عبد الكاظم العبودي *
تعتبر الانتفاضة العراقية ذروة التخمر الثوري الحاصل في ساحات العراق وممهدا لعهد جديد، فقد تبدأ الجماهير في التظاهر مرورا بالاعتصام الى التمرد فالعصيان المدني، وتلك مراحل اختبار لإرادة الجماهير من جهة، ومدى مطاولة السلطة وتمسكها بخيار القمع المتصاعد نحو ذروته الدموية.
عندما تبدأ المطالب الشعبية تُطرح بجوانبها المعيشية أو المطلبية فانها تستهوي وتدفع الى صفوفها فئات اجتماعية عديدة، ومنها قوى محددة، منها: نقابات، تجمعات، شبان، نساء، وعندما تواجهها السلطة الحاكمة بتجاهل أو تسويف للمطالب فان السلطة تبدأ لحظتها التخلي عن مبدأ تدعي انها تبنته في قبول الليبرالية في الأفكار والديمقراطية في الممارسة، وبتصلبها في عدم الاستماع الى الجماهير والى منظمات المجتمع المدني والمجتمع التي ادعت انها تمثله وإنها متمسكة بالاليات والوسائل التي أوصلتها الى الحكم فانها وضعت نفسها على خط القطيعة بكل ما ادعت به.
وعندما تستمر التظاهرات وتتعزز ملامح الإصرار على تحقيق المطالب الشعبية فان السلطة تسارع إلى تجريب القمع والتضييق وسائلا لها قبل الحوار، وحتى باللجوء الى مزيد من الاعتقالات بدلا من الاستجابة لإطلاق سراح المعتقلين، وبذلك فهي تنزع عن وجهها قناع الديمقراطية وممارساتها وحتى التخلي عنها بما فيها التفريط بالعقد الاجتماعي الذي إدعت الالتزام به. وبتنكرها لحق التظاهر والإضراب وعدم الاعتراف بالحقوق الأساسية للمواطن فإنها فقدت نهائيا تلك "الشرعية" الزائفة التي أوصلتها إلى السلطة.
ان جهلا ظل سائدا بحقيقة أكذوبة الديمقراطية التي روج لها المحتل وأتباعه في العراق، رغم أن الاضطراب الاجتماعي في العراق هو الحالة السائدة في العراق، ومنذ أكثر من خمسة عقود، وزاد هذا الاضطراب بشكل خاص خلال العقدين الأخيرين بشكل خاص. لكن ذلك الاضطراب الاجتماعي لم يجد الوسائل المعبرة عنه كالتظاهر والاعتصام والتمرد، ومن ثم الانتفاضة لغياب التنظيمات الاجتماعية وحراك الأفراد وافتقاد الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي المطلوبة.
إن أول التيارات المنكفئة والمنعزلة عن هذا الحراك الاجتماعي المغيب في العراق بعد الغزو هي تلك القوى الليبرالية التي ظنت انها ستكون الحليف الأول للعملية السياسية التي سوق لها الاحتلال، أو كما تمنتها نخب الغرب الديمقراطية لهم؛ تلك القوى الليبرالية وجدت نفسها في ذيل اهتمامات مهندسي تشكيل مجلس الحكم في العراق واعتماد الأمريكيين مبدأ المحاصصة الطائفية والإثنية في اختيار أول سلطة عراقية[عميلة] و" جمعية وطنية"، كلها كانت خاضعة بشكل مباشر لإدارة الاحتلال المؤقتة ولصلاحيات السفير الامريكي بول بريمر. إن تلك القوى الليبرالية التي بشرت وطبلت لديمقراطية المحتل في العراق باتت تعيش وهما وصارت هامشا غير مؤثر في أحداث العراق اللاحقة، ولم تعد جزءا من حراك التخمر الثوري الجاري في العراق.
ان جزءا من صورة عصرنا وتغيراته تناولتها كثير من الدراسات والأفكار الفلسفية والإجتماعية، ومنها ما تجد في العالم ميلا قويا وناميا لبسط سلطة المجتمع المتصاعدة بشكل متطرف على سلطة الفرد، سواء فرض ذلك الميل بقوة الرأي أم بالتشريع أو الاستشارة الشعبية. إن التعبئة الإعلامية والاجتماعية التي يشهدها العراق خلال العقود الأخيرة ومنذ ثورة 14 تموز 1958 وما تلاها أفرز حالة من الضغط الاجتماعي حتى على أؤلئك الافراد الذين سعوا إلى الليبرالية او النزوع الديمقراطي، ولكن تلك القوى الليبرالية او تلك التي تبنت الخيار الديمقراطي الشعبي لم تصل الى مستوى طموحات جماهيرها.
وعندما حلت كارثة الغزو والاحتلال عادت آمال الواهمين بالليبرالية والديمقراطية إلى الظهور والحديث بصوت أعلى، لكنهم عادوا فتقهقروا، عندما ولد في العراق المحتل دستورا مشوها، غيب قيم المواطنة لصالح بعض السلطات الاجتماعية التي تكتلت فيما بينها وأفرزت ما سمي بالكيانات السياسية وتشكيلاتها وضمت نوعيات متخلفة من قياداتها بتمذهبهم او تصلبهم وتعصبهم الإثني والقومي والجهوي وتنكرهم لعروبة العراق وانتمائه الثقافي والحضاري. لقد تسربت الى التشريعات الجديدة أسوء الأفكار وأكثرها ضمرا للأحقاد القديمة، ترجمتها تشريعات وقوانين متخلفة ورجعية، وحتى فاشية دينية وإثنية، كرست السلطة بالتقاسم لحلفاء الغزو والاحتلال، وسعت الى توطيد نظام وحكم لا يتم التخلي عنهما بأية آلية تداول ديمقراطية ممكنة، إلا بإزالة تلك السلطة او التناوب على الحكم بواسطة ثورة شعبية تسعى لإعادة ترتيب الأمور في العراق وفق منطق العصر الذي يعيشه العالم.
وفي الوقت الذي سعت فيه السلطة القائمة في العراق، ممثلة بالتحالف الشيعي والكردي، إلى التمسك بكثير من الامتيازات لقادتها، وانشغلت بخلق تجانس ما بين قادتها القادمين مع الدبابات الأمريكية الغازية، وجلهم من الصنف الردئ، لذلك فإنها تخلت عن حقوق مواطنيها وعن مبدأ المواطنة في العراق ، وبفعل آليات الاستحواذ على الحكم والامتيازات تخلت أيضا تلك القيادات حتى عن قواعد تلك التنظيمات والأحزاب والتشكيلات الاجتماعية والسياسية التي ارتبطت بهم، فتفردت تلك القيادات بالسلطة، كحزب الدعوة، وتمركزت السلطة بيد شخص طارئ على حكم العراق ،مثل نوري المالكي، تم ذلك بفضل ورعاية سلطة الاحتلال الأمريكي والدعم الإيراني.
في العراق بات من الصعب تصنيف القوى ومواقفها إزاء الحراك الاجتماعي والسياسوي القائم، وبأشكال متنوعة، وأحيانا تبدو الحركة الاجتماعية في العراق، متباعدة، ومنفصلة. وقد يبدو للبعض: إن المشهد الكلي للعراق الشعبي لا يجمعه جامع يؤدي به الى تحصيل قوة اجتماعية أو سياسية واحدة، يمكن توجيهها نحو هدف معين، وفي ظرف معين؛ فالعراق الشعبي، بقواه السياسية، سيظل عصيا على التصنيف إلى يسار ويمين، أو رجعي وتقدمي، أو قومي وإسلامي، ليبرالي أو ديمقراطي... الخ. من تلك التصنيفات الكلاسيكية التي اعتدنا عليها لفظيا وتعلمناها في مفردات المدرسة السياسية أو الاجتماعية العراقية. وكل محاولة لاستقطاب مصطلح سياسي معين من كل تلك المسميات وتوظيفه في التشخيص يعد بمثابة تزوير للواقع المعقد والسائد في العراق الآن.
إن التوترات الاجتماعية القائمة في العراق وليدة أسباب عديدة، لا يمكن إحصائها وجمعها في خانة وتوصيف واحد؛ ولكنها من جانب آخر تكثفت بشكل ملموس، وهي تتبلور تدريجيا بشكل جلي كمحصلة حتمية لما أفرزه الغزو والاحتلال، وما تفرزه يوميا الأحداث والموقف من العملية السياسية المشبوهة الجارية في العراق.
والسؤال الذي تفرزه الأحداث: هل تستطيع الجماهير ان تنهض وتحسم معركة وطنية منتظرة، يراهن البعض على حسمها ضد خصومه، وإذا ما تأملنا صيرورة الأحداث الجارية في شوارع المدن العراقية وساحاتها فهل يمكن أن نتصور مئآل حضورها اليومي في بقية الشوارع والساحات وتوطيدها نحو صياغة مشروع وطني يمكن فرضه على السلطة القائمة، سواء بالتفاوض أو بالضغط الجماهيري بكل أنواعه السلمي أو العنفي. في كل صدام محتمل لا يستبعد طرفا المعادلة، معسكر العراق الشعبي والسلطة القائمة، ان الحسم النهائي ليس بتلك السهولة ولا يمكن تقريره من غير خسائر جسيمة بالأرواح وخراب الممتلكات، وسيفتح الصراع جراحات ابعد من يومنا الحاضر المعاش.
لقد سجلت أحداث شعوب كثيرة دروسا هامة، لا بد أن تؤخذ في الحسبان، خصوصا عندما يستفحل القمع وتتمادى الدكتاتوريات في ظلمها، فان منهج حل المشاكل الاجتماعية والإنسانية بشكل جذري لا يحل بالحوار والمناشدة بين قامع ومقموع؛ بل لا بد من انتهاج منهج الثورة، أو الثورة الشاملة. وقد تنجح تلك الثورة المنتظرة، بضربة واحدة أو قد تمر بممارسات منظمة ومتدرجة، ترفع من وتيرة الاستعداد لتضحيات الجماهير، صعودا مع تطور التظاهرات والإعتصامات وحتى التمرد والعصيان المدني، وفي كل تلك المراحل يجب التحلي بالشجاعة الكافية لحسم الموقف بشكل نهائي عندما تحصل الثقة الكاملة من قبل الجماهير بقيادة العمل الثوري وتحين لحظة الثورة.
إن أولى عتبات الشجاعة هنا، هو قبول الأفراد الذهاب الى الحشود المتظاهرة بمطالب معروفة وواضحة، وتحول تلك الحشود إلى كم اجتماعي وبصري تتذاوب هناك كل المصالح الشخصية والفئوية والانتماءات الطائفية والمذهبية والأقلية أمام وحدة المطالب الاجتماعية لمواجهة سلطة قمعية ما. ولا شك ان هناك حالة نفسية جديدة تتشكل نحو قبول الانخراط في الضمير الجمعي والتعبير عنه بأشكال وصياغات تتطلبها حالة الحشد أو الشعار المرفوع ولائحة المطالب، وهنا يبدأ الجمهور بفرض مطالبه على النخب، وقد تتراجع أمامه في بعض الحالات أكثر الأفكار المصاغة مسبقا في عقل النخب . وهناك تواجه النخب أو الأفراد المرشحين لقيادة الحشود حالة انتصار لديمقراطية الحشد المفرطة بالحماسة والتجاوز على أي قانون يحاول ممارسة الضغوط على الناس من دون قناعتهم. هناك سيمل الجمهور السياسة وسيطلب الى أشخاص تفرزهم الأحداث في التوكل بممارسة القيادة أو التوجيه.
إن الحشود بصمودها ضد وسائل القمع ستمتلك المزيد من الشجاعة يوميا، لتتجاوز القانون المفروض عليها باسم تأكيد الحق ومشروعية المطالب. عندئذ تتضخم الحالة إلى قبول هيمنة الجمهور، وهي الحالة التي أطلق عليها البعض "وصول الجماهير الأسطوري الى سطح التاريخ"، وهنا لا يمكن للنخب أن تفسر حركة التاريخ الجديدة تفسيرا ارستقراطيا او بيروقراطيا وفق إجتهاداتها وإعدادها الفكري والأيديولوجي.
إن الحاضر في تلك اللحظة هو المجتمع المنتفض، وليس الدولة أو السلطة القمعية. كما ان هياج الجماهير هو الإيذان لسقوط ارستقراطية حاكمة وإعلان موتها المحتوم. وعند السقوط، لحظتها تتغير حتى المصطلحات الواصفة للهيجانات والتمردات الى مسميات أخرى: كالانقلاب او التغيير الثوري أو حتى الثورة الشاملة. ذلك هو المعنى الخفي الكامن تحت أجنحة سيطرة الجماهير، أو ما يختفي في مضامين شعاراتها وخطابها الناشد للتغيير الجذري.
إن الجماهير العراقية تصنع اليوم نموذج ديمقراطيتها في الساحات، عندما تحدد مطاليبها وشعاراتها ومن ثم تفرض تسمية ممثليها الناطقين بإسمها؛ وهي بذلك ترشح سلطتها القادمة وتحدد ملامحها، وتمارسها بشكل ديمقراطي وسلمي من دون إكراه وفي وقت مبكر من إستلام السلطة، انطلاقا من ساحات الاعتصام. الجماهير في محافظات عراقية عدة تمارس طموحاتها التي انتزعتها منها السلطات والأنظمة السابقة واللاحقة بفرض آلة القمع والاستبداد عليها، وبفضل وعيها ستصبح الحقوق الاساسية للانسان هي سقف المطالب لمجتمع الانتفاضة وشعبها، ومن دون تحقيقها لا يمكن أن تتحرر النفوس من شعورها بالعبودية والإذلال والخضوع لسلطة غير عادلة. هناك يحس الرجل العادي بأنه مالك لأمره وان الحشود تقترب من الشعور الجمعي بتحقيق المصير لها ولشعبها.
هل يمكن النظر لتلك الحشود انها أقلية تريد التحرر من قيود فرضتها عليها اقلية حاكمة أخرى او حتى لخضوعها لأغلبية نسبية أخرى؟ في عديد الحالات عبرت الأقلية المنتفضة عن شعور جمعي لاسترجاع السيادة والكرامة، ولا شك إن كل حركة اجتماعية، مهما كانت نسبتها المجتمعية ستجر ورائها حشود أخرى، وحتى تسعى الى استقطاب نخب أخرى سواء من الليبراليين والديمقراطيين والتقدميين والقوميين والمستقلين وحتى من المحافظين والرجعيين، طالما أنها تقترب في مطالبها وشعاراتها من أفكارهم ومصالحهم وهمومهم الوطنية العامة.
في داخل الحشد، نجد الوعي بالسيادة والتحرر طاغيا يسكن وعي الإنسان العادي وتسكن فيه ضمير الجمهور المنفلت أيضا، تعطشا للحرية والتخلص من القيود المفروضة عليه. إن هيمنة الجماهير في ساحاتها يمثل منعطفا ملائما نحو التثوير، ما دام فعلها، يعني عند الكثيرين ارتفاعا في وعي المستوى التاريخي كله والمسؤولية الأخلاقية تجاه حالة شعب يعيش ظلما تاريخي، ويتعرض إلى ظرف غابت عن صنع أحداثه وفعاليته الأغلبية الصامتة أو تلك الفئات المنخرطة في قبول المشروع السلطوي الحاكم ومنها القوى المترددة عن الالتحاق بالانتفاضة لحسابات متباينة الاهداف والتكتيكات والحسابات الظرفية.
ملامح عصرنا العربي تشير إلى إمكانية هيمنة الجماهير، وارتفاع مستوى الوعي لديه، عندما تفرز الساحات قادة من نمط جديد. وفي ظل عولمة الحياة لا يمكن تجاهل عوامل مسرعة أخرى للتخمر الثوري القائم في العراق، أو حتى استغفال إستزراع عوامل أخرى للإحباط، بفعل دور الإعلام والتعبئة المضادة والمجندة من قبل جهات متعددة.
كل انتفاضة شعبية، مهما كانت منعزلة عن اهتمامات العالم، فإنها من جانب آخر تجد نفسها داخل " الحدث " العالمي وجزءا من حراكه، لا يمكن تجاهلها إعلاميا وسياسيا ودبلوماسيا؛ لذا على قادة الانتفاضات الشعبية إدراك كل تلك العوامل الداخلية والخارجية وتأثيراتها على مستقبل انتفاضتهم.
كما أن ديمومة التدفق البشري إلى الشارع، ليس مضمونا دائما، وغير خاضع لحسابات المستقبل القريب والبعيد، وفق الحسابات والاحتمالات التقليدية المبسطة والمتفائلة. إن تحاشي النزاع القائم في كل لحظة أو ساعة لا يزال قائما ومرتقبا ومقلقا، كما أن الصدام بات محتملا أيضا، ولا يمكن الهروب من مواجهته؛ فالسلطة المالكية القائمة، تعمل وفق قاعدة دع الزمن يفعل فعله وتهدد بالحرب الأهلية، إحتماء بطائفة تظن انها معها، وهي تفترض بكل لحظة استعمال كل الوسائل للاحتواء أو التمييع للمطالب، أو تصفية قادة التمرد عليها، وتعمل على تهريب وترحيل النزاعات إلى مستقبل يبدو غامضا لها ولغيرها، عندما تشعر بحراجة الإقدام على الحسم العسكري الآني ضد جماهير الإنتفاضة السلمية.
السلطة تعلمت من خبرات القمع السابقة ودروس الانتفاضات الفاشلة في بلدان أخرى، وهي تمني نفسها بدعم طائفي داخلي ودعم خارجي لها عند الحاجة. وفي كل الاحوال فانها تخطأ في تقدير السلطة العامة التي تمتلكها سطوة الجماهير المنتفضة في الساحات، الجماهير المنتفضة، وحتى تلك الصامتة، كلاهما في حالة غضب، ويمكن أن تذهب الأحوال الى ملا يتحمد عقباه،والتحول في ظرف سريع يؤدي الى إشعال شحنة الغضب والاستعداد في استمرار التمرد على السلطة وصولا الى الثورة.
كما أن سيكولوجية الحشود ليست حالة مستقرة، مثلها مثل الحراك الاجتماعي المرتبط بحالة الغضب، ليس ثابتا هو الآخر، ولا تسير الأحوال وفق خطوط تصاعدية ثابتة مع مرور الزمن، فالجمهور الطامح للهيمنة على الحياة العامة والتسيير السياسي لمشكلاته قد يبدو متباينا في مطالباته وفي أشكال استعداداته للسير إلى الأشواط النهائية للإنتفاض، ولكن الأمر يبدو أكثر حراجة في في التناول والتقدير في أذهان القادة الميدانيين ومسيري الاحتجاجات الشعبية. وإذا كان شعار وعبارة: " الجماهير تتقدم"، كما كان هيغل يقول ذلك، وهي نبوءة ظلت مخيفة، عند حالة الترقب لشكل النهايات لكل تمرد او انتفاضة أو عصيان مدني، فهل التوقف عند محطة ما هو فعل عقلاني وواقعي؟ أم إعلان الثورة، كذروة لكل التفاعلات القائمة بات ملحا. إن عصرنا الجديد، وكما بدت ملامحه في كثير من الشواهد عصر ثوري، وان المتفائلين بالثورة يرون أيضا مقولة : " إن التاريخ لا يمكن التنبؤ به هو قول زائف"؛ فقد تم التنبؤ به لمرات عديدة وبحالات لا تحصى، واثبت الإقدام على الفعل الثوري أنه ليس إنتحارا أو الخروج من حالة يأس لحظية؛ بل إنه تحقيق لأماني المتفائلين من ذوي العزيمة الثورية وتنفيذ لأفعال المغرمين بمجد المستقبل. لهذا رفعت الحركات الثورية شعارها العتيد في كل ساحات الثوار والمعارك التحررية الوطنية: إلى الأمام... ولا تراجع.. وكتبت ذلك في أول شعاراتها التعبوية بين الحشود المستعدة للتضحية وإحداث التغيير المطلوب.
كما ان انعدام تكافؤ الفرص وعدم تساوي القوة والسلاح بين الثوار وقوى السلطات الحاكمة، ايا كان نوعها، لم يوقف الثوار عن تحقيق أحلامهم، وتلك قاعدة أخلاقية متكررة لدى كل فصيل أو جماعة ثورية تنشد التغيير وتسعى إليه. لقد مر القرن العشرين، وهو يسجل شواهد كبرى وهامة لانتصارات حركات التحرر الوطنية والجماعات الوطنية الساعية الى التحرر، ولم نشهد عقدا واحدا منه توقفت عنده عجلة التغيير والانقلاب والثورة على الواقع والسعي الى الانتفاض ضد مظالمه. وقد سجلت شعوب كثيرة انتصاراتها وعندها سجلت وثبتت مبدأ أساسيا لسر نجاحاتها عندما انطلقت من: وحدة الهدف ووحدة الشعب ووحدة الهدف، وأضافت له من تجاربها المريرة، عاملا رابعا وهاما وضروريا هو وحدة القيادة.
إن وحدة القيادة تتويج لحالة كمال التنظيم الثوري المنشود، سواء عبر قيادة ميدانية عملياتية، أو التعاقد في تحالف وطني واسع أو التوصل الى جبهة وطنية. أما الجماهير المحتشدة، فهي غالبا ما تكون حاضرة ، تحدد حضورها حالتها النفسية واستعدادها للتضحية، وقد تبدأ تلك الجماهير بالنزول إلى سوح المعارك الوطنية وتنخرط في المظاهرات والمطالبة بالحقوق، بدءا بمطالبتها بتحسين أوضاعها المعاشية، او تطلعها الى تحسيت أوضاع حياتها، وحتى حقها في الرفاه والتمتع بثروات بلدانها، وعند شعورها بالمذلة والظلم والإهانة من قبل سلطان جائر او إجراءات حكومة متسلطة، وفي كل تلك الحالات تلك حقوق طبيعية ينشدها الفرد وتطالب بها الحشود أيضا وسيجد كل منهما صداه عند الآخر في أول صيحة أو إحتجاج. يمكن لمظاهرة تنطلق من اجل رغيف الخبز، كما في تونس ومن الشعور بمظالم التسلط الدكتاتوري، كما في مصر، أو الشعور بتجاهل الحقوق لجماهيرها في الإصلاح السياسي، أسوة بشعوب أخرى، كما في مصر واليمن لتنتهي كل تلك الحالات الى ثورات وعصيان وتمردات، يمكن تجاوز حالات الانحراف المحتملة بها؛ لو توفرت لها القيادة التاريخية المؤثرة على الشارع ولكفائتها في العمل الثوري معه.
إن الوسائل للتغيير في العراق باتت واضحة، وسقف المطالب سيبلغ ذروته، فلكل حالة غليان لا تنتهي بصفقة مع السلطة أبدا؛ طالما لم تخلص السلطات لمبدأ قبول التغيير والتناوب على السلطة بالطرق الديمقراطية الحقيقية، وعندما تتصلب تلك السلطات ضد حقوق مواطنيها، بل وتتمرد تلك السلطات على أبسط حقوق مواطنيها الا وهي المساواة والعدالة والخدمات، فان المطالبين بالأمس بتوفر الرغيف والكهرباء والبطاقة التموينية سيذهبون الى حرق المخابز ومخازن وزارة التموين وخرابات المحطات الكهربائية المعطلة والمطالبة برأس النظام وإزالة سلطاته كلها بما فيها العملية السياسية ودستورها المعوق.
وفي العراق تتخمر كل الظروف للذهاب إلى عنف محتمل، بدأت به السلطة برصاصها في صدور المتظاهرين، وبشرت به ومارسته قتلا واغتيالات واعتقالات غير مؤسسة، رغم ضبط النفس لدى الشارع المنتفض؛ فمنذ ثلاثة أشهر ونصف وقبلها عشرة سنوات تحمل العراقيون أبشع ممارسات القمع والكبت والإذلال والتسلط والتبعية للأجنبي واحتلاله العسكري. وإن أجيالا أخرى من أبناء العراق عاشت وتعيش تحت واجهات من الأمال بتحسن الأوضاع وفي تحسين اوضاعها الاجتماعية والسياسية، لكنها اصطدمت بحواجز من جدران القمع والسجون والتهجير والعراقيل أمام تطلعاتها المشروعة والانسانية؛ فلم تعد تسمع بعد الوصايا والمناشدات والتعقل، والشارع يمتلئ بالشباب الذي قطعت أمامه كل الطرق نحو المستقبل، وهو ليس جمهور تقليدي يخضع دائما للمعقولية غير المنطقية في الإنتظار لغد، لم يعد مجهولا لأحد، وأمام التفرد في السلطة والاستحواذ القسري على المستقبل باقصاء الوطني الآخر بكل الوسائل. باتت المدرسة والجامعة والوظائف، بما فيها الانخراط في الجيش والقوات المسلحة والشرطة، مؤممة لطرف معين، كما أن روائح التعفن للفساد المالي والإداري وسيادة منطق التسيير المافيوي وتكريس المحاصصات ألغى كل أمل وفكرة للوصول عبر الصندوق الانتخابي إلى السلطة أو حتى ضمان تنفيذ الحقوق واستحقاقاتها لدى أكثر من جيل عراقي عاش ويعيش مأساة الحروب والحصار والغزو والاحتلال والعملية السياسية العرجاء.
إن حالة الوضع النفسي والاجتماعي للجماهير التي كسرت حاجز الخوف، ونزلت إلى الشارع في التظاهرات، وبعدها في الإعتصامات سيدفعها الى التمرد نحو إعلان حالة العصيان المدني وحتى الثورة مهما كانت التضحيات. ولا يمكن أن يتوقع احد أين ستبدأ الاحداث العاصفة ومتى ستكون وماهي حدود الثورة ومساحاتها وحجم قواها الاجتماعية وتوجهات نخبها الفكرية المشاركة في الفعل الثوري.
ويقينا إن الظرف الذي تتخمر فيه الانتفاضة العراقية يبدو متسارعا؛ رغم التململ الطويل الذي يشعر به البعض في التحاق بقية المحافظات العراقية إلى التظاهر والاعتصام؛ أسوة بمحافظات الشمال والوسط والعديد من محلات بغداد الشعبية المحاصرة.
وفي غمرة الانشغالات المفتعلة اعلاميا وتعبويا في عمليات التحشيد الواسعة بحجة التحضيرات للانتخابات المحلية فان بعض القوى السياسية التي تجندت في المشروع الأمريكي المقترح في العملية السياسية وباركت دستوره، ستحصد بلا شك هزيمتها السياسية المنتظرة أمام قوة ووسائل وخبرة التزوير السلطوي، وانتشار المال وتوزيع الرشى الانتخابية والتصعيد الإعلامي المجند في عشرات الفضائيات لصالح السلطة وحزبها وإئتلافها الحاكم . لهذا فان جمهورا لا يمكن تجاهله منتظرا أيضا منه لالتحاق بالتظاهرات الشعبية في عديد محافظات الجنوب وبغداد والوسط؛ خصوصا إن مطالب الحركة العمالية العراقية، وخاصة في قطاعات النفط والقطاعات الخدمية وبعض الوزارات والجامعات العراقية ومنظمات الطلبة كسرت حاجز الخوف والرهبة من السلطة ومليشياتها وتحولت جميعها من حالات المناشدة ورفع المطاليب إلى الإضراب والى الاعتصام والى التفكير النهائي باستحالة التعايش مع سلطة قمعية مافيوية تستخدم الإسلام السياسوي والمذهبية في فرض نظام ثيوقراطي رجعي ومتخلف ومتناقض حتى بين شعاراته حول تمسكه الكاذب بالديمقراطية وتمسكه الدموي بالسلطة ونفوذها، إضافة الى ارتباطاته برجال الدين والمرجعيات المسيرة لكياناته من داخل وخارج العراق.
ان السلطات الاجتماعية الموظفة الآن في دعم السلطة الدكتاتورية لحكومة المالكي، من شيوخ عشائر وحوزات دينية ومراجع ورجال دين ، وعوائل وكيانات سياسية، تخلت عن الجانب الأخلاقي والعرفي لها أمام وبدت في سلوكها العام انتهازية المواقف من خلال التهالك على اكتساب الأموال وقبول الرشوات والصفقات وإعلان الدعم بهذا القدر أو ذاك لسلطة باتت معزولة تماما من قبل المجتمع العراقي ونخبه السياسية والاجتماعية والثقافية والعلمية ذات التوجهات العراقية الوطنية.تلك السلطات الاجتماعية سوف تخسر نفوذها وتسقط أمام خيار المواطنة والمساواة والوطنية والهوية العراقية.
إن جمهور اليوم في الساحات أو في البيوت وبمواقع العمل ينتظر إشارة التغيير المنشود، ليس على طريقة الانقلابات العسكرية وانتظار صدور البيان الأول؛ بل عبر حوار وطني تتقدمه نخب وطنية نظيفة الماضي والحاضر أو الثورة العاصفة.
وسوف تكشف الأيام القادمة، وبسرعة إن حالة الملل والتململ السائدة هنا وهناك لن تدوم، ولا يمكن تحييدها أو تأجيلها إلى الأبد بقوة القمع والمال والإعلام . وقد يرى البعض من أعلى قصورهم وأبراجهم العاجية: أن هناك حالة سوقية تسود حركة الشارع مندفعة بتحريض ما يمكن امتصاصه أو احتوائه، أو حتى قمعه، وهذا قصور ما بعد قصور وسذاجة سياسية وجهل أعمى في معرفة تاريخ العراق والعراقيين.
وعندما تراجعت النخب نحو الانكفاء والصمت او التواطؤ فان حركة الشارع العراقي بدت متقدمة ومنظمة ومنضبطة وهي تعرف ما تريد، مدركة كيف تسترجع حقوقها بكل الوسائل المتاحة بيديها.
وكل ما سيحدث سلما او عنفا ، متوقع ويجب ألا يغيب عن بال اي عراقي وعراقية. وعلينا حسم الامور بأقل الخسائر المادية والمعنوية، ولا نضيف جراحات جديدة في جسد العراق المدمي أصلا بكل الجراحات، فما سيحدث ليس تناقضا اجتماعيا أو خلافات سياسية، بل هي قضية جدلية طبيعية مرت بها شعوب عديدة عندما يطفح الكيل وتصل حالة التخمر الثوري مداها، عندما ستندفع النخب والقيادات نحو الفعل الثوري تحت سطوة تمرد الجماهير المطردة.
حتى هذه اللحظة تمسك الجمهور المنتفض بالضوابط العامة والنصائح بالتعقل وسلمية التظاهر، لكن الاستفزازات والقمع والإعدامات المتهورة والإغتيالات ضد النشطاء ورجال الدين والمعارضين وتجاهل المطالب ستعجل من سرعة الانفلات في عموم العراق. وما لم يتم التحكم بالأحداث بادراك ومسؤولية وطنية فان الثورة قادمة من كل محافظات العراق، بما فيها كردستان.
* الأمين العام لهيئة التنسيق المركزية لدعم الانتفاضة العراقية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق