نزار السامرائي
لم يساورنا شك في أي وقت من الأوقات بأن المخططين الإستراتيجيين للولايات المتحدة الذين خططوا للحرب على العراق، كانوا قد وضعوا نصب أعينهم تدمير بنية الدولة فيه بصورة لا تتيح له الفرصة لاستعادة دوره كقوة توازن إستراتيجي إقليمية وكبلد يحمل مشروعا نهضويا طموحا، وذلك بإثارة النعرات الطائفية والعرقية وتفتيت المجتمع من خلال تكريس الانقسام المجتمعي كحالة راسخة متبناة من قبل خنادق متقابلة ومتقاتلة فيما بينها، ولتصبح بعد ذلك آفة إقليمية تنتشر بعدواها إلى دول الإقليم من دون استثناء.
ولكن تعثر المشروع الأمريكي الشرق أوسطي في محطته الأولى وبعد انطلاق حركة المقاومة الوطنية المسلحة على الاحتلال الأمريكي، أرغمت الولايات المتحدة على إعادة النظر بما يسمى بمشروع الشرق الأوسط الكبير، واستبدلته بمشروع أكثر تواضعا وأقل انتشارا وهو مشروع الشرق الأوسط الجديد، وعندما أيقنت واشنطن أن هذا المشروع ليس أوفر حظا من سابقيه، أصبح الحديث عن الفوضى الخلاقة لازمة يلتقي عندها حديث الزعماء الأمريكيين سواء كانوا من الحزب الجمهوري الذي خططت زعامته للغزو، أو من الحزب الديمقراطي الذي شارك في تحضيرات العدوان من خلال الموافقة في الكونغرس بغرفتيه النواب والشيوخ على خطة الغزو.
ولكن حقيقة الفوضى التي أرادتها الولايات المتحدة كانت فوضى مدمرة أصرت الإدارة الأمريكية على تجربتها في العراق أولا من أجل إلغاء دور العراق كجزء من منظومة الأمن القومي العربي، وكعامل توازن إستراتيجي في منطقة الخليج العربي، بوجه المشروع الإيراني التوسعي الذي لم يلق الرد أو الرفض الأمريكي أو الإسرائيلي لأنه دور مكمل لأهداف سايكس بيكو الجديدة ومنسجم تماما مع ما تريده الولايات المتحدة للمنطقة.
ولم تكن الفوضى خلاقة بأي حال من الأحوال، ولكن الإدارة الأمريكية التي خططت لحروب أهلية في المنطقة انطلاقا من العراق، أرادت ترك المنطقة في حال انسحابها منها عسكريا، طعما لصراعات داخلية لا تنتهي أبدا كي تمنع نموها اقتصاديا وتطورها سياسيا أو تفكيرها بذلك، وحرصت على تحولها إلى كيانات طائفية وعرقية صغيرة متصارعة على الحدود والثروات الطبيعية والمياه والإطلالة البحرية، وحروب كهذه لا يمكن أن تنتهي أبدا طالما وجدت تحت أيدي رجالها من السلاح ما يكفي لإدامة القتال، ومن الثروات ما يغطي الحاجة لهذا السلاح، وطالما هناك قوى إقليمية ودولية ترى مصلحتها في استمرار النزاعات التي تضعف جميع دول المنطقة، وتبقى إسرائيل أكبر تجمع سكاني منسجم وموحد دينيا وعرقيا وتحيط بها كيانات مجهرية ضعيفة ومنقسمة على نفسها ومرشحة لاستنساخ أزمات جديدة مع الوقت، طالما كانت هناك قوى لها المصلحة في ضعف الأمة العربية.
هذه الحقائق لم تغب لحظة واحدة عن أذهان العراقيين، ولكن الولايات المتحدة التي تحكمها قوانينها الخاصة في علاقاتها الدولية التي وضعتها لنفسها أو القرارات المقيدة لسلطة الرئيس والتي اتخذها الكونغرس الأمريكي في مراحل مختلفة، إضافة إلى ما تفرضه القوانين الدولية وميثاق الأمم المتحدة على سائر الدول الصغير منها والكبير، كانت تتعامل على الدوام مع ما يجري في دول العالم على أساس سياسة المكيالين والمقاييس المزدوجة، ولهذا كانت تنظر إلى القضايا المتماثلة في دول العالم على أساس اقتراب هذه الدولة أو تلك من السياسة الأمريكية عند نيتها إعطاء موقف بشأن ما يجري فيها.
فماذا فعلت الولايات المتحدة بشأن استخدام قوات المالكي للأسلحة الأمريكية وخاصة عجلات الهمر والبنادق الآلية والرشاشات المتوسطة والثقيلة التي أدت إلى سقوط ضحايا وترويع الآمنين، وهي التي تشير قوانين مبيعات السلاح فيها إلى أن هناك شروطا محددة تفرضها الولايات المتحدة على الدول المستوردة للسلاح الأمريكي، في المقدمة منها عدم استخدام السلاح في نزاعات داخلية يمكن أن تتسبب في حصول عمليات إبادة جماعية أو حرب ضد الإنسانية، أو حروب أهلية ترتكب فيها فظائع؟
إن مسؤولية الولايات المتحدة لم تنته بتاريخ انسحابها العسكري المعلن من العراق، بل هي مسؤولة مسؤولية أخلاقية وقانونية مستمرة أمام القانون الدولي وأمام سلطتها التشريعية والمنظمات الحقوقية والإنسانية الدولية والأمريكية، لأنها صدّرت لنا أسوأ عملية سياسية عرفها العراق والوطن العربي في تاريخهما الحديث، صحيح أن النوايا السياسية للحكومة الأمريكية تريد الذهاب أبعد كثيرا مما ذهبت إليه في زرع بذور الفتنة في العراق والمنطقة، غير عدم وصولها إلى كامل أهدافها لا يمنع من ملاحقتها وذلك عندما نتحاكم معها من خلال القانون الأمريكي نفسه الذي يحظر على الدولة الأمريكية استخدام الأسلحة التي تستوردها من الولايات المتحدة، في عمليات القمع الداخلي، وما حصل حتى الآن من جرائم استخدمت فيها الأعتدة الأمريكية تعد دليلا قاطعا على مشاركة أمريكا في جرائم قوات المالكي ضد العراقيين من أقصى شماله إلى أقصى جنوبه، وخاصة ما حصل في الفلوجة والحويجة بعد انطلاق الحراك الشعبي، وما يمكن أن يقع مستقبلا من جرائم ترتكبها مليشيات الحكومة التي ترتدي الزي الرسمي ضد ساحات الاعتصام في المحافظات المنتفضة على الظلم والقهر والتهميش والإقصاء.
إن الولايات المتحدة التي ارتكبت كل تلك الجرائم في العراق منذ عام 2003 وحتى اليوم، لا يمكن أن تترك العراق مستقرا أو قادرا على مداواة جراحه أبدا، بل على العكس من ذلك فهي تريد الانتقام من المدن التي انطلقت منها المقاومة الوطنية المسلحة وكانت حاضنة لها، على أيدي مليشيات تأسست بدعم إيراني وتحت أنظار القوات الأمريكية والمخابرات المركزية ومع ذلك لم تحرك الولايات المتحدة ساكنا لتطويق نفوذ إيران المتزايد في الساحة العراقية على الرغم من أنها لا تتوقف عن الحديث عن التصادم المعلن بين المشروعين الأمريكي والإيراني، ولهذا أسهمت الولايات المتحدة في إعطاء الطابع الرسمي لتلك المليشيات عندما وافقت على قرار دمجها بالقوات المسلحة بل ساعدت عليه، وهي تعرف جيدا أنها تحمل مشروعا سياسيا لا ينسجم مع المصلحة الوطنية العراقية، وأنها ستتحرك على وفق برنامج طائفي ضيق ذي طابع إقصائي يستثير رد فعل مضاد له، وقد يؤدي إلى حشد الطاقات المضادة من الطرف الآخر لإبقاء البلاد في ظرف قتال داخلي من دون نهاية.
ومع كل ذلك فإن الولايات المتحدة لا يمكن أن تعفى من المسؤولية الجنائية أخلاقيا وقانونيا عما ترتكبه قوات المالكي من جرائم بأسلحة أمريكية في مدن الحراك الشعبي السلمي، وعلى وزارة الخارجية الأمريكية الإجابة على التساؤلات المطروحة على الساحة العراقية، وإلا فإن الوقت سيحين لمقاضاة الجناة، حكومات وأفرادا، من الذين يتحملون ما لحق بالعراق من تدمير بنية الدولة وتعريض منظومة القيم الاجتماعية فيه إلى خطر الانهيار النهائي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق