بشير موسى نافع
كلما أثيرت تساؤلات حول الدور العربي في الأزمة السورية، أثيرت تساؤلات مضادة حول ما يمكن أن يقوم به العرب إزاء وضع بات من التعقيد بحيث يعجز النظام الدولي كله عن إيجاد مخرج له. هذه تساؤلات مشروعة بلا شك، ولكن المشكلة هي أصلاً في المنطق الذي تستند إليه، وكأن هناك خياراً بين الفعل وعدم الفعل. ثمة حقائق رئيسية ثلاث لابد من أخذها في الاعتبار، قبل أن توضع الأسئلة الصحيحة حول ما العمل.
الأولى، إن الحدث السوري لم يكن في أصله أزمة إقليمية ولا دولية. خرج السوريون في مواجهة النظام الحاكم للمطالبة بالتغيير والحقوق في سياق عربي من الثورة والتعبير عن إرادة الشعب.
نظام الحكم السوري، الذي واجه الحركة الشعبية السورية منذ أسابيعها الأولى بقوة السلاح، هو الذي أدى إلى تفاقم حدث الثورة، الوطنية في أصلها وجوهرها وتوجهاتها، إلى أزمة إقليمية أولاً، ومن ثم إلى أزمة دولية.
طوال الشهور الأولى من الحراك الشعبي السلمي، وأرقام ضحايا القمع الأمني والعسكري تتزايد يومياً، لم يرفع السوريون، في تظاهراتهم ولا على لسان ممثليهم، أية شعارات تتعلق بالسياسة الخارجية.
لا هددوا روسيا، ولا هاجموا أهدافاً إيرانية، ولا أعلنوا انحيازاً لمحور إقليمي أو دولي ما. الحقيقة، أن تركيا التي ينظر إليها اليوم باعتبارها قائدة المعسكر الإقليمي المناهض للنظام وحلفائه في إيران، في استبطان طائفي للصراع، كانت لم تزل حليفاً استراتيجياً للحكم في دمشق، قبل الثورة ولأكثر من خمسة شهور بعد اندلاعها، كما إن التدخلات التركية في مجرى الثورة، حتى آب (أغسطس) 2011، استهدفت التشجيع على إطلاق مشروع إصلاحي سوري شامل وعميق، بقيادة بشار الأسد.
وإن كان في حديث فاروق الشرع الصحافي (16 كانون الأول/ ديسمبر) ما يثير الاهتمام، فربما كان قوله ان النظام استمر شهوراً وهو يتوسل صورة لسوري مسلح في المظاهرات الشعبية. بنى قادة النظام استراتيجيتهم البلهاء على تسويغ سياسة القمع والبطش الدموية، التي اعتمدها منذ الأيام الاولى للثورة، بتصوير الحركة الشعبية وكأنها حركة مسلحين سلفيين وعناصر إسلامية إرهابية. لم يأخذ أحد في سورية والعالم ادعاءات النظام مأخذ الجد، إلا قادة النظام أنفسهم، ومنذ صيف 2011، تصاعدت آلة القمع الوحشي، من المواجهات الدموية للمظاهرات الشعبية، إلى الاقتحامات المدمرة للمدن والبلدات. وهنا، هنا فقط، توجهت أعداد قليلة من السوريين، وبقدر كبير من التلقائية، إلى حمل السلاح للدفاع عن أسرهم وأعراضهم وممتلكاتهم. التوجه المتزايد للتسلح، وتيقن الأطراف العربية والدولية أن النظام عاجز عن إصلاح نفسه وعن مقابلة شعبه في منتصف الطريق، نقل الثورة السورية من الحدث الوطني إلى الأزمة الإقليمية والدولية. ليس فقط لأن دولاً عربية، وبعض الدول الغربية، أبدت تأييدها لمطالب الشعب، ولكن أيضاً، وأصلاً، لأن دولاً مثل إيران وروسيا اختارت دعم جهود النظام لقمع الثورة، مدت له يد العون العسكري والتقني والاقتصادي، وقفت في وجه جهود المنظمات الدولية لإدانته وإنذاره، وكرست آلتها الدعائية للدفاع عنه وتشوية صورة حركة الشعب.
ما يقوم به النظام، وما قام به منذ اندلاع الثورة، لا علاقة له بالدفاع عن سيادة سورية الوطنية والتدخلات الخارجية، وإن كانت الثورة السورية قد اكتسبت بعداً إقليمياً ودولياً، يهدد الأمن الدولي والإقليمي، كما ينذر الأخضر الإبراهيمي، فلأن النظام هو الذي دفع حدث الثورة، الوطني البحت في أصله، إلى الساحة الإقليمية والدولية.
الحقيقة الثانية، أن هذا البلد العربي، متوسط المساحة والسكان، أصبح منذ ولادته قبل تسعين عاماً، بلداً محورياً في نظام ما بعد الحرب الأولى المشرقي. تلتقي عند سورية عدة دوائر جيو ـ استراتيجية، تطال أمن الفضاء الواسع من مصر إلى الخليج، ومن القوقاز إلى الجزيرة العربية، أضاف إليها وجود الدولة العبرية في فلسطين بعداً آنياً من التدافع الحاد والارتباط بالتوازنات الدولية.
وتستبطن سورية مواريث تاريخية حية في ضمير شعبها والشعوب العربية - الإسلامية المحيطة بها، تمتد من احتضانها لمركز إمبراطوري إسلامي مبكر، إلى الفكرة العربية في العصر الحديث، إلى كونها قطباً رئيساً في مقاومة العرب للمشروع الصهيوني.
وتطل سورية على التعددية الإثنية والطائفية، التي اعتبرت دوماً سمة أصيلة لشعوب المشرق واجتماعهم السياسي. لسورية دوران لا ثالث لهما: اما أن تكون قوة فاعلة في محيطها، أو ساحة لصراع وتدافع القوى الأخرى. هذه دولة لا يمكن تحييدها، أو أن تقف موقف المتفرج على العالم من حولها. وإن كان لابد من شيء يذكر لنظام حكم (البعث) المديد، أنه نقل سورية من ساحة للصراع إلى قوة للتأثير، على الرغم من الفجاجة الصارخة والميراث الدموي لسياساته في فلسطين ولبنان، في بعض الأحيان، وتحالفاته التي لم تعبر عن إرادة السوريين، في أحيان أخرى.
والواضح، أن سياسات النظام الفاشي تجاه شعبه وثورة الشعب خلال العامين الماضيين أوقعت أذى كبيراً ومتزايداً بمقدرات سورية، وقدرتها على المحافظة على دورها وموقعها. انفرط عقد الجيش العربي السوري بعد أن دفع به النظام لتنفيذ أبشع مهام يمكن أن توكل لجيش في العالم، وأكثرها عاراً. دمرت مدن وبلدات سورية بأكملها، وانهارت بنية الاقتصاد السوري. وعلى الرغم من الوعي الوطني الفائق للشعب وثورته، الذي نجح حتى الآن في محاصرة الكثير من مخططات الانفجار الطائفي التي اعتمدها النظام وأجهزته، فإن ميراث النظام الطائفي وطوفان العنف الوحشي الذي أطلقته قوات النظام وعناصر شبيحته وقادته الأمنيين، ترك أثراً لا يمكن تجاهله على بنية سورية الوطنية ووحدة شعبها. سورية هي الدولة العربية الثانية التي توشك الخروج من المنظومة الاستراتيجية العربية، بعد أن أخرج العراق وتحول إلى دولة منقسمة على نفسها وإلى ساحة نفوذ وصراع إقليميين، ولكن سورية ليست العراق، ولن يكون من الصعب إعادة بناء مقدراتها في فترة قصيرة نسبياً، وحمايتها من العودة إلى الخمسينات، عندما كانت مجالاً مفتوحاً لصراعات القوى الإقليمية ورياح الحرب الباردة.
الحقيقة الثالثة، وبالغة الأهمية، أن حركة الثورة والإصلاح في العالم العربي، لن تستطيع تحقيق أهدافها وإحداث تغيير ملموس في حياة العرب ومصيرهم، بدون أن تكفل قيام دولة الحرية والعدل والكرامة الإنسانية، وتعيد للشعب مقاليد أمره، على الصعيد الداخلي، وأن تستعيد، على الصعيد الخارجي، التوازن المفقود بين دول المجال العربي والكتلة الأطلسية.
لم تنحصر مشكلة المجال العربي طوال العقود التسعة الماضية في تولي أقليات سياسية وإيديولوجية واجتماعية الحكم، ولا في الاستبداد واحتكار الأقليات الحاكمة لمصادر القوة والثروة، ولا في موجات الصراع المفتعلة وغير المسوغة بأي منطق سياسي بين الدول العربية، وحسب. كانت مشكلة المجال العربي، ولم تزل، في تدخلات القوى العالمية العميقة والمديدة في شؤون دوله وشعوبه، في تعزيز أوضاع الأقليات الحاكمة أو تهديدها، وفي تأجيج صراعات دول الإقليم البينية أو إخمادها، وفي المحافظة على ميزان قوى مائل لصالح الدولة العبرية.
سورية اليوم هي امتحان وفرصة في الآن نفسه، امتحان لقدرة دول وشعوب المنطقة على التعامل مع قضاياها وأزماتها وإشكالها من منظار مصالحها هي وليس مصالح الخارج، إرادتها هي وليس إرادة قوى الخارج، وفرصة لوضع حد لأكثر من قرن من التدخلات الخارجية في شؤون المشرق وشعوبه، أو على الأقل تقليص هذه التدخلات.
ثمة ثلاثة خيارات رئيسة مطروحة أمام الدول العربية، ودول الجوار الرئيسة، لاسيما إيران وتركيا، في النظر إلى الحدث السوري. الأول، العمل على بقاء النظام ومساعدته لتحقيق الانتصار النهائي على شعبه.
الثاني، الامتناع عن التدخل بصورة نشيطة، وانتظار أن يأخذ الصراع بين النظام وشعبه مداه، بانتصار أحد الطرفين على الآخر. والثالث، العمل الفعال لدعم الثورة الشعبية وتحقيق مطالبها في إنجاز تغيير سياسي عميق وكلي، في أقصر فترة ممكنة.
بعد هذه القيامة السورية الكبرى، وبعد قرابة العامين من الضحايا والدمار، لم يعد الخيار الأول مقبولاً، لا أخلاقياً ولا سياسياً. لا الشعوب العربية، التي تعيش مناخاً من الثورة المستمرة، والمفترض أن تعبر حكوماتها الجديدة، في دول مثل مصر واليمن وتونس والمغرب وليبيا، على الأقل، عن إرادتها، ستؤيد هكذا خيار، ولا عاد من الممكن إقناع أغلبية الشعب السوري به. والأهم، أن ميزان القوى بين النظام والشعب تجاوز منذ زمن قدرة النظام على حسم الموقف لصالحه.
أما خيار الانتظار، فإلى جانب المخاطر التي يحملها على الأمنين العربي والإقليمي، فإنه يصب مباشرة في اتجاه تدمير ما تبقى من سورية ومقدراتها، ودفعها إلى مصير تحدده مساعدات القوى العالمية، وإخراجها لعقود طويلة قادمة من ميزان القوى العربي.
الخيار الثالث هو الممكن الوحيد في هذه الأزمة، أخلاقياً وسياسياً. الممكن أخلاقياً، لأنه يضع مسؤولية ما شهدته سورية في العامين الآخرين على كاهل من تخلى عن مسؤوليته الأولى كحاكم، وأوقع في شعبه كل هذا الموت والدمار، ولأنه لن يسمح بمكافأة المجرمين والقتلة أو يعمل على إيجاد مخرج لهم، ولأنه يرد إلى الشعب السوري الباسل بعض ما تحمله من أعباء القضية العربية منذ عقود طويلة.
والممكن سياسياً لأن من المنطقي والطبيعي أن لا يكون مصير نظام أو فرد، مهما كان هذا النظام أو الفرد، أهم من مصير الشعب والوطن، ولأن هذا أقل ما يمكن أن يستجيب لمطالب شعب، قدم كل هذه التضحيات في معركة الحرية والكرامة.
بإمكان العرب، فعلياً، لا نظرياً، أن يضعوا حداً للتدخل الروسي والإيراني في الشأن السوري، أو أن يجعلوا ثمن التدخل باهظاً لكليهما. وبإمكانهم، قبل ذلك وبعده، أن يقدموا للسوريين ما يكفل الإسراع بوضع نهاية لهذه الأزمة.
وبإمكانهم أن يتخذوا من الخطوات، السياسية والعسكرية والاقتصادية، ما يكفل وحدة سورية وانتقالها العاجل إلى مرحلة من الأمن والاستقرار، بمجرد انهيار النظام.
ملاحظة:
نشر المقال هنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق