محمد قواص
خرج الرئيس نجاد من السباق الرئاسي المقبل، لأن الدستور لا يسمح له بالترشح لولاية ثالثة، وتولت إجراءات الردع، إبعاد الأسماء الإصلاحية التي اشتهرت في انتخابات 2009 عن ذلك السباق.
الانتخابات إذن، تجري ضمن معسكر المحافظين تقريبا، وتحت رعاية مرشد الجمهورية الإسلامية علي خامنئي. وعليه فإن الانتخابات محسومة النتائج، عليها تنعقد رهانات، وإليها تنشدّ الأنظار لتحري صورة إيران واستشراف ملامحها القادمة.
عشية معركة الانتخابات، لا جلبة توحي بجدل يكشف تعارض الأفكار والبرامج، أو يعرض تباينات المزاج النخبوي للطبقة السياسية الإيرانية. الورشة تجري داخل الطبقة الحاكمة، والحراك يسير وفق أولويات المرجع، واللاعبون على مسرح التنافس قد لا يحيدون عن سيناريوهات ومناورات الوليّ الفقيه.
لا يندرج الصراع الداخلي حاليا بين معسكر إصلاحي يروم إطلاق ورشة لـ»ترشيق» الجمهورية، ومعسكر محافظ يدافع عن الخمينية –الخامنئية وتداعياتها. لكن الضجيج الخافت داخل أروقة السلطة ينشط حول اختيار رئيس يتكامل ولا يتناقض مع الوليّ الفقيه في السياسات والموقع ومستقبل ولاية الفقيه برمتها. تجربة الانتخابات الأخيرة كانت مريرة بالنسبة للمرشد لتطاول المعسكر الإصلاحي على المقام وشخص الوليّ وعلى نظرية الولاية وجذورها. وكانت مريرة أيضا في تمرد الرئيس المنتخب نجاد على المرشد نفسه لاحقا، وخوضه معارك مناكفة لسلطة خامنئي وخياراته.
نظرية ولاية الفقيه التي أفتى بها الإمام الخميني، شيّدت بالفقه والشرع عماد هيمنة المؤسسة الدينية، ومرشد الثورة على كامل الحياة السياسية في البلاد. تخلّصت إيران من ديكتاتورية الشاه، مع ما تمثّله تلك الديكتاتورية من مصادرة للشأن العام لصالح رأس السلطة، ولم يحمل النظام البديل الديمقراطية التعددية على الطراز الغربي بديلا. صحيح أن المحاولات الأولى سعت إلى تلّمس الطريق من خلال تحري إقامة حكم مدني، بيد أن الخميني أطاح بكل ذلك حين تقدم بنظريته حول ولاية الفقيه، والتي فتحت الباب أمام قمع وطرد وإبعاد من يحاول أن يحول دون ذلك.
بقيت ولاية الفقيه مثار جدل عند الشيعة أنفسهم ولم تحظ نظرية الخميني بإجماع فقهي (حتى داخل إيران)، وبقي جانب أساسي من مراجع الشيعة لا يؤمن بالنظرية، بل ويشكك بإسلاميتها. والمفارقة أن الاعتراض على ولاية الفقيه لم يعنِ معارضة للجمهورية الإسلامية. بمعنى آخر، قبلت المراجع الشيعية أو أكثرها، بنظام الجمهورية الإسلامية ودور طهران الإقليمي والمذهبي، لكنها لم تتح لولاية الفقيه تأييدا يُنهي الجدل ويحوّل الأمر إلى مكتسب نهائي في تاريخ الفقه الشيعي.
تهدف الانتخابات إلى وقف النقاش الإيراني الداخلي حول ولاية الفقيه، أو تأجيله في أسوأ الأحوال. فإذا ما استثنينا (في غياب الإصلاحيين) سعي الرئيس نجاد لتسويق مرشحه (مشائي)، وبالتالي تسويق هذا النزوع المستجد لمناكفة المرشد، فإن بقيّة الأسماء المتداولة لا تبتعد كثيرا عن موقع الوليّ، ولا تمثّل تناقضا مع ولاية الفقيه، بل على العكس فإن رياح المرشحين تنفخ في أشرعة ولاية الفقيه، وقد يروق لبعضهم الطموح إلى منافسة المرشد الحالي على موقع الولاية بصفتها حجر الزاوية للنظام السياسي للجمهورية في الراهن والمستقبل.
وربما أن الجدل الدائر حالياً ليس على الهوية الفكرية للمرشحين على ما راج عام 2009، بل في ما إذا كان الرئيس المقبل سيكون عسكريا أو مدنيا أو معمما. وفي هذا التفصيل قد تكمن الدينامية المتبقية لانتخابات حزيران المقبل.
يدور همس في طهران أن المرشد لا يحبذ حمل معمم إلى رئاسة الجمهورية، ويقول العارفون أن الرجل لم يكن يملك في التسعينيات نفوذا يبعد من خلاله علي أكبر هاشمي رفسنجاني ومن بعده محمد خاتمي عن سدة الرئاسة. وقيل أن خامنئي لم يتحوّل إلى دعم نجاد عام 2005 إلا لإبعاد رفسنجاني عن تبوء المركز لفترة ثالثة، وقيل أيضا أن المرشد لم يضطر لدعم نجاد عام 2009 إلا ليمنع مير حسين موسوي من أن يصبح رئيسا.
لا يمكن للمرشد أن يتقبل فكرة التعايش مع رفسنجاني أو خاتمي في موقع الرئاسة، ولا طبعا مع ووزير الداخلية السابق عبد الله نوري (قضى خمسة أعوام في السجن لانتقاده المرشد والنظام). خامنئي يعي أن احتمال وصول أحد هذه الأسماء يشكّل تهديدا لنفوذه وإطاحة محتملة بولاية الفقيه برمتها.
هذه المرة وإذا ما اضطر المرشد أن يناور ضد المرشحين المعممين، فقد يدعم خوض المعمم حسن روحاني غمار الانتخابات لدفع خطر المعممين السابقين. وفي ذلك دفع للبرنامج النووي ليكون بيرق فخر يقوي من حظوظه. قاد روحاني المفاوضات النووية في ظل حكم رفسنجاني وخاتمي، وهو رجل دين من الفئة المتوسطة يفتقر إلى مكانة رفسنجاني وخاتمي ونوري، على نحو يسمح للمعممين بالحفاظ على قبضة محكمة على كافة مناحي البرنامج النووي الإيراني.
لكن المرشد يعتمد أيضاً على معسكر أصولي من المرشحين يضم علي أكبر ولايتي وغلام علي حداد عادل ومحمد باقر قاليباف. علي أكبر ولايتي ترأس دبلوماسية بلاده لـ 17 عاما، قبل أن يصبح مستشارا مقربا من المرشد يحظى بثقته، لكن المشكلة أن أمر اعتقال دولي صدر ضد ولايتي من قبل المحكمة الجنائية ببرلين بتهمة التورط في قتل أربعة أكراد إيرانيين هناك في 1992. أي أنه سيكون رئيسا مطلوبا حال فوزه.
أما محمد باقر قاليباف، فهو محافظ طهرا، عمل قائدا للقوات الجوية في الحرس الثوري الإيراني، ثم اختاره خامنئي في عام 2000 ليشغل منصب القائد العام لقوات الأمن في إيران، وبالتالي يملك الرجل تمثيل الحرس الجمهوري أيضا.
أما غلام علي حداد عادل، فهو عضو مجمع تشخيص مصلحة النظام ورئيس سابق للبرلمان الإيراني ويعمل عضوا في البرلمان منذ دورته السادسة وحتى الآن، وهو أيضا من المقريين من المرشد.
ومن الأسماء المطروحة أيضا والتي تتسق مع توجهات المرشد يبرز اسم علي لاريجاني، وهو صاحب مناصب وزارية وإدارية متعددة، يجمعه مع مرشح آخر، بدأ يبرز اسمه، وهو وزير الخارجية الأسبق منوشهر متقي، العداء لأحمدي نجاد. والاسمان يتقدمان بصفتهما أسلحة كيدية في يد المرشد بوجه نجاد وطموحاته. لكن هل من مرشح للعسكر في إيران؟
رغم ابتعاد العسكر عن موقع الرئاسة تاريخيا، بدأت أصوات تعلو مطالبة بأن يتحمل الحرس الثوري تلك المسؤولية في الضوء بدلَ الدور الذي يلعبه في الظل.
وتستند تلك الأصوات على مسلّمة أن رأي الحرس الثوري إلزامي وكفته ترجّح مسار المؤسسات بما فيها مؤسسة الوليّ الفقيه. وفق ذلك يحاول كل من قاليباف، والجنرال محسن رضائي تمثيل الحرس في السباق.
محسن رضائي شغل منصب قائد الحرس الثوري الإيراني قرابة ستة عشر عاما وهو الأمين العام لمجلس تشخيص مصلحة النظام. ترشحه هذا هو الثالث لمنصب رئاسة الجمهورية (بعد انتخابات 2005 و2009)، لكن الأضواء تتجه أيضا نحو الجنرال يحي رحيم صفوي المستشار العسكري للمرشد، وهو عسكري قد يرضي توليه الرئاسة العسكر والولي.
انتخاب رئيس للجمهورية في إيران يبقى حدثا غير عادي، رغم أن صلاحيات رئيس الجمهورية محدودة ومقيّدة بصلاحيات المرشد. وفي تناول تلك الانتخابات يأخذ التحليل شكل السرد والتوصيف، ذلك أن ضبابية ما زالت تغشي الأبصار وتحرم المراقب من استشراف معركة حقيقية كتلك التي خيضت منذ أربع سنوات. لكن تلك البلادة الراهنة قد لا تفسر كل شيء، وقد تحمل الأسابيع المقبلة مفاجآت متأثرة بربيع العرب، أو أخرى قد تخرج بها كواليس الحكم، أو ثالثة لم يفصح عنها بعد مزاج الشعب الناخب.
ملاحظة:
نشر المقال هنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق