القس لوسيان جميل
اعزائي القراء
الكلام عن الوحدة له بداية، لكن ليست له نهاية، بسبب اهميته في كافة المجالات الاجتماعية والإنسانية والدينية. وقد يحتاج الكلام عن الوحدة صفحات كثيرة لكي يوفي الكاتب حقها، ولكن ليست بيدي غير ست او سبع صفحات يجب ان احاول ان اقول فيها شيئا مهما عن الوحدة والشعار البطريركي.
ويقينا ان البطريرك الجديد لا يحدد مجال شعاره ومداه، غير اني انا الذي احدد مدى هذا الشعار في مقالي، لكي لا يدخل الكاتب والقراء في متاهات يصعب الخروج منها. ولذلك اقول لقرائي الأعزاء بأني لن اكتب عن وحدة المسيحيين السياسية، لأن هذه الوحدة ليست سوى خيال Chimère، لا يمكن تحقيقه، وحلم من احلام المضللين السياسيين الذين يعملون تحت توجيه وقيادة المحتلين، وهذيان سكارى لا يعرفون ماذا يقولون، ظنا منهم ان الوحدة تحت الخيمة الأمريكية هي المطلوبة، باسم قومية تافهة او بأي اسم آخر.
كما اني لن اكتب شيئا عن وحدة الكنائس ووحدة مذاهبها ووحدة خطابها الخارجي او الوطني، لأن ذلك سيبعد مقالي عن اهدافه كثيرا. ولهذا اقول بأن كلامي في هذا المقال سيقتصر على وحدة الكنيسة الداخلية وليس على غيرها.
الوحدة مع الذات هي البداية: بخلاف ما تفعله مدرسة علم النفس السلوكية Le behaviorismeالتي تركز خاصة على سلوك الانسان comportementوليس على وعيه الوجداني Conscienceنرى مع البنيويين بأن الذات او الأنا Ego، تجمع جميع ابعاد الفرد المادية والروحية، الحاضرة والماضية والمستقبلية. فالذات توحد الانسان الفرد في منظومة واحدة باحتوائها عالم الانسان كله، حيث يستحق الانسان ان يدعى بالكون الصغير،او الكون المصغر Micro cosmos. وعليه وبحسب هذا المنظور الذي هو انثروبولوجي اكثر مما هو فلسفي، تعني وحدة الفرد نوعا من الانسجام بين ذات الانسان، اي بين مركز منظومته، وبين كل بعد من ابعاد هذا الانسان. كما تعني كثيرا من الانسجام بين جميع ابعاد منظومة الفرد البشري التي تنظم حياته. اما بلغة دينية فيقال بأن المطلوب هو ان يكون هناك نوع من الانسجام والوحدة بين ارادة الرب والإنسان، هذا الانسجام الذي نقول به، نحن ايضا، بلغتنا الأنثروبولوجية، لأن الرب بحسب هذه المنهجية، بعد اساسي مقدس في حياة الفرد الانساني، دون ان نقع فيما يسمى بالحلولية Panthéisme او فكرة التصوف Mysticisme المبنية على الانطولوجيا ( الكينونة ) وليس على الأنثروبولوجيا. وفي الحقيقة نحن لا نستغرب، عندما يستعين الانسان بلاهوته، لكي يبني وحدته الذاتية بناء سليما، ولاسيما اذا كان هذا اللاهوت مبنيا على العلوم الانسانية، غير ان هذا الانسجام الداخلي بين الذات وأبعادها كان ولا يزال شأنا يعتمد على خبرة الآباء الروحانيين الوجدانية، هذه الخبرة التي ينقلونها الى العالم، من باب الاقتسام الايماني والروحي، وعلى قاعدة الأواني المستطرقة، حيث يأخذ كل من خبرة الآخرين وسعه.
وحدة الكنيسة مع ابعادها: تكلمنا عن وحدة الفرد الانساني مع ابعاده، وقلنا ان هذه الوحدة تكمن في التنسيق الجيد بين ابعاد الانسان المختلفة وبين ذات الفرد، اما الآن وبحسب القاعدة نفسها نقول بأن وحدة الكنيسة تكمن في التنسيق الجيد بين ابعاد الكنيسة ومنظومتها وبين الأبعاد المختلفة الخاصة بالكنيسة فيما بينها، في وقت يكون غياب هذا التنسيق مخالفا لوحدة الكنيسة، ومخالفا لأية وحدة اخرى، اذ حيث يغيب التنسيق يحل التمزق والتفكك والانحلال.
الهدف الايماني صانع الوحدة: فضلا عن ذلك، لابد ان نؤكد على ان اي تنسيق يتطلب وجود " هدف مشترك " تسعى اليه جميع الأبعاد، كل بعد بحسب طبيعته الخاصة، ويتوجه اليه الجميع بخط تتجه نحوه Se convergent كل الأبعاد، لكي لا يشذ اي بعد عن هذه القاعدة، فيصبح هذا البعد معطلا للوحدة وثقلا عليها. ويقينا ان من يوحد الكنيسة، ليس اي هدف ايماني كان، وإنما يوحدها هدف ايماني يشكل نقلة انسانية وروحية في حياة الانسان، سميت بأسماء مختلفة مثل الخلاص والحياة الجديدة وحياة البنوة الالهية والولادة من علُ الخ,,, اما هذه الحياة الانسانية الجديدة التي بسببها دعي الانسان ابنا لله، وبسببها ايضا اصبحت جماعة المؤمنين قلبا واحدا وروحا واحدة ( أعمال الرسل 4/ 32 ) فتنعشها وحدة الهدف ووحدة المحبة، الى الدرجة التي حدت بجميع المؤمنين ان يضعوا كل ما يملكونه في خدمة الجماعة. ومن هنا نستنتج بأنه حيث لا يوجد مثل هذا الهدف الذي يوجه نحو حياة جديدة ونحو تطبيق قواعد هذه الحياة الجديدة وسلوكيتها، لا توجد كنيسة إلا بالمعنى المادي الظاهري فقط، حيث ان اي بديل لهذا الهدف الايماني المذكور غير كاف ليجعل اية كنيسةٍ كنيسة حقيقية.
خطورة ما جاء اعلاهلكنيستنا: طبعا ان ما اقوله خطير جدا ومحزن، ولكن ما العمل؟ ان غياب القضية الايمانية الحياتية المحددة هو السبب الرئيسي لتفكك كنيستنا وانحلالها، وان بدائل القضية الايمانية الحياتية المحددة غير كافية، مهما طبلنا وزمرنا لها ومهما حاولنا تجميل طقوسها. فالشجرة في الحقيقة تعرف من ثمارها، والكنيسة الحقيقية تعرف من اعمالها. علما بأن كنيستنا المشرقية، وعلى الرغم من اتحادها بكرسي روما، وعلى الرغم من الشهادات العلمية التي يملكها كثير من رجال دينها، بقيت كنيسة منقسمة على ذاتها ومفككة تظهر عليها علامات الفشل، هذا الفشل الكارثي الذي بدا واضحا على كنيستنا منذ يوم 9- 4 - 2003 بعد ان فضلت ارضاء البشر على ارضاء الله، في جميع خياراتها المركزية والمحلية، والذي ظهر ايضا في حياة الكنيسة الجامعة، ليس فقط منذ احتلال العراق، بل منذ ظهور النظام العالمي الجديد، هذا النظام التعسفي الذي دخل الكنيسة الجامعة اولا وأشاع فيها العبثية والجمود، ودخل كنيستنا الملقبة بالكنيسة الكلدانية، وأعاد عجلتها الى الوراء، وجعل منها كنيسة سلطوية عوضا عن ان تكون كنيسة حوار واحترام لحقوق مؤمنيها الانسانية والإيمانية.
تعريف سلبي لوحدة الكنيسة: نظرا لقدرتنا على معرفة ابعاد وبنى المنظومة الكنسية فإننا نستطيع ان نعرف ايضا حقيقة هذه المنظومة ونعرِّفها تعريفا جيدا. ولكن الآن نبدأ بتعريف هذه الوحدة الكنسية تعريفا سلبيا فنقول: ان الوحدة هي عكس الانحلال او التفكك، وهي عكس الموت، لأن الموت يعني الانحلال ايضا، كما ان الوحدة هي عكس التجزئة وعكس الانقسام والانفصال والتشرذم، والوحدة هي عكس التنافر والتنابذ والتناحر والأنانية، كما ان الوحدة هي مع الروح الجماعية خلافا للروح الفردية التي تسيء عادة لكثير من المشاريع الصالحة. علما بأن مخالفات الوحدة هي اكثر بكثير مما ذكرناها في هذه الفقرة. اما التعددية فلا تتعارض مع الوحدة بل تؤكدها وتظهرها بأبهى صورتها، في حين ان وحدة الانتماء ليست وحدة سوى بالظاهر، وإنما هي شبيهة بالوحدة حسب، ولذلك نشبهها مع الانجيل ببيت مبني على الرمل، ما ان تهب الرياح وتأتي السيول وتصدم ذلك البيت حتى يسقط، ويكون سقوطه عظيما. وهكذا تكون الوحدة المبنية على المصلحة الخاصة والوحدة المبنية على الخوف، اي خوف كان، والوحدة المبنية على الابتزاز والوحدة المبنية على سطوة رجال الدين وغسلهم لأدمغة الرعاع والبسطاء، والوحدة المبنية على التعصب الديني او المذهبي او الطائفي، او العرقي، وحدة مزيفة يكون شرها اكثر من خيرها، خاصة وان مثل هذه الوحدة تشبه وحدة العصابات.
مساحة وحدة الكنيسة: من المؤكد ان وحدة الكنيسة واسعة جدا، بسبب الأبعاد الكثيرة التي تدخل في منظومة الكنيسة. فالكنيسة ايمان والكنيسة دين وهي لاهوت وروحانية، والكنيسة طقوس وسلوكية وخيارات انسانية، كما ان الكنيسة تاريخ ومؤسسة تتصف بطابع بشري ضعيف، كما تتصف بطابع روحي مقدس، الى الدرجة التي يمكن ان نقول عن الكنيسة انها فوق الزمن وأنها من جانب آخر في قلب الزمن وقلب الصراع الجدلي والتغيير الحضاري والتاريخي المستمرين.
البنيوية ووحدة الكنيسة: بما ان البنيوية هي التي تشرح لنا حقيقة الكنيسة وحقيقة وحدتها، كما تقدم لنا تفسيرا لانحلال وتفكك وحدة الكنيسة، وبما ان وجود الايمان في الكنيسة هو سبب رئيسي في وحدتها، ينتج عن ذلك ان اي ضعف او خلل في ايمان الكنيسة انما يتسبب في ضعف وحدة الكنيسة وضعف وحدة فعاليات ابنائها الايمانية، وضعف في ممارسة دينها، حيث يصير اي بديل هنا عديم الجدوى حقا. ففي الحقيقة لا الخلاص في العالم الآخر ولا الطقوس المزركشة والعاطفية ( زرق ورق وعتائق )، ولا التمسك بالشريعة والوصايا، ولا القدسية المزيفة التي تنسب الى الكنيسة وطقوسها، يمكن ان توحد حولها الناس. فما لا يوحده الله، اي لا يوحده هدف انساني يكون بجانب الحقيقة والعدل والحياة الجديدة، لا يمكن ان يوحده البشر بألاعيبهم البشرية السقيمة وبخطابهم المبني على كلام اجوف. اما اذا قلنا بأن اللاهوت العلمي الجيد يمكنه ان يوحد الناس، فذلك بسبب المساعدة التي يمكن ان يقدمها مثل هذا اللاهوت للإنسان، لكي يطمئن قلبه، كما تقول فقرة من آية قرآنية جليلة، في حين ان اللاهوت الفلسفي، وكل منهجية لاهوتية مبنية على الفكر الغيبي لا يمكنها سوى ان تفكك وحدة الكنيسة ووحدة مؤمنيها. وعليه يكون اي افراط في الاعتماد على العقائد ومصطلحاتها Dogmatisme او الافراط في الاعتماد على الشرائع Légalisme أدوات التعسف الاكليروسي، او الاعتماد المفرط على التقوى العاطفية الفارغة Piétisme او الاعتماد المفرط على الطقوس Ritualismeالتي اصبحت رحى تدور وتصنع ضجيجا، دون ان نرى فيها طحينا، انما يفكك الكنيسة على المدى البعيد ولا يوحدها. علما بأن وحدة الكنيسة ليست امرا جاهزا، وإنما تكتسب شيئا فشيئا على مر الأجيال، كما انه مطلوب من الكنيسة ان تجتهد في كل زمان ومكان في ان تخلق البيئة الصالحة لديمومة الوحدة ولتقدمها المستمر.
مواطن خلل أخرى: غير ان العقائد وما ينتج عنها ويشتق منها، مما ذكرناه، ليس العقبة الوحيدة في سبيل الوحدة، ولا هي المسبب الوحيد للتجزئة والتفرقة، وإنما هناك ابعاد كنسية كثيرة يمكن ان تشكل خللا في المنظومة الكنسية، مثل البعد القومي او المذهبي او الطائفي، وحتى المناطقي احيانا كثيرة. اما الحضارات والعقليات او الذهنيات المختلفة فقد تكون سببا لسوء تفاهم كبير بين ابناء الكنيسة، فتعيق الوحدة الداخلية في الكنيسة. يضاف الى ذلك خلاف الأجيال، والخلاف القائم بين الشرق والغرب، وبين عالم الأقوياء وعالم الضعفاء ( العالم الثالث )، وبين المجددين والمحافظين وبين انصار العقائد وأنصار العلوم الانسانية التي يراد لها ان تشكل الكلمة الفصل في جميع الخلافات. علما بأن بعض هذه الخلافات يمكن ان يؤثر على وحدة رجال الدين الكنسيين انفسهم. مع تأكيدنا على ان ما ذكرنا من مجالات التقسيم والتفكك ليس إلا جزءا يسيرا من الواقع الحقيقي المتنوع بقدر تنوع الانسان، والمسبب للتنافر وللصراع أحيانا كثيرة.
مجالات الوحدة الكنسية: اذا بدأنا بذكر هذه المجالات من المستوى الأدنى الى المستوى الأعلى فإننا نذكر وحدة المؤمنين مع رعاتهم ( القسس )، حيث ان هذه المرحلة هي اصعب مراحل الوحدة الكنسية، بسبب اختلاف وتعددية أمزجة القسس وأمزجة المؤمنين وحاجاتهم الحقيقية. مما يقتضي اعداد القسس اعدادا روحيا خاصا، وليس اعدادا لاهوتيا وكتابيا فقط. فالخورنة تعتبر الحلقة الأولى والأصغر في الكنيسة، وفيها، وعن طريق قسسها يتم الاتصال بين الكنيسة وبين القاعدة المسيحية، هذه القاعدة التي لها حاجاتها الكثيرة وغير النمطية التي يجب اخذها بعين الاعتبار، على ضوء العلم والمبادئ الايمانية العامة، وليس على ضوء اي مبادئ أخرى.
الحلقة الثانية: اما الحلقة الثانية فهي الحلقة التي تجمع قسس الخورنات في ابرشية واحدة يرأسها الأسقف ( المطران ) ويتحمل مسؤولياتها الكثيرة، تجاه الجماعة المسيحية في الأبرشية وتجاه القسس الذين يقعون تحت مسؤوليته، حيث يجب ان تستخدم هذه المسؤولية هي الأخرى على ضوء العلم والمبادئ الايمانية العامة، وحيث يجب ان يسود روح الايمان اكثر مما يسود روح السلطة والقانون، في حين يجب ان تكون اولويات الرسالة الايمانية في مقدمة كل الأولويات الأخرى. علما بأن هذه الحلقة هي اسهل من الحلقة السابقة، ولاسيما اذا شاع روح الاخاء والتعاون والمحبة بين القسس انفسهم وبين القسس وأسقفهم، كون الجميع بثقافة دينية متقاربة. علما بأن الخلاف يمكن ان ينشأ هنا احيانا كثيرة بسبب اختلاف جيل القسس مع مطرانهم، او بسبب تصلب الرئيس في آرائه ونقص امكانية الحوار لديه مع قسسه، ولاسيما اذا كان المطران يحمل عقلية لاهوتية شبيهة بعقلية رجال دين القرون الوسطى الذين اقتبسوا عقلية سلطتهم التعسفية من رجال اقطاع تلك القرون، او اقتبسوا كثيرا من اخلاقياتهم من اخلاقيات السياسيين في زمننا السيئ الراهن، هذا فضلا عن خلافات يمكن ان تنشأ احيانا حول بعض الامتيازات يحتفظ بها المطران لنفسه، او يعطيها لهذا او ذاك بشكل اعتباطي ومزاجي.
الحلقة الثالثة: بعد هذا نتكلم عن الحلقة الثالثة التي توحد كنيسة المشرق الكاثوليكية الملقبة بالكنيسة الكلدانية بشخص البطريرك الذي يجتمع حوله ومعه اساقفة الأبرشيات وكل اساقفة الطائفة الآخرين. وبما ان هذه الحلقة هي آخر حلقة على المستوى المحلي نرى انها أهم حلقة في الكنيسة ايضا. اما اهميتها فناتجة عن المجلس البطريركي الرأس المدبر الايماني للكنيسة الملقبة بالكنيسة الكلدانية بكل مفاصلها، اذ عن هذا الرأس تصدر القرارات وفيه تتم الدراسات وعنه تصدر التعليمات التي تخص الكنيسة البطريركية كلها. غير انه لا يجوز، لا للبطريرك ولا لمجلسه ان يدير شؤون الكنيسة بأساليب الادارة الدنيوية السياسية، وإنما يتصدر ويترأس مجمع الأساقفة الذين عليهم مجتمعين يقع واجب الرسالة الايمانية، وواجب جمع ما تقدمه الأبرشيات والبت فيه، على ضوء الايمان وليس على ضوء اي عامل آخر.
ولكن بما ان البطريرك والأساقفة بشر، فهناك اغراء السلطة الدنيوية بانتظار اي منهم، حيث يمكن للبطريرك ولأي من هؤلاء الأساقفة ان يقدم مصلحته الخاصة على رسالته الايمانية، ويقدم وجهة نظره الفردية على خير الايمان الحياتي، معتمدا على امتيازات ما انزل الله بها من سلطان، الأمر الذي يمكن ان يفضي بالجميع الى التكتلات الغريبة عن روح الكنيسة. وهكذا، وفي هذا المناخ المذكور يمكن ان تنشأ خلافات شخصية وخلافات مبدئية وخلافات لاهوتية وخلافات حول اسلوب الرعاية الكنسية للمؤمنين. ولكن، برأيي المتواضع ارى ان الانفصال الكبير والخطير الذي يمكن ان يحدث ويعطل الوحدة الكنسية كلها هو الانفصال الناتج عن عقلية اكليروسانية Cléricaleتضع الأساقفة وكأنهم يملكون كنائسهم كما كان يملك رجل الاقطاع اقطاعيته، فيصر بعضهم على ادارة ابرشيته بهذه العقلية، بالضد من كل المتغيرات التي تجري في العالم. علما بأن دواء هذه الاغراءات الشاذة يقوم بالرجوع الى الانجيل وتعاليمه في التواضع والخدمة، هذه الخدمة التي لا يمكن ان تكون خدمة بالمعنى الحقيقي إلا اذا كانت مبنية على الحوار Dialogue وعلى جماعية القرار La collégialité، لكي لا تتحول الخدمة الكنسية الى عامل استلاب لحقوق المؤمنين في القمة والقاعدة، في حين تحتاج هذه الخدمة في جميع الحلقات المذكورة الى كثير من مناخ الحرية والتعددية في التفاصيل، وفي مجال التجارب الرعوية المدروسة، فلا تكون الأبرشيات و الخورنات وكأنها خرجت من معمل واحد وماكينة واحدة.
الحلقة الرابعة: اما الحلقة الرابعة فتضم الكنيسة الجامعة في روما، حيث مقر البابا، خليفة مار بطرس المسئول الأول عن الكنيسة جمعاء وعن اساقفة هذه الكنيسة وعن روحها، في اي زمان ومكان من العالم. علما بأن البابا قد لا يمد حدود صلاحياته الى الكنائس المحلية ابدا، ومع ذلك نرى بأنه قد تكون لمسؤولية البابا الشخصية فوائدها ومضارها، هذه الفوائد والمضار التي لا نريد ان نتعمق في الكلام عنها في هذا المقال، على الرغم من علمنا بأن روما ما بعد المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني قد اوجدت صيغا محترمة للعلاقة بين الكنيسة الجامعة والكنائس المحلية، ومنها الكنائس الشرقية، حتى وان لم تكن هذه العلاقة قد وصلت درجة الكمال، مع اننا نعلم ان عتب التقصير والخلل لا يقع كله على روما بل يقع خاصة وفي اكثره على رئاساتنا الكنسية كلها، وعلى طبيعة كنائسنا المتأخرة. ولكن وعلى اي حال، ونظرا لظروف كنائسنا المشرقية، كونها كنائس اقليات، نرى ان وحدتنا الكنسية مع الكنيسة الجامعة هي خير من بقائنا على تمزقنا الأزلي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق