عسكريين وسياسيين ومهنيين ومثقفين وصحفيين ووجوه إجتماعية ورؤساء عشائرمن داخل العراق وخارجه.
والمبادئ التي يقوم عليها هذا المؤتمر هي إقامة نظام حكم وطني ديمقراطي يؤمن بالوحدة الوطنية ويكون الشعب فيه مصدر السلطات ويرسخ التعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة عبر إنتخابات نزيهة ويضمن حقوق المواطن وكرامته والمساواة وتكافؤ الفرص.
ويقوم المؤتمر الوطني الموسع بتشكيل حكومة وحدة وطنية مؤقتة أساسها الكفاءة والنزاهة تتولى إدارة الدولة وإعادة بناء مؤسساتها وإعداد دستور دائم للعراق، ويبقى مؤتمر التحرير الموسع يعمل سندا ورقيبا لحين إستقرار المؤسسات السياسية والتشريعية والقانونية للعراق المحرر.
والله المستعان.
هناك تعليق واحد:
عم.ركن ق . خ
بسم الله الرحمن الرحيم
إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم و إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا و على ربهم يتوكلون
صدق الله العظيم
إرسال تعليق