عمر الكبيسي
وأنا أشاهد على شاشة التلفاز ما نقلته فضائيات عديدة من مشاهد واقعة الحويجة صباح الثلاثاء يوم 23 نيسان 2013 وما تلا ذلك من مآسٍ يندي لها الجبين حين ترى قادة أركان وضباط وجنود ملثمين ولا ادري لماذا يتلثم الجيش المدجج بأسلحته ومدرعاته ومزنجراته وطائراته ليقاتل جمع شبابٍ عزَّل يلتحفون بسجاداتهم ويكبرون بأصواتهم ولا تحمل أيادي عدد صغير منهم أكثر من عصا، فيما تحوم فوق رؤوسهم طائرات سمتية وهم يتساقطون واحدا تلو الآخر بنيران البنادق والدبابات بعد أن اختيرت لهم هذه المواجهة بعد حصار أربعة أيام منع خلالها الزاد والماء من الدخول إلى ساحة اعتصامهم وكأن الله اختار أن يقع منهم 70 صريعا، تماما كان هذا المنظر يعيد للأذهان واقعة الطف التي نقرأ تفاصيل أحداثها في كتب التاريخ، وشاهدت أنا وغيري من العراقيين تشبيها لمشاهدها في ساحات إحياء ذكراها كل عام في العراق. وقد وافقني في استذكار الحدث الشيخ رافع الرفاعي مفتي العراق في بيانه حول الواقعة وسماها بواقعة الطف الثانية.
هل يلام الإمام الشهيد الحسين (عليه سلام الله) وهو قدوة الجهاد والصمود على موقفه في معركة الطف عندما أحيط وعائلته وأنصاره الذين لم يتجاوزوا اثنين وسبعين نفرا بين طفل وامرأة وأنصار، بجيش عرمرم ومدجج تعداده تجاوز الثلاثين ألفا ولم يقبل بخيار الاستسلام للنجاة وهو يعرف بل كما يقول بعض الرواة مبلغ مسبقا بتفاصيل ونهاية هذا المشهد برواية الرسول (صلوات الله عليه) ، ولماذا قبل الإمام الحسن (عليه السلام) بصلح مع معاوية والتنازل له بالخلافة بعد اغتيال والده الخليفة على بن أبي طالب عليه السلام عام 40 للهجرة المصادف660 ميلادي أي قبل معركة الطف بـ 20 عاما التي وقعت في8 إلى 10 محرم عام 60 للهجرة المصادف 680 ميلادي . بعد عشرين عاما على صلح الحسن عليه السلام لم تنفذ السلطة الوعود وضربت بقواعد الشورى عرض الحائط وتبنت التوريث منهجا لتبادل السلطة على النقيض من دور الشورى في اختيار الخليفة.
يسمى العام الذي حدث فيه صلح الحسن بـ (عام الجماعة ) في ظرف كان فيه وضع أهل البيت لا يحسد عليه بعد حادثة اغتيال الإمام علي وكانت بادرة لحقن دماء المسلمين التي أريقت أيام الفتنة في معارك الجمل وصفين بصلح مقيد ومرهون بعودة الخلافة على طريقة الشورى وليس التوريث التي أعلنها الخليفة معاوية قبل وفاته لابنه يزيد فيما احتسب نقضا واضحا للصلح والتي أججت خلال خلافة يزيد التي دانت ثلاث سنوات معركة ألطف في كربلاء التي خاضها الإمام الحسين الذي لم يعط البيعة ليزيد .
بعد عشرين عاما على صلح الحسن عليه السلام لم تنفذ السلطة الوعود وضربت بقواعد الشورى عرض الحائط وتبنت التوريث منهجا لتبادل السلطة على النقيض من تعاليم الدين تحت ظل الخلافة الإسلامية !ّ.
عندما لم يعد للحوار جدوى ولا بالهدنة عز كان لا بد من موقف حيث لم يعد للحياة طعم فكان الاستشهاد من أجل الحياة هو الخيار ليؤسس لهذا النهج استحقاقاته وركائزه بوجه الظالمين والمتشبثين بالسلطة على مر العهود والعصور .
خرج الحسين عليه السلام بعد أن بلغ السيل الزبا واعتقد بشكل جازم إن الأمور قد انحرفت وان رسوله إلى الكوفة ابن عمه مسلم بن عقيل قد نقل أليه وقوف أهل الكوفة معه في الرأي والإسناد ، لم يخرج بجيش واطمئن إن جيشه سيكون في مكان الثورة ومهدها وقد حاول منعه من الخروج إلى الكوفة عبد الله بن عباس وعبد الله بن جعفر بن أبو طالب و أبو سعيد الخدري الذي نقل عنه قوله (غلبني الحسين على الخروج وقد قلت له اتق الله و ألزم بيتك ولا تخرج على إمامك ويقول له ابن عباس (إن أبيت إلا إن تخرج فسر إلى اليمن فإن بها حصونا وشعابا ولأبيك فيها أنصارا) ويقال ان الفرزدق رأى الإمام الحسين وهو في طريقه إلى الكوفة فقال له (قلوب الناس معك وسيوفهم مع بني أميه ) وفي طريقه من كربلاء إلى الكوفة وكان قد عرف بمقتل ابن أخيه مسلم بن عقيل فقال لأخوته ( لأخير في الحياة بعدكم) ثم التقى بمبعوث من والي الكوفة وحذره من أن أي قتال مع الجيش الأموي سيكون انتحارا ولكن الحسين أجابه :
سأمضي وما بالموت عارُ على الفتى
إذا ما نوى حقاَ وجاهر مسلما
وآسى الرجال الصالحين بنفسه
وفارق خوفا أن يعيش ويرغما
ثم قال (ليس الموت في سبيل العز إلا حياة خالدة وليست الحياة مع الذل إلا الموت الذي لا حياة معه ! أفبالموت تخوفني).
وحدث بعد ذلك ما حدث في مجابهة قتالية وحوارية تاريخية رائعة امتدت لثلاثة أيام استشهد فيها الأمام الحسين وأنصاره . لم يكن في حينها مذهب الشيعة والسنة قد تشكلا كواقع على الأرض ومعركة ألطف بمنظار وقعها معركة سياسية كان الصراع فيها على الخلافة واحتسبت عند الشيعة بعدئذ قبل غيرهم أنها ثورة سياسية وفكرية ودينية هامة وألهمتهم الشعار المعلن طيلة القرون الماضية ولغاية اليوم (يا لثارات الحسين).
ومن هذه الواقعة استلهمت بعدئذ ركائز الصراع والثورات اللاحقة بين أنصار أهل البيت والخلافة الأموية كان أكثرها وصلاً ثورة عبد الله بن الزبير في واقعة الحرة واستباحة الكعبة وثورة الإمام زيد في اليمن والثورات التي دبرت في فارس .
ما يحدث اليوم في العراق من استقطاب طائفي ومذهبي بعد احتلال العراق هو جزء من تأجيج أريد به ظلما وعدوانا أن يربط تاريخيا بمعركة ألطف والصراع السياسي الذي أعقبها وقد تحدث بهاء الاعرجي في 2010 أثناء حملة الانتخابات بشكل واضح عن هذا الربط:
(صرح السيد بهاء الأعرجي رئيس اللجنة القانونية في البرلمان العراقي ، وعضو قائمة الائتلاف الوطني، وعضو التيار الصدري، والناشط السياسي، تصريحا غريبا في تلفزيون البغدادية، بقوله: إن الطائفة الكبيرة تعرضت للاضطهاد منذ أبو بكر إلى حزب أحمد حسن البكر) .
لواقعة الحويجة التي أشرت إلى وصف أحداثها وتبعياتها وظروفها شبه كبير بما جرى في واقعة ألطف من حيث كونها معركة عوملت بطابع طائفي و وظفت سياسيا وعسكريا لاستهداف المكون السني الذي لديه حقوقاً مشروعة تظاهر واعتصم لتحقيقها أربعة أشهر بشكل سلمي كان بالإمكان الاستجابة والاستماع واحتواء مطالبه بدلا من التعامل معه بأنه اعتصام مرتدين خارج على السلطة ويهدف بالعودة الى سلطة البعث التي تحتسب وفق أجندة الأحزاب الطائفية امتداد لسلطة الخليفة أبو بكر التي أقصت خلافة الإمام علي المنصوص عليها بالأحداث والوقائع كالغدير وحديث (أثمان الرسول الخ) ناهيك عن التأويل القرآني ونصوص الحديث .
استغلال السلطة وتوظيفها مذهبيا أو دينيا لتبرير العنف والقتل والتهميش أمر مرفوض وإذا كانت سلطة يزيد استغلت جبروتها بالأمس لتكتيم واجتثاث الصفوة والنخبة و العترة المحمدية الصافية المطهرة واستطاعت أن تجمع عسكرا وتحشدا جماهيريا لصالح موقفها الخاطئ في معركة ألطف ، لكن الإمام الحسين عليه السلام في معركته مع يزيد كان مبدئيا في الموقف لم يجابه يزيد كونه طائفيا ولم يذهب إلى الكوفة بجيش جرار ، كان تصحيحيا وفقا لفهمه الاسلام فكرا و واقعا وحين أستنجدته الكوفة لمعاناتها وجد نفسه مكلف شرعيا لتلبية الدعوة وحين وجد نفسه في الكوفة بلا أنصار وتخلى عنه من استنجدوه أمام جيش جرار ، لم تعد معايير كسب المعركة عسكرياً تتحكم بموقفه الثابت واحتسب الاستشهاد من أجل الحق انتصارا والشهادة حياة أبدية فيما الخنوع و الاستسلام ذلا أبديا ، وهكذا خلد الحسين سيرة وجهادا فيما ذهب الجناة لا ذكر لهم في التاريخ إلا من خلال ما فعلوا بالحسين عارا وخزيا . تحدث اليوم معركة الحويجة وتتكرر بنفس مفاهيم استغلال السلطة والجيش وتسييس المذهب والنقمة والثأر للملمة عساكرها ومليشياتها طائفيا لقمع وقتل شباب عزل يطالبون بحقوق مشروعة ويعانون من ظلم وتهميش تبرر السلطة قتلهم تارة بأنهم تكفيريون وبعثيون ومرتدون كما حدث في اعتصام الحويجة ضمن موجة الاعتصامات في المحافظات السنية . كذلك تذكر قسوة تعامل السلطة مع المعارضين لها ماحدث في الزركة وكربلاء والبصرة والناصرية في عاشوراء عام 2007والتي تم تبريرها داخل المكون الشيعي بغموض بلافتة انحراف يمس فكر المذهب وبإسناد من المرجعية تارة وبعلاقتها بأطراف سياسية وبعثية تارة أخرى .
في العراق أنجز الاحتلال الأجنبي مهمته في إشاعة الفوضى والعنف الخلاق المتلبس بالطائفية والعرقية وأنتج حالة انقسام بين المكونات كرست من خلال المحاصصة والشراكة واقتسام السلطة والمناصب واختلاس المال وبعد عشر سنوات من الاحتلال تتجلى أبشع صور الاقتتال الطائفي الذي راهن المحتلون على تكريسه قبل رحيله كفتيل يحرق الأخضر واليابس .
جرمٌ كبير أن تسحب ملايين البشر إلى مواقف سياسية متطرفة لا لشيء إلا لأنها ورثت المذهب من عوائلها وانحداراتها الموروثة في معارك ومناكفات وصراعات دامية بلباس الطائفية المقيتة . وعلى مر العصور والدهور لم تثمر الصراعات الطائفية والمذهبية ولا التسييس الطائفي إلا عن كوارث ومجازر دامية ونكوص في حال الشعوب والأمم وبالذات دول الخلافة الإسلامية التي أسقطتها العصبيات القبلية ونخرتها الحركات الطائفية والمذهبية .
أميركا والحركات اليمينية المتطرفة والصهيونية عندما تبنوا الطائفية ركيزة لعمليتهم السياسية في العراق واختاروا أزلامهم الطائفيين لها كانوا يدركون عن دراسة وتخطيط ضمانة تدمير العراق وتقسيمه بمشروع احتلال العراق.
حراك الشعوب لتغيير السلطة وثوراتها حتى في حالة غياب الاحتلال العسكري تلبستها موجة المد الديني بتوافقات أجنبية وبعهر سياسي فاضح لتفسد هذا الحراك وتزهق أهدافه وتحرفه عن نهجه نحو الفوضى العارمة والدمار الاقتصادي.
عندما تنقلب تعاليم الدين السمحاء إلى تنظير تبرير وتكفير وطائفية ، يكون الدين قد فقد آليته للإصلاح وتحول إلى وسيلة تبرر العنف والفساد والاستغلال وحين تكون الحاكمية بيد السلطان والحاكم تنشأ سلطة الفرد والقوة والدكتاتورية والقهر ولا يبقى من الدين إلا الغطاء الذي تبرر به الجرائم والحروب والكوارث .
نقل عن هارون الرشيد قوله لابنه المأمون : (يا بني الملك عقيم ولو نازعتني على الذي انا فيه لأخذت الذي بين كتفيك).
أليس في هذا التسييس ظلم و إساءة كبيرة للدين وللأمة و للمذهب، متى تكون الأمة هي الحاكمة ويكرس الدين لنهج الحب والوئام و والوفاق كما جاءت به كتب السماء وبشرَّ به الأنبياء والرسل ؟
متى تنبذ الطائفية السياسية المقيتة التي أسست للخلاف والصدام والصراع اليوم وعلى مر الدهور والأزمان ؟ . متى تكفر ؟ متى تقمع ؟ متى تنتهي مأساة العراق الحادة والمؤرقة والقاتلة ؟ هل يقرأ المالكي رأس السلطة الغاشمة اليوم ما آلت اله أمور العراق بسبب سياساته ؟ فلماذا يبق الحجة عليه؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق