وجهات نظر
بشير موسى نافع
كان
هو أيضاً يوماً تشرينياً دافئاً قبل عامين عندما أعلن عن تشكيل اللجنة التوافقية
التركية لكتابة دستور البلاد الجديد، بعدد متساو من الأعضاء لكل حزب ممثل في
البرلمان، بغض النظر عن حجم الحزب وكتلته البرلمانية.
باعتبارها
الدولة الوريثة للسلطنة العثمانية، تقرأ تركيا الجمهورية
تاريخها الدستوري بدءاً من الدستور الحميدي، 1876، أول دستور للسلطنة وأول وثيقة
دستورية حديثة وناضجة في المشرق كله. وقد وضع الدستور الأول بعد ما يشبه انقلاب
قصر، تعهده العثمانيون الجدد على السلطان مراد، وفي ظل انتكاسات عثمانية في جناح
السلطنة الأوروبي وتهديد روسي بالحرب. عطل الدستور بعد عام واحد فقط من اجتماع أول
مجلس للمبعوث العثماني (برلمان السلطنة الأول)، بتأثير من الحرب المشتعلة مع روسيا،
ولم يعد العمل به إلا بعد انقلاب الاتحاد والترقي الأول في 1908.
بانهيار
الدولة العثمانية، وضع المجلس الوطني الكبير القانون الأساسي في 1921، والبلاد
تعيش انقساماً فادحاً بين إسطنبول وأنقره وتخوض حرب استقلال مريرة؛ وقد عدل
القانون الأساسي في نهاية حرب الاستقلال في 1923 ليتضمن تحول تركيا إلى جمهورية.
في 1960، تعرضت الجمهورية لأول انقلاب عسكري، عطل الدستور وفتح المجال لسيطرة
الجيش الطويلة على قرار الدولة، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة. وبعد عام واحد،
1961، وضع ضباط الانقلاب دستوراً جديداً، ظنوا حينها أنه سيوفر ضمانة مطلقة للأسس
التي استندت إليها الجمهورية الكمالية.
ولكن
تحديات السبعينات، سواء من جانب التيار الإسلامي أو الصدامات المتكررة بين
القوميين واليساريين، أوصلت الجمهورية إلى الانقلاب العسكري الصريح الثاني في
1980، وإلى تعطيل العمل بالدستور من جديد. وبعد عامين، وضع الانقلابيون، المسكونون
بفكرة سيطرة الدولة وإحكام قبضتها، دستوراً هو الأكثر تفصيلاً في تاريخ الجمهورية.
هذا الدستور، دستور 1982، هو الذي يجري العمل به الآن. وبالرغم من أنه تعرض لعشرات
التعديلات، سيما منذ تولي حزب العدالة والتنمية الحكم في تشرين ثاني/نوفمبر 2002،
وأنه أصبح أكثر ديمقراطية، إلا أن روح النظام الانقلابي لم تزل تسري فيه.
كانت
محاولة وضع دستور توافقي واحدة من أكثر خطوات الإصلاح التي اتخذتها حكومة العدالة
والتنمية طموحاً. خلال السنوات العشر الماضية، تعهدت حكومة إردوغان واحدة من أكبر
مشاريع الإصلاح والتغيير الديمقراطي التي عرفتها تركيا الجمهورية منذ تأسيسها.
طالت القوانين التي تبناها العدالة والتنمية، وعشرات التعديلات الدستورية التي
استفتي عليها الشعب، كافة مناحي الحياة وعملية الحكم وعلاقة الدولة بالمجتمع، بما
في ذلك قانون الأحزاب، قانون الانتخابات، العملية التعليمية، حقوق المرأة، حرية
العمل النقابي، قانون القوات المسلحة، حقوق الأقليات، والحريات العامة. وإلى جانب
حالة النهوض الاقتصادي التي لم تعرف تركيا لها مثيلاً منذ عهود الازدهار
العثمانية، فإن ثلاث مسائل كبرى أرقت الجمهورية وشعبها عند صعود العدالة والتنمية
للحكم: الميراث الانقلابي العسكري، وحالة الفصام والصراع الإيديولوجي بين صفوف
الشعب وبين الشعب ودولته، والمسألة الكردية.
واجهت البلاد الميراث الانقلابي ليس بتغيير القوانين التي تنظم عمل ومسؤوليات القوات المسلحة وحسب، بل وبإحكام سيطرة القيادات المدنية على المؤسسة العسكرية، وتغيير بنية مجلس الدفاع الأعلى، ثم بسلسلة من المحاكمات، التي بدأت منذ 2008، ولم تنته حتى الآن، وطالت كل التنظيمات السرية، وعشرات الضباط الذين شاركوا في انقلابات سابقة أو خططوا لانقلابات لاحقة.
من جهة أخرى، ساعد عدد من التعديلات الدستورية والتشريعات البرلمانية على وضع نهاية لسياسات التمييز والحرب التي تبنتها الدولة منذ عشرينات القرن الماضي ضد الملتزمين إسلامياً أو الإسلام وقيمه. بذلك، عملت حكومة العدالة والتنمية طوال السنوات العشر الماضية على التقدم بمشروع المصالحة الذي أطلقه مندريس منذ ستين عاماً بين الدولة العلمانية وشعبها، وتعرض لعثرات متتالية بعد ذلك، خطوات واسعة إلى الأمام. أما المسألة الكردية، التي تطورت إلى حرب مؤلمة وباهظة التكاليف منذ ثمانينات القرن الماضي، فقد عولجت باتفاق طويل المدى لوقف إطلاق النار بين حزب العمال الكردستاني وقوات الأمن والجيش، استبطن خروج عناصر الحزب المسلحة من البلاد وتطبيق الحكومة سلسلة من الإجراءات السياسية والقانونية والدستورية، التي تستجيب لمطالب المساواة والحقوق الثقافية للأكراد، تؤسس لمصالحة وطنية، وتتعهد برنامج تنمية واسع النطاق لمناطق الأغلبية الكردية المهمشة.
بيد أن هذا البرنامج الإصلاحي الكبير يظل عرضة للانتكاس ما لم يوضع دستور جديد كلية، يأخذ في الاعتبار متطلبات الحقبة التي تعيشها تركيا، جملة الإحباطات التي تعرضت لها الجمهورية في التسعين عاماً التي مرت على تأسيسها، وضرورة إعادة النظر في الأسس الراديكالية للعلمانية والقومية ونموذج الدولة التحكمية، التي قامت عليها الجمهورية. ولأن دستوراً جديداً يخلو من التطرق لجملة هذه المسائل ما كان ضرورياً، وأن العدالة والتنمية اختار من البداية النهج التوافقي لعملية كتابة مسودة الدستور الجديد، فقد أحاطت الشكوك باللجنة الدستورية منذ تشكيلها.
الأحزاب الأربعة الممثلة في البرلمان التركي، تمثلت بصورة متساوية في اللجنة الوفاقية، بما في ذلك، حزب العدالة والتنمية الحاكم (AKP)، حزب الشعب الجمهوري (CHP)، الحزب القومي (MHP)، وحزب السلم والديمقراطية (BDP)، الكردي، الذي يعتبر الذراع السياسية الشرعية لحزب العمال الكردستاني المحظور. ولم تمثل الأحزاب الأربعة بصورة متساوية في اللجنة وحسب، بل واتفق على أن تؤخذ القرارات في المواد المختلف عليها بصورة إجماعية، وأن مادة لن تدرج في مسودة الدستور الجديد إلا بعد التوافق بين أعضاء اللجنة الستة عشر. بمعنى أن حزب الأغلبية الحاكم، الممثل في البرلمان بأكثر من 320 نائباً، منح قوة التأثير ذاتها في اللجنة، التي منحت لحزب السلم والديمقراطية الممثل بثلاثين مقعداً برلمانياً.
كان بإمكان العدالة والتنمية، بالطبع، أن يشكل لجنة تعكس الأوزان الانتخابية والبرلمانية للأحزاب، أو حتى أن يسمي لجنة من المختصين الدستوريين لوضع مسودة، يجري التصويت عليها بعد ذلك في البرلمان، ولكنه اختار نهج اللجنة التوافقية لسببين: الأول، وضع الدستور الجديد على قاعدة من الإجماع الوطني، وما يعنيه ذلك من دلالات على مستوى الشرعية.
أما السبب الثاني، فيتعلق بالحسابات السياسية الإجرائية البراغماتية، بحيث يتم إقرار الدستور بالأغلبية التي يشترطها القانون برلمانياً وتتجنب البلاد الذهاب إلى استفتاء شعبي على دستور يحيط به الجدل والانقسام السياسي. ولكن التشكيل الطموح والمثالي للجنة، الذي استهدف تحقيق هدف بالغ المثالية، أصبح أحد أبرز الأسباب خلف البطء الفادح في عملية كتابة الدستور، ومن ثم وصول اللجنة إلى نهايتها المؤسفة. خلال عامين كاملين من العمل، لم تستطع اللجنة التوافق سوى على 60 مادة من مواد الدستور الـ 172، المفترض أن تتضمنها مسودة الدستور.
إضافة إلى ذلك، تباينت أهداف وخلفيات الأحزاب الأربعة بصور واسعة، وجعلت من عملية التوافق على المسودة عملية شاقة ومحفوفة بالخلافات. حزب السلم والديمقراطية الكردي أراد دستوراً ينتقل فيه التوكيد من الهوية التركية، وأعبائها القومية، إلى التعددية الإثنية والحقوق الثقافية للمجموعات السكانية المختلفة ضمن الشعب التركي، وأن يعزز استقلالية الإدارات المحلية ويقلص دور الدولة المركزية. في المقابل، أراد الحزب القومي، المسكون بهاجس المؤامرة على وحدة تركيا والمتخوف من خطوات المصالحة الحثيثة في المسألة الكردية، الحفاظ على مواد الهوية التركية كما هي، والابتعاد عن كل ما قد يضعف سلطة الدولة المركزية. أما حزب الشعب الجمهوري، الذي يرى نفسه وريث الكمالية والذي حكم تركيا منفرداً منذ تأسيس الجمهورية وحتى 1950، فيلتقي مع القوميين في المخاوف من تراجع مقومات الهوية التركية، ولكنه أكثر اهتماماً بالمواد المتعلقة بعلمانية الدولة ودورها في فرض القيم العلمانية على المجتمع، وإن بقوة القانون والسلطة. وفي الوقت الذي لعب ممثلو العدالة والتنمية دوراً توفيقياً بين توجهات الأحزاب الثلاثة الأخرى في اللجنة، وعملوا على أن تخرج مسودة الدستور الجديد متسقة مع مشروع الإصلاح الشامل الذي تقوده حكومة الحزب منذ عشر سنوات، فقد سعوا إلى أن يتضمن الدستور إعادة نظر في بنية الدولة التركية، ونقلها من النظام البرلماني إلى نظام رئاسي أو برلماني رئاسي مختلط. يجادل العدالة والتنمية بأن الصعود الاقتصادي المطرد لتركيا واتساع دورها ونفوذها، إقليمياً ودولياً، يتطلب مؤسسة رئاسة أكثر فعالية وتأثيراً في تقرير توجهات البلاد وسياساتها؛ بينما يرى الحزبان المعارضان الرئيسيان، الشعب الجمهوري والقومي، أن التصور الذي يتبناه العدالة والتنمية لبنية الدولة لا يستهدف سوى التمهيد لتولي إردوغان رئاسة تنفيذية للجمهورية في العام المقبل، بصلاحيات واسعة، والاستمرار في حكم البلاد لثمانية أعوام أخرى، من القصر الرئاسي هذه المرة.
لا طريقة العمل ولا حجم الخلافات بين الأحزاب الأربعة ساعد في النهاية على إنجاز مسودة الدستور. باستطاعة العدالة والتنمية تقديم مسودته الخاصة للدستور إلى البرلمان، بعد تأمين موافقة حزب السلم والديمقراطية، على أساس أن أصوات كليهما وإن لم تكن كافية لإقرار المسودة في البرلمان فهي كافية لإقراره للاستفتاء الشعبي. ولكن هناك من يشكك في مثل هذا الاحتمال، لأن إردوغان قد لا يريد أن يذهب إلى الشعب بمسودة دستور توافق عليها حزبه مع حزب كردي صغير، وليس مع أي من أحزاب المعارضة الأخرى. المهم، في النهاية، أن تجربة العامين الماضيين لوضع أول دستور تركي، مدني، في مناخ من السلم والحرية، تكشف إلى أي حد باتت مسألة الدستور شائكة وبالغة التعقيد في دول المشرق.
واجهت البلاد الميراث الانقلابي ليس بتغيير القوانين التي تنظم عمل ومسؤوليات القوات المسلحة وحسب، بل وبإحكام سيطرة القيادات المدنية على المؤسسة العسكرية، وتغيير بنية مجلس الدفاع الأعلى، ثم بسلسلة من المحاكمات، التي بدأت منذ 2008، ولم تنته حتى الآن، وطالت كل التنظيمات السرية، وعشرات الضباط الذين شاركوا في انقلابات سابقة أو خططوا لانقلابات لاحقة.
من جهة أخرى، ساعد عدد من التعديلات الدستورية والتشريعات البرلمانية على وضع نهاية لسياسات التمييز والحرب التي تبنتها الدولة منذ عشرينات القرن الماضي ضد الملتزمين إسلامياً أو الإسلام وقيمه. بذلك، عملت حكومة العدالة والتنمية طوال السنوات العشر الماضية على التقدم بمشروع المصالحة الذي أطلقه مندريس منذ ستين عاماً بين الدولة العلمانية وشعبها، وتعرض لعثرات متتالية بعد ذلك، خطوات واسعة إلى الأمام. أما المسألة الكردية، التي تطورت إلى حرب مؤلمة وباهظة التكاليف منذ ثمانينات القرن الماضي، فقد عولجت باتفاق طويل المدى لوقف إطلاق النار بين حزب العمال الكردستاني وقوات الأمن والجيش، استبطن خروج عناصر الحزب المسلحة من البلاد وتطبيق الحكومة سلسلة من الإجراءات السياسية والقانونية والدستورية، التي تستجيب لمطالب المساواة والحقوق الثقافية للأكراد، تؤسس لمصالحة وطنية، وتتعهد برنامج تنمية واسع النطاق لمناطق الأغلبية الكردية المهمشة.
بيد أن هذا البرنامج الإصلاحي الكبير يظل عرضة للانتكاس ما لم يوضع دستور جديد كلية، يأخذ في الاعتبار متطلبات الحقبة التي تعيشها تركيا، جملة الإحباطات التي تعرضت لها الجمهورية في التسعين عاماً التي مرت على تأسيسها، وضرورة إعادة النظر في الأسس الراديكالية للعلمانية والقومية ونموذج الدولة التحكمية، التي قامت عليها الجمهورية. ولأن دستوراً جديداً يخلو من التطرق لجملة هذه المسائل ما كان ضرورياً، وأن العدالة والتنمية اختار من البداية النهج التوافقي لعملية كتابة مسودة الدستور الجديد، فقد أحاطت الشكوك باللجنة الدستورية منذ تشكيلها.
الأحزاب الأربعة الممثلة في البرلمان التركي، تمثلت بصورة متساوية في اللجنة الوفاقية، بما في ذلك، حزب العدالة والتنمية الحاكم (AKP)، حزب الشعب الجمهوري (CHP)، الحزب القومي (MHP)، وحزب السلم والديمقراطية (BDP)، الكردي، الذي يعتبر الذراع السياسية الشرعية لحزب العمال الكردستاني المحظور. ولم تمثل الأحزاب الأربعة بصورة متساوية في اللجنة وحسب، بل واتفق على أن تؤخذ القرارات في المواد المختلف عليها بصورة إجماعية، وأن مادة لن تدرج في مسودة الدستور الجديد إلا بعد التوافق بين أعضاء اللجنة الستة عشر. بمعنى أن حزب الأغلبية الحاكم، الممثل في البرلمان بأكثر من 320 نائباً، منح قوة التأثير ذاتها في اللجنة، التي منحت لحزب السلم والديمقراطية الممثل بثلاثين مقعداً برلمانياً.
كان بإمكان العدالة والتنمية، بالطبع، أن يشكل لجنة تعكس الأوزان الانتخابية والبرلمانية للأحزاب، أو حتى أن يسمي لجنة من المختصين الدستوريين لوضع مسودة، يجري التصويت عليها بعد ذلك في البرلمان، ولكنه اختار نهج اللجنة التوافقية لسببين: الأول، وضع الدستور الجديد على قاعدة من الإجماع الوطني، وما يعنيه ذلك من دلالات على مستوى الشرعية.
أما السبب الثاني، فيتعلق بالحسابات السياسية الإجرائية البراغماتية، بحيث يتم إقرار الدستور بالأغلبية التي يشترطها القانون برلمانياً وتتجنب البلاد الذهاب إلى استفتاء شعبي على دستور يحيط به الجدل والانقسام السياسي. ولكن التشكيل الطموح والمثالي للجنة، الذي استهدف تحقيق هدف بالغ المثالية، أصبح أحد أبرز الأسباب خلف البطء الفادح في عملية كتابة الدستور، ومن ثم وصول اللجنة إلى نهايتها المؤسفة. خلال عامين كاملين من العمل، لم تستطع اللجنة التوافق سوى على 60 مادة من مواد الدستور الـ 172، المفترض أن تتضمنها مسودة الدستور.
إضافة إلى ذلك، تباينت أهداف وخلفيات الأحزاب الأربعة بصور واسعة، وجعلت من عملية التوافق على المسودة عملية شاقة ومحفوفة بالخلافات. حزب السلم والديمقراطية الكردي أراد دستوراً ينتقل فيه التوكيد من الهوية التركية، وأعبائها القومية، إلى التعددية الإثنية والحقوق الثقافية للمجموعات السكانية المختلفة ضمن الشعب التركي، وأن يعزز استقلالية الإدارات المحلية ويقلص دور الدولة المركزية. في المقابل، أراد الحزب القومي، المسكون بهاجس المؤامرة على وحدة تركيا والمتخوف من خطوات المصالحة الحثيثة في المسألة الكردية، الحفاظ على مواد الهوية التركية كما هي، والابتعاد عن كل ما قد يضعف سلطة الدولة المركزية. أما حزب الشعب الجمهوري، الذي يرى نفسه وريث الكمالية والذي حكم تركيا منفرداً منذ تأسيس الجمهورية وحتى 1950، فيلتقي مع القوميين في المخاوف من تراجع مقومات الهوية التركية، ولكنه أكثر اهتماماً بالمواد المتعلقة بعلمانية الدولة ودورها في فرض القيم العلمانية على المجتمع، وإن بقوة القانون والسلطة. وفي الوقت الذي لعب ممثلو العدالة والتنمية دوراً توفيقياً بين توجهات الأحزاب الثلاثة الأخرى في اللجنة، وعملوا على أن تخرج مسودة الدستور الجديد متسقة مع مشروع الإصلاح الشامل الذي تقوده حكومة الحزب منذ عشر سنوات، فقد سعوا إلى أن يتضمن الدستور إعادة نظر في بنية الدولة التركية، ونقلها من النظام البرلماني إلى نظام رئاسي أو برلماني رئاسي مختلط. يجادل العدالة والتنمية بأن الصعود الاقتصادي المطرد لتركيا واتساع دورها ونفوذها، إقليمياً ودولياً، يتطلب مؤسسة رئاسة أكثر فعالية وتأثيراً في تقرير توجهات البلاد وسياساتها؛ بينما يرى الحزبان المعارضان الرئيسيان، الشعب الجمهوري والقومي، أن التصور الذي يتبناه العدالة والتنمية لبنية الدولة لا يستهدف سوى التمهيد لتولي إردوغان رئاسة تنفيذية للجمهورية في العام المقبل، بصلاحيات واسعة، والاستمرار في حكم البلاد لثمانية أعوام أخرى، من القصر الرئاسي هذه المرة.
لا طريقة العمل ولا حجم الخلافات بين الأحزاب الأربعة ساعد في النهاية على إنجاز مسودة الدستور. باستطاعة العدالة والتنمية تقديم مسودته الخاصة للدستور إلى البرلمان، بعد تأمين موافقة حزب السلم والديمقراطية، على أساس أن أصوات كليهما وإن لم تكن كافية لإقرار المسودة في البرلمان فهي كافية لإقراره للاستفتاء الشعبي. ولكن هناك من يشكك في مثل هذا الاحتمال، لأن إردوغان قد لا يريد أن يذهب إلى الشعب بمسودة دستور توافق عليها حزبه مع حزب كردي صغير، وليس مع أي من أحزاب المعارضة الأخرى. المهم، في النهاية، أن تجربة العامين الماضيين لوضع أول دستور تركي، مدني، في مناخ من السلم والحرية، تكشف إلى أي حد باتت مسألة الدستور شائكة وبالغة التعقيد في دول المشرق.
ملاحظة:
نشر
المقال هنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق