ضرغام الدباغ
أذكر أني في خريف عام 1974 كنت أحضر جلسة لمثقفين عراقيين وعرب، والسياسة في مجالسنا هي دوماً ملح الطعام، قلت لهم يومها وكأنني أقرأ اليوم : إن الديمقراطية ستكون على رأس جدول الأعمال في المرحلة المقبلة وفي أي عملية سياسية.
كنت عائداً من سورية، وأعلم حق العلم ما يدور في الساحة السورية واللبنانية والفلسطينية من فعاليات، وأعلم أنها مجرد حراثة في الماء، بل أننا نتجه للأسوأ، وإن ما يمكن أن نشهده هو المزيد من التراجع، ذلك أن الأنظمة إذا ما فشلت في حل المعضلات الأساسية التي تواجهها : السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فإن ذلك سينعكس سلباً على الحالة النفسية للجماهير التي لا تجد حلاً لمشكلاتها، وكمسار تاريخي تبدأ بالتململ والهمس الذي يتطور إلى صخب، فيلجأ النظام إلى لعبته المفضلة، المتمثلة بزج المزيد من القوى الأمنية لتطبيق إرهاب الدولة، وكانت الأنظمة قد استعدت أيما استعداد لهذا الخيار السهل، الذي لا يكلف تعب التفكير والعمل مع الناس، وقد أنشأت أجهزة أمن متطورة هي المؤسسة الوحيدة المتطورة في هذه البلدان المتخلفة، فنهلوا علوم الأمن والمخابرات من أرقى المؤسسات الاستخبارية في الدول الراقية المتقدمة في هذا المجال، من الاتحاد السوفيتي حتى الولايات المتحدة وما بينهما، من دول ومعسكرات، فوضعوهم بمواجهة الشعب الأعزل، والنتيجة في هذه المعركة الغير متكافئة على الإطلاق هو أن الأنظمة كانت تخنق الأزمات الظاهرة أو الكامنة في السجون والمعتقلات، والتصفيات بمختلف أصنافها وفي مقدمتها الدموية.، حتى أضحت الانقلابات منذ السبعينات لعبة بائدة لا تصلح، وأيقن الناس أن لا تغير إلا بقدرة إلهية وبإرادة وطاقة فوق طبيعية، أو التدخل الخارجي.
وكانت المؤشرات تظهر لنا حتى في ذلك الوقت المبكر الدخول في دائرة الشيطان التي لا تفضي إلى شيء، فأظهرت لنا عجز الأنظمة عن إنجاز أي شيئ تاريخي، فهي لم تنجح بإشباع المواطن لا حرية ولا كرامة، ولا حتى خبزاً.
ففي سورية كانت حرب تشرين ومعطياتها السياسية هي ذروة ما بلغته الأنظمة العربية المواجهة وهي لا تمثل شيئاً يستحق أن تؤسس عليه حالة معينة، وبعدها حلت مرحلة الدخول إلى لبنان، وهي مرحلة تعملقت فيها عناصر الفساد التي كانت تتميز بالنعومة والخجل، ولكن أبواب لبنان فتحت الباب السوري على الفساد بكل أبوابه وحتى نوافذه.
وفي مصر الساداتية كان عصر الانفتاح قد بدأ، وحديث عن قطط سمان، وعن مليارات تهرب، على أن العقد الأخير من مرحلة الرئيس حسني مبارك كانت شيئاً معيباً أن تحدث في دولة في هذا العصر.
وفي ليبيا مارس القذافي هوايته بل قل لعبته في تبديل الأفق والسمت كلما شعر بالضجر والملل، بعبث سوريالي استغرق، ويا للسخرية، نيفاً وأربعين عاماً.
وفي اليمن الديمقراطية فإن التجربة كانت تشهد بين الفينة والفينة (كل بضعة سنوات) انتكاسات دموية تلغي كل منجزات تحققت تقريباً، ولم تستطع أن تنجو من الخصائص المتخلفة : القبلية، والتكتلات، والانشقاقات التي لم يكن لها داع حقيقي غير صراع على خفي أو ظاهر على السلطة، تتمترس وراء شعارات يسارية ويمينية، وما أطلق عليه بدولة القبائل الماركسية لم يكن وصفاً بعيداً عن الحقيقة.
أما في العراق والجزائر، فكانت هناك عملية تنمية اقتصادية مثيرة بحجم أستثمار جيد وإن تخللته أخطاء كثيرة، إلا أنه كان يتميز بالحماس ومفعم بالأخلاص والنزاهة إلى حد بعيد، ولكن هذه التجربة المثيرة، كانت تفتقر للأسف إلى الديمقراطية، وبذلك فإن العملية تفتقر إلى التنمية السياسية التي هي صنو التنمية الاقتصادية والمتمم الضروري واللازم لها. فلا تنمية اقتصادية بلا تنمية سياسية ترافقها، ولا تنمية سياسية بلا تقدم ثقافي واجتماعي واقتصادي، فلا يمكن أن تتصدى دولة ذات نظام غير ديمقراطي على مهام إحداث ثورة اقتصادية/ اجتماعية حقيقية، ذات أفق وجذر يستحق أن يتأمل المواطن منها غداً ثابتاً ومستقراً.
وخير دليل على ذلك هي التجربة الناصرية الرائعة، التي كان كل مراقب منصف يتعاطف معها، إلا أن هناك إدراكاً داخلياً إن التجربة النزيهة ينقصها شيء ما، وهذا الشيء لم يكن بسيطاً، فهو يتمثل بقيام دولة حقيقية، وديمقراطية ينص عليها الدستور، وتحميها القوانين، وهو ما لم يبلغ هذا المستوى، كانت هناك محاولات ولكنها الحياة السياسية لا تؤسس بهذه الوسائل البيروقراطية التي تفتقر إلى الديمقراطية، فهذه ممارسات بونابارتية منحة ومكرمة من القائد الفذ لا علاقة لها بديمقراطية ولا يمكنها أن تنجز شيئاً، وبالفعل، فإن التنمية السياسية في مصر خسرت سنوات طويلة، حتى تم إنجاز الخطوة الأولى، وخطوات قادمة على الطريق في ثورة مصر.
على مدى 55 عاماً عملت فيها في النشاط السياسي: كحزبي، وكدبلوماسي وكأستاذ جامعي متخصص في العلوم السياسية، وبالطبع لدي مخزون أعتقد أنه كبير جداً من المعلومات والذكريات والتجارب والمشاهدات وما وقع عليه بصري وسمعي, من شتى الأحزاب السياسية القومية والاشتراكية والدينية في العراق والأقطار العربية والكثير من هذه المعلومات غير صالحة للنشر، لأن فيها تثبيط لهمة كل وطني غيور، ولكني بوسعي أن أذكر حقائق عامة مؤكدة، سوف أذكرها ليس بناء على أسباب التعاطف أو المناهضة، بل خدمة للعمل السياسي العربي.
لسنوات عشت وعملت في جمهورية ألمانيا الديمقراطية، في هذا البلد الجميل الراقي، وكان كل ما فيه مرتَّب ومنظم حتى أقصى الدرجات، وكان يبدو لي أن أفضل من هذا النظام (إنسانياً) لا يمكن أن يوجد، حيث ينص القانون أن لا يتجاوز أجرة البيت عن ثلاثة ونصف بالمائة من الراتب، والتأمين الطبي، والكهرباء والمياه تحصل سنوياً أشبه بالمجاني، المواصلات الداخلية والطلاب يتقاضون رواتب من الحكومة، وكل شيء رائع بكل معنى الكلمة، ويستحيل أن تجد جائعاً أو عارياً فيه، ولا ينقص هذا البلد شيء ليكون جنة الله في الأرض سوى شيء واحد وحيد، الديمقراطية، والحريات الديمقراطية.
وبالمقابل قمت بزيارة ممتازة للهند ومكثت فيها 20 يوماً، وفي الهند تشاهد ما لا تشاهده في العالم بأسره، مرضى الجذام ينتشرون في الشوارع ويسمون (Roads Familys)عائلات الطرق، فهؤلاء يتزوجون وينجبون، يعيشون ويموتون في الشوارع، يأكلون من حشائش ولحاء الأشجار، أو ما يلتقطونه من الأرض، الفقر المريع يجعلك تشعر بالسعادة لأنك لست في الهند، ولكننا نحن الحائرون والتعساء، والهنود هم السعداء، سعداء بشئ أنجزوه بأنفسهم، إنه ليس تكنولوجيا معقدة، ولا ثقافة رفيعة، ولا ثروة نفطية، بل ديمقراطية فحسب.
هذه مقاربة عيانية بسيطة توصلنا لحقيقة ناصعة، أن ما يحتاجه الإنسان هو الحرية، وفي مداها السياسي هي الديمقراطية ضمن مجتمع ودولة محترمة لكي تحترم الإنسان، لا يهم أن تكون فقيراً أو غنياً، أو مثقفاً أو غير متعلماً، المهم هو التوصل إلى تداول سلمي للسلطة، تحترم المواطن، من أجل تكريس قاعدة مؤكدة: ليس هناك وطن حر بلا مواطنين أحرار. الإنسان يحتمل الجوع إذا توفرت له كرامته وحريته، ولكنه سيثور إن سلبت حريته وكرامته حتى لو إذا أطعمته جيداً.
وعندما يعيش المرء في إحدى البلدان الأوربية، لا سيما الغربية منها، يصاب بدهشة لا تصدق، هم ونحن وكل ذي بصر وبصيرة يتساءل: كيف يستطيع الإنسان في بلادنا أن يعيش، يكتب، أو يتحدث، أو يعمل في وظيفة حكومية، بل حتى أن يبيع الماء أو عرق السوس في الشوارع، فالإنسان في بلداننا ينبغي له أن يخاف من قائمة طويلة من الشخصيات والمؤسسات: تبدأ بالعائلية والقبلية والحكومية، الأمن والمخابرات، والمدير العام وسكرتيره، والأفضل أن يخاف حتى من سائق المدير العام.
ترى كيف يستطيع الإنسان أن يعيش حياته برفقة الخوف وينجب أطفالاً، وأمامه مئات أو الآلاف من الحالات ممن زلَّ لسانهم فراحت أرواحهم قتلوا على قارعة الطريق بمسدسات كاتم صوت، أو بالدريل أو المشنقة، لا يهم كلها موت. أم ترى اعتادت الناس الخوف حتى صار من ملامح الحياة الأساسية، ولذلك أيضاً فإن قطارنا غرز في طين لزج لا خلاص منه، ولذلك فإننا ومنذ أن فقدنا (النظام) يوم 14 تموز 1958 بصرف النظر عن حسناته وسيئاته، إلا أننا لم نقم نظاماً أفضل منه، وها نحن ننهض من سقطة (باستثناء مراحل نادرة) لنقع في غيرها وهلم جرا.
اليوم وقد قطعت مسيرة التطور في أقطارنا العربية ما يقارب القرن، ألا يستحق الشعب أن يواجه بصراحة، ألا ينبغي أن يرتقي عمل الأحزاب السياسية أي كان توجهها الآيديولوجي: قومياً كان أم اجتماعياً، أم دينياً، ينبغي أن يكون احترام الإنسان المادة الأولى في برنامجه، حياته عمله مصدر عيشه، حقه في أن يعيش في دولة ذات دستور وقانون، دولة تحمي المواطن لا تكون هي وأجهزتها أداة العدوان الأولى على المواطن.
ولنقل بوضوح وصراحة: إن المواطنين في أقطارنا لم يهانوا على يد المستعمرين الأجانب بقدر ما أهينوا وعذبوا وقتلوا على يد أحزابنا بمختلف توجهها، وأنظمتها، وتحت شعارات قومية واجتماعية ودينية زوراً وبهتاناً.
مواطننا اليوم يريد أماناً، لكي يؤسس نفسه وعائلته، يريد مدارس يتعلم فيها أولاده، ومستقبلاً على الأقل ذات أبعاد مفهومة، ومستشفيات يعالج بها نفسه وعائلته، أليس من المستغرب أن معظم هذه الفقرات كانت متوفرة أيام النظام الملكي الذي أسقطناه في العراق، واليوم وبعد مرور 55 سنة، يحلم العراقي بما كان متوفراً بين يديه؟
هذه مقالة للثقافة الشعبية وليست بحثاً أكاديمياً، أريد منها أن يقتنع كل عراقي أو عربي، وأن ينظر إلى الفرن السياسي الذي تلتهب نيرانه اليوم، أن لا يمنحوا تأييدهم وثقتهم إلا لتلك الحركة التي تؤمن بالديمقراطية، سواء كانت حركات قومية، أو طبقية اجتماعية أو دينية.
الديمقراطية التي تتضمن التداول السلمي للسلطة، واحترام إرادة الشعب، إطلاق الحريات الأساسية التي تنص عليها الدساتير العالمية لحقوق الإنسان.
شعوبنا اليوم، سئمت حتى النخاع من كل الشعارات، ولم تعد تطمح إلا في وطن تعيش فيه بلا إهانة، تأكل وتبات في بيوتها آمنة لا تخاف من أحد. وأن تضيع منها حقوق المواطنة الأساسية، الديمقراطية ليست حكراً على النظام الرأسمالي، النظام القومي يمكن أن يكون ديمقراطياً أيضاً، وكذلك النظام الديني والنظام الاشتراكي، صناديق الاقتراع مع أتساع الوعي الديمقراطي يمكن أن تكون صمام الأمان دون إنفجارات بين المراحل تبيد منجزات المرحلة التي سبقتها (بدرجة كبيرة على الأقل) وتلاحق رموز وحتى أنصار المرحلة السابقة في دائرة عبثية لا نهاية لها، والشعب يقدم مرغماً فاتورة الخسائر.
كل من يريد أن يحكم هذا الشعب، لنقلها هكذا بلا مواربة، عليه أن يقول لنا متى سيتقاعد ويجلس في بيته وأن لا يتحول إلى قائد تاريخي وضرورة... وما إلى ذلك من زخرف الكلام! أي حركة تتنطع لقيادة المجتمع عليها أن تتقدم ببرنامج الديمقراطية على رأس جدول الأعمال، ليقولوا لنا كيف يفهموا الديمقراطية، فالطغاة لهم أيضاً مفاهيمهم للديمقراطية، على طريقة "تريد أرنب أخذ أرنب، تريد غزال أخذ أرنب" فليقولوا لنا بالضبط كيف يفهمون القضايا الأساسية في حياة الشعب وفهمهم الدقيق لمصطلحات الديمقراطية: الشريعة وعلاقتها بالحياة السياسية، العلمانية، العدالة الاجتماعية، سيادة الدستور، الحريات العامة، المساواة، كيف يصلح الشعب الخلل إن وقع؟ كيف يستطيع الشعب إقالة الطاغية من دون اللجوء إلى الثورة والانتفاضة، واحتمال طلب المساعدة من الأجنبي؟ لأن طاغيتنا لم يعد يطاق، والبلد لم يبق بلداً بل تحول إلى مزرعة، وعبودية جماعية حديثة، ومرحباً بأي حل يقتلع هذا الهم عنا.
القائد الضرورة يعتقد أن البلاد ستتبخر من بعده، وها بشار الآسد يقول سوف لن تبقى سورية من بعدي، هذا البلد الحاضر في التاريخ والجغرافيا سيزول إذا زال ... أي ابتزاز مهين هذا ... يتشدق بالعلمانية وهو من ربط البلاد بالأجنبي على أساس الطائفية، ومارس الإجرام في لبنان مع حزب طائفي، وعندما يقترب موعد الرحيل يتغنى بالعلمانية، أي هوان وأي ذل هذا؟
ألا يستحق ذلك أن يقطعوا أصابع من جاء به من بيته لينصبه أميناً عاماً للحزب، ورئيساً للجمهورية وقائداً عاماً للقوات المسلحة وقائداً فذاً وضرورة، وما إلى ذلك من الألقاب والمسميات التي لم يعد لها معنى مشرف؟
هذا النظام العار يفعل كل شيء وأي شيء ليبقى عاماً آخر يركب على رقاب الشعب، فيصبح اشتراكيا عند اللزوم، وطائفياً قذراً عند الضرورة، وعلمانيا عندما تقرع الثورة أبواب قصره، يستجدي ويستعدي الأجانب على شعبه بلا حياء.
نريد بعد اليوم دساتير واضحة لا لبس فيها، تحرك الطغيان والديكتاتورية، تكفِّر عبادة الفرد، ترمي بالعار المتملقين وماسحي الأحذية، بعد اليوم، الشعب لم يبق حرمة ولا ستر لمن لا يستحق الستر، ولا كرامة لمن يهين كرامة الناس، نريد الوضوح، نريد الأمن والأمان، كن ما شئت أيها المتطلع للقيادة، ولكن الديمقراطية أولاً ....
لقد دفعنا أثماناً باهظة يا للعنة ...... باهظة للغاية! والآن يكفي ..... لنؤسس دولاً مثل سائر البشر المحترمين .... دولة محترمة ومواطنيها محترمون ... لا لإهانة البشر تحت أي شعار كان ... دينياً ... قومياً ... ثورياً ... اشتراكياً ....كفى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق