صحيفة العراق الإلكترونية
تتميز النظم العنصرية في العالم والتي تحكم باسم مجموعة سكانية محددة وتطرح نفسها كمحتكر لهذا التمثيل، بالسعي إلى تخدير الطائفة أو العرق اللذين تحكم باسمهما، بأنها خير من يمثلهما في حكم البلد وأن مصيرهما مرتبط بضمان استمرارها في السلطة.
وبالمقابل تذهب إلى عزل الأطراف والمكونات العرقية والمذهبية الأخرى بصرف النظر عن حجم النسب السكانية لجهة الحاكمين أو المحكومين، استئثاراً بمكاسب السلطة وأدواتها القمعية لضمان منع أي تململ شعبي رافض لاحتكار السلطة من طرف مجموعة سكانية واحدة، ومن أجل ذلك تباشر سلسلة من منهجية من الظلم والاضطهاد والتهميش للطرف أو الأطراف الأخرى.
وعانى الوطن العربي من أسوأ نظم الفصل العنصري في التاريخ، وذلك حينما تم احتلال فلسطين عبر مؤامرة دولية، أقيم على أثرها في فلسطين نظام كولونيالي أي احتلال استيطاني إجلائي من قبل مجاميع سكانية تم استقدامها من مختلف بقاع الأرض وليصار لتنفيذ عمليات تهجير بالقوة للسكان الأصليين، وعلى الرغم من أن القوى الدولية الكبرى وفرت مظلة الحماية للكيان الصهيوني العنصري، وعلى الرغم من مجلس الأمن الدولي عجز عن توصيف السياسة الإسرائيلية بما تستحق، إلا أن الجمعية العامة للأمم المتحدة وفي منتصف السبعينات من القرن الماضي أقرت بأن إسرائيل كيان عنصري استنادا إلى الحقائق المطروحة على الأرض واستنادا إلى أن الفكرة الصهيونية تقوم على نظرة عنصرية تشعر بالتفوق على أي شعب آخر استنادا إلى فكرة شعب الله المختار.
ولم تكن فلسطين هي البقعة الجغرافية التي عانت من ويلات الاحتلال العنصري، ففي جنوب أفريقيا أقام المحتلون الأوربيون وأخلافهم نظاما لا يختلف كثيرا عما شهدته فلسطين، باستثناء أن سلطة جنوب أفريقيا العنصرية لم تشن حملة تهجير على السكان الأصليين في البلاد، بل حولتهم إلى عبيد لتأدية الواجبات والوظائف الحقيرة في المجتمع، من دون أن تكون لهم حقوق تعترف بإنسانيتهم فهم كائنات بشرية شأنها شأن ما يمتلكه الرأسمالي الأبيض من حيوانات ومقتنيات، وحاولت تجربة جنوب أفريقيا التوسع في نظام حكمها السائد، ونجحت في ستينات القرن الماضي من التعاون مع أيان سمث في إقامة بؤرة عنصرية جديدة في وسط أفريقيا عندما أعلن عن قيام نظام روديسيا، ولكن أيا من نظام جنوب أفريقيا أو روديسيا، لم يتمكنا من تجاوز الحدود الجغرافية لهما، إذ تعرضا لعقوبات سياسية واقتصادية دولية خانقة على الرغم من بعض الخروقات التي كانت تحصل من جانب الدول الكبرى نفسها، وانهارت تجربتا الحكم في جنوب أفريقيا ومن قبلها تجربة روديسيا، وتمكنت الأغلبية من استعادة حقوقها في حكم بلدها.
ما يحصل اليوم في العراق هو استنساخ لكلا التجربتين في فلسطين وفي أفريقيا، فنموذج الحكم الذي صممه الحاكم الأمريكي بول بريمر بعد احتلال 2003 وكرسه في قانون إدارة الدولة المؤقت ومن ثم في دستور 2005، اعتمد على نحو لافت للنظر على مجاميع تم جلبها من خارج العرق وخاصة إيران، لحكم البلد بعد تفريغه من أبنائه المخلصين سواء بالتغييب بالقتل، أو بالتهجير إلى الخارج، وكانت ذروة هذا المخطط في حكومة إبراهيم الجعفري ومن ثم حكومة نوري المالكي، حيث وضعت الخطط المنهجية لاستقدام الآلاف من الإيرانيين للاضطلاع بمهمة إسناد الحكم وتهيئة الأجواء السياسية والنفسية للقفز إليه بعد تجنيسهم بالجنسية العراقية.
إن سياسة الفصل الطائفي لا تختلف كثيرا عن سياسة الفصل العنصري التي تتبعها إسرائيل في فلسطين المحتلة أو التي اتبعها نظام جنوب أفريقيا السابقة، حتى بد الحديث عن الأغلبية والأقلية لازمة يراد بها تكريس الهويات الفرعية على حساب الهوية العراقية الجامعة، وكان الأصل في المخطط الأمريكي السابق للاحتلال إقامة ثلاثة كيانات كونفدرالية في العراق كجزء من خطة البلقنة التي وضعت لمنطقة المشرق العربي ومنطقة الشرق الأوسط وكأن اتفاقية سايكس بيكو لم تكفهم في تمزيق أوصال الوطن العربي لإضعافهما والتحكم بقراراتهما السياسية.
أمام هذه السياسية المستهجنة من جانب العراقيين جميعا، كانت الجماهير تنتظر الفرصة المواتية للتحرك المضاد، وتمثل ذلك بعدد من الانتفاضات التي تداخلت فيها المفاهيم والألوان، ولأنها لم تطرح برنامجا وطنيا حقيقيا أصيبت بالإخفاق وتمكن المالكي من توجيه ضربات استباقية ووقائية لها، والحوادث كثيرة في الذاكرة السياسية العراقية لما بعد الاحتلال الأمريكي.
ولكن ما يجري هذه الأيام في الأنبار وصلاح الدين ونينوى ومدن عراقية أخرى، يعد وبكل المقاييس أخطر تحد واجهته العملية السياسية وحكومة نوري المالكي، واستمات المالكي هو والشلة التي تحيط به، في عملية خلط للألوان من أجل تصوير الأمر على أنه تحرك طائفي يخص العرب السنة فقط، بل أنه ذهب أبعد من ذلك حينما ركز على أن ما يحصل ليس أكثر من رد فعل على ما جرى من اعتقال لأفراد حماية وزير المالية، وهذه المحاولات وعلى الرغم من أن المالكي يعرف أنها لا تتطابق مع الواقع فإنه يتمسك بها لإفراغ التظاهرات من مضمونها الوطني السلمي، ولأن وعي الشارع العراقي يفوق وعي حكامه الحاليين، فأن الجماهير المحتشدة في الرمادي والفلوجة وسامراء والموصل، رد على ذلك المخطط برفع الشعارات المعبرة عن حالة الغضب الوطني على مجمل السياسات الخاطئة التي مارستها حكومة المالكي بحيث أوصلت العراق إلى ما هو عليه من فساد وتخلف وتردي في الخدمات، وهو ما يتحمله المالكي شخصيا لوحده، لأنه كف يد السلطة التشريعية عن ممارسة واجباتها في الرقابة على السلطة التنفيذية، كما أنه أدخل وزراء الدولة ومسؤوليها في حالة ترقب وانتظار لشهر سلاح الملفات المعتقة والتي يحتفظ بها مثل صبي جاهل يتعامل بهذه الطرق التي لا تليق بمن يسمي نفسه رجل دولة.
ولأن المالكي كان على الدوام رجل أزمة وليس رجل دولة فقد ورط العراق ونفسه في دوامة لا تنتهي من الأزمات المتناسلة، وكان هذا من حسن حظ معارضيه وخصومه وأعدائه، فقد وجدوا في سياسته تهديدا لهم من دون استثناء والأمر لا يعدو عن كونه مجرد دولاب يدور ليسقط ظله على الضحية الجديدة، من هنا جاءت أهمية الموقف الذي أعلنه التيار الصدري بالوقوف إلى جانب التظاهرات، وتحميل المالكي المسؤولية كاملة فيما وصل إليه العراق من ترد وانهيار لمنومة الدولة ومنظومة القيم العراقية، لولا تدارك الأمر من جانب المخلصين للعراق والعاملين على نهضته واستعادته لمكانته بين الدول المتحضرة.
لقد جاء موقف التحالف الكردستاني بدعم التظاهرات وكذلك موقف التيار الصدري ليكون الضربة الأولى في المعول الوطني لجدار الفصل الطائفي في العراق، وقطعا فإن لهذه المواقف الوطنية المشرفة ما بعدها مما يزيل كل الصورة البشعة التي عاشها العراق عامي 2006 و2007.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق