علي الكاش
(لتكن إنتفاضة الأنبار فوق أي إعتبار)
العرض الأول: وثائق النكبة
الوثائق هي ذاكرة الأمة ووعاء تراثها وعنوان حضارتها وخزينها الفكري. تكتسب أهميتها من كونها مصدرا رئيسا للمعلومات التأريخية والقانونية والسياسية، ولها قابلية الحجة والبرهان واثبات الوقائع الإجتماعية المهمة بطريقة لاتقبل الشك والتحريف. وقد تتخذ شكل كتاب رسمي، صحيفة، مجلة، مخطوطة، قرص ليزري، فيلم، طابع عملة نقدية، رسالة وغيرها.
اهتمت الأمم إهتماما كبيرا بوثائقها من خلال التنظيم والأرشفة والتصنيف وعملية الخزن والتصوير وإبتكارالطرق العلمية الحديثة للمحافظة عليها من التلف والعبث والسرقة. سيما إن الأنظمة قديما وحديثا تبقى أعينها مفتوحة وشاخصة على وثائق اعدائها السرية وتحاول الوصول اليها بشتى الطرق بما فيها غير القانونية كالتجسس وشراء الذمم وتجنيد العاملين بهذا الحقل المعلوماتي.
كان إهتمام الدول الإستعمارية في حقبتي الإستعمار القديم والحديث بالوثائق الرسمية والتأريخية للشعوب الخاضعة لسلطانها يشغل حيزا كبيرا من إهتمامها. مقابل ذلك التربص المعادي تحاول الدول المستهدفة المحافظة على أرشيفها الوطني، سيما عندما تتعرض إلى تهديد خارجي، فتتخذ تدابير اليقظة والحذر لحماية وثائقها القديمة والحديثة على حد سواء، سيما المتعلقة بالجوانب الأمنية والعسكرية، وسنأخذ العراق قبل وبعد الإحتلال كنموذج حيوي على نكبة الكوارت التي حلت به.
اهتم العرب والمسلمون الأوائل بالتوثيق اهتماما كبيرا يتجلى ذلك بوضوح من خلال ما وصل الينا من نشاطات فكرية في كل مجالات المعرفة. وكان الخليفة الراشد عمر الفاروق، رضي الله عنه، رائد عملية التوثيق في فجر الإسلام. فقد أسس (بيت القراطيس) وانشأ دواوين (الجند، الخراج، البريد والرسائل) وكان يولي إدارتها لكبار القضاة والفقهاء والعلماء نظير أهميتها. وقد إستمر الخلفاء من بعده على نفس المنوال.
وفي الوقت الحالي رغم التقنيات العلمية في مجال الأرشفة، نجد إن الأنظمة العربية لم تأخذ مأخذ الجد أهمية المحافظة على ارشيفها التأريخي والسياسي، لربما يكون إهتمامها بالأرشيف السياسي أكثر منه التأريخي بحكم تأثيره الفاعل على سياستها الداخلية والخارجية الآنيه. بالرغم من التطور الذي حصل في مجال التوثيق وتوفر إمكانية الحصول على التقنيات. كما إن الوعي الشعبي العربي بأهمية الوثائق مع الأسف الشديد محدود للغاية، وينحصر على النخب الإجتماعية كالمثقفين والمفكرين والباحثين وطلاب الدراسات العليا. فأمة إقرأ في الحقيقة لا تقرأ. وفي الفتح الديمقراطي لدينا ما يزيد عن (5) مليون أمي لا يعرفون القراءة والكتابة، أي خمس الشعب العراقي! وقوادم السنين ستشهد ازدهار الجهل والتخلف في البلد الذي إخترع أجداده العظام الكتابة وثبتوا بها أركان الحضارة الإنسانية. وموضوع التخلف في البلد ناجم عن قوتين مؤثرتين هما اعداء العراق بما فيهم الحكومة الحالية، وتجار الدين، بإعتبارهم المنتفعين من هذا الجهل اللعين.
تعرف الوثيقة بأنها معلومة موثقة كتابيا او سمعيا أو بصريا صادرة من جهة رسمية أو شخصية لها مكانتها واهميتها في المجتمع، تسلط الضوء على أحدى صور النشاط الفكري والإنساني بشطريه الإيجابي والسلبي خلال زمان ومكان محددين. والوثائق كالبشر لها تصنيف عمري يبدأ بمرحلة الطفولة (الجاري) أو المتداول ولا يتجاوز 3-5 عام، ويليه الشباب (العمر الوسيط) وهو بحدود (25) سنة والكهولة (50) سنة، وأخيرا (الخاتمة) حيث يقرر مصيرالوثيق سواء في الحفظ أو الإتلاف (عند إنتفاء الحاجة لها وانعدام أهميتها).
إن عملية تصنيف الوثائق الرسمية والذي يطلق عليه تسميات مختلفة كالأرشيف والسجلات والمحفوظات والكشافات والملفات غيرها، يخضع من حيث درجات السرية والكتمان الى عدة آليات واعتبارات تتعلق بطبيعة الوثيقة وأهميتها ومضمونها. فهناك وثائق شخصية، ودستورية، ومعاهدات واتفاقيات (ذات طبيعة ثنائية أو متعددة الأطراف) ووثائق سرية، ووثائق دولية تتعلق بالمنظمات والتكتلات والتحالفات الدولية والإقليمية. كما تحدد القوانين الداخلية عملية التصنيف من حيث درجة سرية وكتمان الوثائق، ومكان وزمان الحفظ، وطرق الحفظ، والمسؤولين عنها، وتحديد الأشخاص الذين يحق لهم الإطلاع عليها.
عادة هناك وثائق عادية لا قيمة لها تنتهي بنفاذ تداولها وهذه خارج موضوعنا. وهناك وثائق بدرجة (محدود التداول) وتحمل معلومات ذات أهمية محدودة تنتهي بسرعة، ويتم التعامل بها من قبل عدد من المسؤولين ممن لهم علاقة بالوثيقة، ولا يترتب علي خروجها من نطاق المحدودية أضرارا كبيرة على مصلحة الدولة.
وتوجد وثائق بدرجة (سري) وتتضمن معلومات مهمة، وإفشاء هذه المعلومات قد يعرض مصالح الدولة الى إضرار نسبية، لذلك يقتصر تداولها على الدرجات الوظيفية العليا.
وتوجد وثائق بدرجة (سري للغاية) وهي وثائق غالبا ما تكون صادرة من الرئاسات العليا والوزارات السيادية والأجهزة الأمنية، يطلع عليها رؤساء القطاعات ممن لهم علاقة مباشرة بموضوع الوثيقة. وأخيرا هناك درجة (سري للغاية وشخصي) وأحيانا يُضاف إليها (يفتح بالذات) وهي الوثائق التي ينحصر التعامل معها بحلقة صغيرة جدا أو لجنة خاصة، واحيانا مسؤول واحد. ويمنع تداولها منعا باتا خارج نطاق ما ذُكر لأنها تعرض مصالح الدولة العليا الى ضرر كبير. لذلك غالبا ما تحدد مواصفات دقيقة لمن يتعامل بها أو يتداولها. ومن أمثلة هذه الوثائق تلك التي تتعامل معها دوائر الشفرة (الكود السري) حيث يقتصر إستخدامها على أجهزة الدولة الحساسة فقط كالرئاسة ومجلس الوزراء ووزارة الخارجية وأمن الدولة.
الوثائق السرية للغاية تكون محظ أنظار أجهزة المخابرات المعادية، ولاسيما في مجال الصناعات الحربية والمواقع العسكرية والاستراتيجية والخطط الأمنية للدولة. لذا تحرص الدول على فرض نظام حماية متطور على هذا النوع من الوثائق. ورغم ذلك الحرص فإن بعضها يتسرب عبر الأشخاص او الطرق التقنية الى الجهات المعادية، فتؤدي الى ما لا يحمد عقباه. وقد لاحظنا بعض المراسلات السرية التي كشف عنها موقع ويكيليكس مؤخرا وقد اثارت ضجة كبيرة في العالم.
على سبيل المثال، كشفت إحدى الوثائق بأن البنتاغون كان على علم مسبق بكل أنواع التعذيب الذي يحصل في السجون العراقية. بل ان معظم فرق الموت الرسمية كانت من بنات افكار الولايات المتحدة الامريكية نفسها، فقد أرسلت خبراء في مجال ما يسمى بالحروب القذرة لتشكيل عدد من فرق الموت الشيعية بغية خلق الفتنة الطائفية. وهذا الأمر يلقي الضوء على أسباب عدم تدخل قوات الغزو في الحرب الأهلية عام 2006 حيث كان موقفها آنذاك مثير للإستغراب! لأنها كدولة محتلة فإن الأمن الداخلي يقع من ضمن مسؤولياتها، كما مثبت في القانون الدولي، وليس التفرج على المجازر الأهلية التي طالت أرواح الآلاف من الموطنين الأبرياء بجريرة الإسم والهوية المذهبية!
تلك الجرائم البشعة التي كشف عنها الموقع لها تصنيف محدد في ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي يعرفه أبسط الناس ثقافة. ولو كان في العراق فعلا حكومة وطنية ووزارة عدل غير مسيسة، ووزارة للخارجية حريصة على عامة الشعب وليس على فئة واحدة فقط. ووزارة واقعية وليس خيالية لحقوق الإنسان، لأقاموا الدنيا على رؤوس إدارة الشر في البيت الأبيض بسبب هذه الجرائم الموثقة، والتي تدخل ضمن ما يسمى بـ(جرائم الحرب والإبادة). ولكن من يجرؤ على أن يقول لولي نعمته وسيده بأنه مجرم وسافل ومنحط؟ والطامة الكبرى في تراجع الوعي الجماهيري. تصوروا البريطانيون يحاكمون بليير على جرائمه ضد العراقيين! والعراقيون ساكتون كأن الأمر لا يعنيهم البتة! ذلك هو الجهل وقلة الوعي الذي يتفاقم يوم بعد يوم في العراق وفقا لأجندات خارجية محسوبة بدقة وأعطت ثمارها بوفرة وغزارة.
ما تزال الوثائق تتدفق من موقع ويكيليكس بشكل انسيابي وهادئ، وقد أعلن (جوليان آسانج) رئيس الموقع من مقره في بريطانيا - حاليا لاجيء في سفارة الاكوادور في بريطانيا، بعد ان أثار سخط الولايات المتحدة بنشر وثائق حول حربها القذرة في افغانستان والعراق، وقد وصفت إدارة البيت الأبيض عمل آسانج بأنه يمثل أكبر خرق أمني حصل في تأريخ الولايات المتحدة- بأنه سيكشف قريبا عن مليون وسبعمائة ألف برقية سرية (استخبارية ودبلوماسية وأخرى صادرة عن الكونغرس) تتعلق بأحداث جرت في السبعينيات من القرن الماضي.
ربما لا نحن ولا ابناؤنا سيطلعون على الوثائق الامريكية والصهيونية السرية للغاية المتعلقة بالغزو الغاشم. وهذه من مساوئ حظنا وحظ بقية الشعوب من ضحايا الإحتلال والعدوان. حيث لا يطلع على حقيقة وأسباب المأساة من يعيشها وانما ابنائهم واحفادهم الذين يفتقدون حتما قوة جاذبية التفاعل مع تلك الوثائق، فيكون تأثيرها عليهم محدودا للغاية.
وخير مثال على ذلك لو تساءلنا عن عدد العراقيين الذين اطلعوا على الوثائق البريطانية التي فُك أسرِها من أرشيف الحكومة البريطانية بعد قضاء (25-50) سنة على حفظها خلال الحقبة الإستعمارية الأولى؟ بالتأكيد العدد قليل جدا وينحصر على طلاب الدراسات العليا وقلة من المثقفين، ومن لهم إهتمام بتأريخ بلدهم السياسي والتأريخي. حتى الحكومات الوطنية السابقة لم تعرها تلك الأهمية القصوى وتُدخلها في المنهاج الدراسية على مستوى المدارس والمعاهد والجامعات.
الأجيال القادمة ستنال فرصة الإطلاع على حقيقة الدور الإيراني والصهيوني الذي خدم قوى الإستكبار العالمي في غزو العراق خدمة كبيرة، وعلى المعاهدات السرية التي عقدت بين اضلاع مثلث معاداة العراق. صحيح ان بعض الوثائق تسربت ويمكن للمراقب أن يستدل منها على حجم العلاقة المشينة.
مثلا في كتاب (Treacherous Alliance) وترجمته العربية (التحالف الغادر. التعاملات السرية بين إسرائيل وامريكا وإيران) للمؤلف (تريتا بارسي) وهو امريكي من اصول فارسية، يكشف فيه عن العلاقة السرية بين محاور الشيطان (الولايات المتحدة، الكيان الصهيوني والنظام الإيراني) من خلال مئات الوثائق، ولقاءات مهمة مع (130) شخصية سياسية معروفة من دول العدوان وغيرها. الكتاب مهم وخطير جدا فقد كشف العلاقة الستراتيجية بين الإطراف الثلاثة، وبين خرافة العداء الظاهري والتهديدات الجوفاء والفقاعات الإعلامية.
لكن هناك ابالطبع إتفاقيات سرية بالغة الخطورة لم تشرق عليها بعد لا شمس ويكيليكس ولا غيرها من المؤسسات البحثية والستراتيجية. وربما لن تشرق عليها الشمس أبدا. قد تكشف إدارة البيت الأبيض وبريطانيا والكيان الصهيوني عن بعض الوثائق السرية المتعلقة بغزو العراق بعد مرور(25-50) وفقا لقوانينهم المرعية. ولكن لا أظن ان عاقلا يتوقع ان يقوم النظام الإيراني مثلا بكشف وثائقه السرية حول غزو العراق حتى بعد عدة قرون! لأنها تتضمن فضائح ليست سياسية بل مذهبية وهنا تكمن الطامة الكبرى.
سنتحدث في المقال القادم عن نكبة الوثائق في العراق خلال الإحتلال الأمريكي لأهمية هذا الموضوع، وهو فصل مؤلم في تراجيديا العراق الجديد. علما بإننا أول من كتب عن نكبة دار الكتب والوثائق وعن الأرشيف اليهودي في جهاز المخبرات وارساله للكيان الصهيوني قبل أن يعلن عن ذلك رسميا وسنتحدث عن الموضوع ثانية بتفاصيل أخرى، من منطلق معايشتنا لنكبة الكتب والوثائق حينذاك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق