القس لوسيان جميل
اعزائي القراء! لو لم تكن الأصالة والوحدة والتجدد حاجات انثروبولوجية انسانية عميقة في حياة الانسان وحياة المجتمعات: سواء كانت مجتمعات دينية ام مدنية، لكنت قد ابقيت ما اكتبه الآن، وما كتبته من قبل، في هذه الحزمة من المقالات، كتابات يتداولها المسيحيون المعنيون فيما بينهم، او لكنت كتبت ما كتبته في مواقع مسيحية مختصة بالأمور الدينية والمسيحية.
غير ان الحقيقة ليست كما يمكن ان يظن البعض، ذلك ان كل ما كتبته في هذه الحزمة من المقالات وما سأكتبه في المقال الراهن والمقال الذي سيليه، ان شاء الله، ليس غير مقالات مكتوبة بمنهجية انثروبولوجية علمية، وان كانت مادتها دينية او كنسية عامة، ولذلك يمكن ان يستفيد منها المسيحي وغير المسيحي، بدون ما احمل منة لأحد.
اما ما دعاني للكتابة عن الشعار البطريركي بأبعاده الثلاثة فهو خلفية وطنية غايتها ازالة الالتباس والغموض الحاصل في جميع ابعاد الشعار المذكور، وتفادي الجدل العقيم الدائر حول هذه الأبعاد، منذ بدء الاحتلال والى حد هذا اليوم، لكي لا يستطيع احد ان يقفز من فوق المعاني الحقيقية لأي بعد من ابعاد الشعار الحقيقية، ويأتي بنتائج وقرارات مخالفة لحقيقة هذه الشعارات، في زمن كثرت فيه الأيديولوجيات وحلت محل العلوم الحقيقية، وصار الالتفاف على معاني الأشياء الحقيقية امرا دارجا، عند كتاب لا تهمهم الحقيقة بقدر ما يهمهم تضليل الناس من اجل مصلحة يطلبونها، كون غالبية ما يكتب مدفوع الثمن مسبقا وناتج عن صراع سياسي خبيث، هذا الصراع الذي يدور تحت اشراف المحتلين بشكل مباشر او غير مباشر.
طبيعة شعار الأصالة البطريركي: عندما نتكلم عن شعار الأصالة البطريركي، وعن اي من الشعارين الآخرين، علينا ان نضع بالحسبان حقيقة ان ابعاد الشعار البطريركي الثلاثة هي ابعاد انثروبولوجية متقاربة في معانيها ومتلاقية مع بعضها البعض ومتشابكة، بحيث يكون كل بعد معتمدا Interdépendantعلى البعد الآخر، ويكون امتداداExtension للبعدين الآخرين. ومن هنا لا يمكننا ان نتكلم عن اي بعد من ابعاد هذا الشعار معزولا عن البعدين الآخرين.
الصيرورة والأصالة: من المعلوم ان الكتابة عن الأصالة ليست بالسهولة التي قد يظنها اي واحد منا لأول وهلة. ذلك ان العودة الى الأصالة تعني العودة الى ينبوع الحياة، هذه الحياة التي تعني في طبيعتها التغيير Changement والسيرورة Marche والصيرورة devenir والتجدد، وفق مقولة الفيلسوف اليوناني القديم هيروقليطس الذي اكد بأن الانسان لا يسبح في عين ماء النهر مرتين، ووفق كثير من الفلسفات الأخرى، الحديثة والمعاصرة، مما يعني بأن العودة باسم الأصالة الى اية مرحلة من مراحل مسيرة كنيستنا تصبح أمرا متعذرا.
الحالة الأصيلة التي نفتش عنها: بما ان الزمن في حركة مستمرة فلا يمكن ان نجد فيه شيئا ثابتا نستطيع ان نجعل منه معيارا لتحرك ناجح نتمناه ونبحث عنه، ولاسيما في زمننا الذي اصبحت فيه احوال الكنيسة متدهورة وتحتاج الى مبدأ ومثال ومعيار ثابت تعود اليه وتصلح نفسها على ضوئه. وبما اننا لا نجد في عالمنا إلا الحركة والتغيير والموت والولادة الجديدة، على كل المستويات، نكون مضطرين، نحن البشر، الى ان نفتش لنا عن ثابت نسبي نعطي له صفة الاطلاق، بعد ان نتجاهل الحركة التي نجدها في بعض أبعاد هذا الثابت بدرجة او بأخرى. اما هذا الثابت الذي وجده البشر والذي يستطيع ان يكون معيارا ينير طريق اصالتنا فينقسم الى قسمين هما: الثابت شبه المطلق والثابت التاريخي الذي يتحرك بسرعة بطيئة تزداد كلما تقدم بنا الزمن في ظاهرة تسارع Accélération زمن مسيرة الحضارات، وزمن تغييرها وموتها ايضا.
الثابت شبه المطلق: من المعروف ان الفيلسوف افلاطون اهتم بموضوع " الماهية " التي اهتم بها من قبله جميع الفلاسفة اليونان القدماء تقريبا، واهتم بها سابقه الفيلسوف سقراط، والفيلسوف ارسطو الذي جاء بعده. غير ان افلاطون اعتقد لأسباب فلسفية، لسنا الآن بصددها، بأن الماهية انما توجد في العالم الفوقي او العالم السماوي الذي يعده افلاطون عالم الحقيقة، في حين يعد الأشياء التي تُكَوّن عالمنا الارضي مجرد ظل لعالم الحقيقة الفوقي. هذا وقد فسر افلاطون وجود الأشياء الكثيرة في العالم الارضي بأنها ناتجة عن محاكاة Imitationللمثال او النموذج الواحد الثابت، حيث يصير الواحد كثرة وتعدد. اما الشبه الكبير الذي يجده افلاطون بين النموذج ( المثال ) الواحد والنسخ الكثيرة التي تحاكيه فقد فسره بعملية " مشاركة " الشيء لنموذجه في صفاته. وهكذا قرب افلاطون بين عالم الأرض وعالم الحقيقة الواحدة. من ناحية ثانية نعرف ايضا ان افلاطون كان يرى ان كل الماهيات الفوقية السماوية تعود الى مثالها الواحد: مثال الحقيقة والخير والجمال، ثم تعود الى الكائن الواحد الأزلي ؟؟ الأمر الذي جعل لاهوتيي الكنيسة يوظفون فلسفة افلاطون وامتداداتها في لاهوتهم.
الثابت التاريخي بطيء الحركة: اذا كان ثابت الحقيقة والخير والجمال ثابتا شبه مطلق ويصلح مبدئيا ليكون معيارا للحقيقة والخير والجمال، فان هذا الثابت يقع فوق التاريخ ولا يصلح لتقييم التاريخ إلا بشكل غير مباشر، في حين نجد في العالم ثابتا تاريخيا يصلح لتقييم حقبة تاريخية بأكملها ونقدها وتوجيهها، وان كان هذا الثابت يمتاز بحركته التاريخية التي لا تتوقف على الرغم من بطئها المعروف.
دور المعايير الأنثروبولوجية هذه: وفي الحقيقة تشكل المعايير الأنثروبولوجية شبه المطلقة، نقطة تماس الانسان بإنسانيته، ونقطة التقائه بإلهه التقاء انثروبولوجيا، وليس التقاء انطولوجيا. فهذه المعايير الأنثروبولوجية شبه المطلقة يحملها البشر في انفسهم كغريزة تقودهم الى الحقيقة والخير والجمال، قيادة فعالة ومستمرة، وان كانت غير متساوية عند جميع البشر من حيث قوتها او ضعفها، في حين نجد لكل حقبة تاريخية معاييرها الخاصة بها ترافقها منذ ولادتها وحتى موتها، منتجة ولادة جديدة وحقبة جديدة تكمل المشوار التاريخي.
وهكذا نفهم كيف صارت معرفة الله، بفضل هذه المعايير الانثروبولوجية الثلاثة متاحة لكل انسان يحمل انسانية سليمة وغير فاسدة. وهكذا ايضا، وبحسب هذه النظرة اللاهوتية، نفهم كيف يصير الله حاضرا بيننا نحن البشر، وكيف يسكن في ذواتنا الانسانية. كما يمكننا ان نتكلم عن تجلي الله تجليا انثروبولوجيا لكل البشر من دون استثناء، من خلال هذه المعايير الثلاثة التي تسكن مفاصل كيانهم، بخلاف المعرفة العقلية لهذه الأمور ذاتها، والتي تسمى عِلما او لاهوتا، في حين تتم عملية تعشيق وارتباط بين الثوابت الأنثروبولوجية المذكورة، وبين كل مرحلة من مراحل المسيرة الانسانية السائرة نحو اهدافها سيرا انثروبولوجيا حثيثا.
مراحل التاريخ الحضاري الكبرى: بما اننا نعرف وجود علاقة جوهرية بين وجه الاله ووجه اية حضارة جديدة تدخل العالم، نرى ان نتتبع اوجه الله التاريخية الحضارية من خلال تتبعنا لبداية دخول اية حضارة عالمنا الانساني.
حضارة تعدد الآلهة البدائية: على الرغم من ان الحضارة البدائية تبدأ قبل الايمان بآلهة متعددة Polythéisme إلا اننا سنجعل من هذه المرحلة بداية للتطور الانساني التاريخـي، من باب الايجاز. فقد بلغ الانسان في هذه الحقبة مرحلة مهمة من التقدم الانساني وخلف وراءه مراحل طواها النسيان. اما عن طبيعة هذه المرحلة فنقول انها كانت مرحلة حاول الانسان فيها تحقيق امنه من خلال سعيه الى حاجاته المادية المتنوعة والتي كان الانسان القديم يطلبها من آلهته. علما بأن اللاهوت هنا كان يختلط بالإيمان والمعتقدات الاسطورية. اما الطقوس فكانت بمستوى هذا الايمان البسيط جدا الذي تكلمنا عنه اعلاه.
مرحلة متقدمة أخرى: ثم وبعد مسيرة طويلة جدا، تحدث نقلة ايمانية نوعية في حضارة الأمة الدينية القومية والتي فيها ومعها تتحول صورة اله البشر من صورة اله تعددي واهب للحاجات الزمنية الى صورة اله سيد واحد راع " لأمةٍ " تنتسب اليه وتدعوه الهها. فضلا عن ذلك فقد ابدعت الأمة لنفسها دينا ولاهوتا وشرائع وطقوسا خاصة بها ورموزا تمثلها وكهنة يقدمون القرابين عوضا عن الشعب، وسلطة ثيوقراطية تسلطية ما لبثت ان صارت سلطة تعسفية مستلبة لحياة الشعب المؤمن، فسقطت مخلفة وراءها تراثا ثريا.
المرحلة الشخصانية: اما هذه الولادة الجديدة فتبدأ عندما دخل ايمان جديد الى العالم، ايمان لا يُقَيم فيه الانسان بأمته ولا بقوته ولا بعرقه ولا بما يملك، وإنما يقيم بإنسانيته حسب، حيث لا يصير الانسان وسيلة لأية غاية مهما كانت نبيلة ومقدسة، بل يصير هو نفسه الغاية التي تخدمها كل ابعاد وجوده الذاتية الأخرى. وتبدأ الولادة الجديدة ايضا عندما يولد الانسان الجديد: انسان يشعر ( يؤمن ) انه مطلق الكرامة والقيمة الانسانية، بعد ان يحسب ذاته بمرتبة ابن الله ( مرتبة اعتبارية )، وبعد ان كان يحسب ذاته مجرد عبد لله وبالتالي لا يستنكف من ان يكون بسهولة عبدا حقيقيا لكل من يتكلم باسم الله.
ويقينا ان القيم المعيارية: قيمة الحقيقة والخير والجمال، هي المحركة والموجدة لهذه الحقبة الحضارية، مثلما كانت المحركة والموجدة لكل الحقب الأخرى، ولكن بما ان السيد المسيح هو الذي كشف اولا عن هذا الانسان الجديد وعن وجه الهه، تنسب هذه الولادة الجديدة الى يسوع المسيح وتسمى باسمه، ولاسيما بعد ان عد نفسه ابنا انسانيا مطيعا لإرادة ابيه السماوي في كل شيء، حيث بدأ التاريخ المسيحي انطلاقا من هذه الحقبة تماما، عبورا الى مراحل كثيرة نختصرها بـ / مرحلة بدايات الكنيسة ومرحلة القرون الوسطى المسيحية ومرحلة ما بعد الاصلاح البروتستانتي ومرحلة الثورة الفرنسية ومرحلة المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني ومرحلة العولمة، فضلا عن المرحلة الأخيرة التي نأمل ان تكون عودة جديدة الى المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني وما يلي ذلك، لزمن ما بعد العولمة. هذا ما كان في كنائس الغرب خاصة، ولكن ماذا عن كنيستنا المشرقية ؟ نقول اننا نحن ايضا مررنا بمراحلنا الخاصة بنا منطلقين من عين المبادئ المعيارية العامة والتاريخية التي مرت بها كنائس الغرب، بحسب نظرة بنيوية تميز بين المبادئ وبين التطبيق الحضاري للمسيحية.
لكل مرحلة لاهوتها وطقوسها: بما ان كل مرحلة من المراحل التي ذكرناها تخلف ديالكتيكيا المرحلة والمراحل التي سبقتها يكون من الطبيعي ان تكون لكل مرحلة لاهوتها ووجه الهها وشريعتها الأخلاقية الخاصة بها وطرق عبادتها ونظام طقوسها وعباداتها وسلطتها. كما تحمل كل مرحلة بعض ترسبات المرحلة او المراحل التي سبقتها، سواء كان ذلك في الغرب ام في الشرق. وبما اننا نريد ان نركز هنا على كنيسة المشرق، لابد وان نشير الى بعض اوجه النجاح والإخفاقات فيها. ويقينا ان ما يميز كنيسة المشرق هو العقلية الطائفية وعقلية الأقليات التي تربت عليها، خلال طول تاريخا وعرضه، حتى بعد ان تحول العراق من ثيوقراطيته الى الحياة الوطنية الديمقراطية بالمعنى الأصلي للكلمة المناقض الثيوقراطية. وعليه فنحن لا يمكننا ان نغض النظر عن بعض الفضائل التي تحلى بها اولاد هذه الكنيسة لفترة طويلة من عمر كنيستهم، مثل فضيلة الصدق والإخلاص والتواضع والوداعة وحب التسامح وغيرها، غير ان علم الاجتماع غالبا ما يؤكد على صفة الضعف الاجتماعي ( ضعف الأقليات ) التي تقبع وراء هذه الفضائل فتكتسب في كثير من الأوقات وجها سلبيا. اما صفة العزلة والعزوف عن المشاركة في الحياة المجتمع فتلك صفة مذمومة لم يحاول المسيحيون التخلص منها إلا في فترات انكسار العراق، مثل فترة بداية مجيء عبد الكريم قاسم الى الحكم، وفترة المد الشيوعي والحالات الشاذة في شمال العراق، في حين كان انسجام كثير من العراقيين مع حزب البعث ناتجا عن علمانية هذا الحزب التي كانت شبه معلنة. ويقينا ان هذه العزلة والطائفية والتي ادت الى استنكاف مسيحيي كنائسنا عن المشاركة في الحياة العامة قد ادت ايضا الى تقوقع الجماعات المسيحية على ايمانهم الفردي المؤدلج وعلى طقوسهم الدينية التي اهتموا بها كثيرا كبديل لطقوس تهتم بالفضائل الاجتماعية والإنسانية المطلوبة من كل انسان، مما حول الايمان المسيحي الى مجرد انتماء لا صلة له بالحياة الواقعية.
اصالتنا تكمن في معاصرتنا: اذا كانت العودة الى اية مرحلة ايمانية دينية، من اجل الوصول الى الأصالة غير ممكنة، لا بل خالية من المعنى، طالما عرفنا ان المنظومة الحضارية الدينية في جريان مستمر وتغيير يسير نحو اهدافه دون ان يلتفت الى احد، فأين نجد أصالتنا الكنسية اذن؟ ان عنوان هذه الفقرة يجيب بوضوح بقوله: ان أصالتنا تكمن في معاصرتنا، الأمر الذي يعني بأننا يجب ان نبقى اناسا يعيشون " هنا الآن " Hic et nuncفي بداية القرن الحادي والعشرين وضمن حضارة هذه الفترة الحالية من الزمن. علما بأن المعاصرة ليست فقط مسألة زمن، لكنها ايضا مسألة دخول في آخر المستجدات الحضارية والدينية قلبا وقالبا، فكرا وذهنية وعملا، حتى ان المعاصرة تصبح كالفضيلة من ينتقل اليها بصدق وعزيمة يقوم بعمل جميع اعماله الحضارية بسهولة وسرعة وفرح، عوضا عن العبثية التراثية التي يبشرون بها اليوم.
على ضوء الثابتين الانساني والتاريخي: بما اننا لا نستطيع العودة الى اية حقبة تاريخية ايمانية حضارية، فإننا نكون مدعوين الى العودة الى ثابت الحقيقة والخير والجمال، باعتباره معيار اعمالنا، والى الثابت التاريخي الايماني الحضاري الذي آمنا به منذ ظهور السيد المسيح في حياتنا، مع وجه ابيه الأبوي. علما بأن حقبة المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني تمثل هي الأخرى، وبوجه خاص، نهضتنا المسيحية بتمثيلها من خلال جميع دراساتها، ثوابتنا الحقيقية التاريخية الحضارية والأنثروبولوجية شبه المطلقة، حيث كان المجمع المسكوني يمثل أصالتنا ومعاصرتنا في الوقت عينه، ولم يعد يحتاج اليوم سوى من يأتي من يعيد اليه الحياة والمسيرة من النقطة التي كان متوقفا فيها على يد الرؤساء المؤمنين بالعولمة او الخاضعين لها.
المعاصرة والعلوم الانسانية: غير اننا من الآن، يمكننا ان نؤكد، بأن دعوتنا الى المعاصرة، وان كانت دعوة ايمانية تهيمن عليها المعايير الأنثروبولوجية والتاريخية ومقررات المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، إلا ان هذه الدعوة مطلوب لها ان تنيرها العلوم بشكل عام، وعلوم الانسان بشكل خاص، لأن العلم يساعدنا في المجال الايماني، على الابتعاد عن الشطط والزلل وعن الانحراف نحو الاساطير ونحو العبثية في جميع المجالات اللاهوتية. ويقينا ان العلم هذا يخلصنا بالتدريج، وحقبة بعد حقبة، من ترسبات كل الحقب الحضارية والتاريخية التي مضت، على الكنيسة في الغرب والشرق. فهو يخلصنا تدريجيا من وجه اله كل الحقب المذكورة، ابتداء من آخر حقبة مسيحية ووصولا الى اول حقبة تمت فيها البشارة الأولى، ثم مرورا بحقبة العهد القديم اليهودي، الذي يبدو انه لا يريد مغادرة حياة الكنيسة بسهولة، ونزولا الى الحقب الأقدم في عمق الوثنية، هذه الوثنية التي بقيت معششة في نفوس كثير من بسطاء الناس، ولاسيما في الارياف، حيث يكون علينا تجاوز هذه الحقب، وليس العودة اليها، وان نأخذ منها العبر اللازمة فقط، سواء من سلبياتها ام من ايجابياتها. اما هذا التجاوز فيكون على صعيد وجه اله كل حقبة من الحقب، ولاسيما الحقبة الأخيرة الرأسمالية التي نعيش فيها، وعلى صعيد لاهوتها وشرائعها وطقوسها ورموزها، وعلى صعيد نمط سيرة رجال دينها التعسفية، وكذلك على صعيد وجه الانسان الذي تدعو اليه.
المطلب الأساسي من كنيسة المشرق: اما كنيسة المشرق فمطلوب منها ان تعيد لحمة اتحادها مع الكنيسة الجامعة بعمق اكثر مما هو موجود اليوم، فتسير الكنيستان في اتجاه واحد وبوتيرة متقاربة نحو الأهداف الخاصة والعالمية المشتركة التي تلوح امامهما اليوم، على ضوء المبادئ التي نادى بها المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، ومن ثم تستطيع على ضوء هذه المبادئ العامة ان تتجاوز حقبة العولمة التي كانت قد دخلتها، لا اقول من اوسع ابوابها، لكن من ابوابها الخلفية، مع الأسف. وهكذا ايضا، وبعد ان تنخرط كنيستنا مع الكنيسة الجامعة بعملية تداخل واتحاد Insertion وتسير معها يدا بيد نحو تحقيق اهداف المرحلة الانسانية التي تكلمنا عنها، انطلاقا من حيث كانت قد توقفت كنيسة المجمع المسكوني بسبب العولمة، حينئذ تكون كنيستنا قد اقتربت من عالميتها ومن معاصرتها ومن أصالتها ايضا، وحينئذ تسهل عليها عملية خلع ثوب العزلة الذي كانت فيه وخلع كل ممارساتها الطائفية، وطقوسها البديلة Alibiلأعمال الايمان، القومية والطائفية، والدخول في عهد المشاركة والمساهمة Coopérationمع كل البشر ذوي الارادة الصالحة والنيات الطيبة، في خلق عالم يسوده الحق والعدل والسلام والمحبة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق