وجهات نظر
محمد سيف الدولة
((هذا ليس حديثا عن الماضي وذكرياته، وانما عن نظام
مبارك الذى طالبنا بإسقاطه، ولم يسقط لأننا لم ندرك أو نحدد أو نتفق على ماهيته
وطبيعته وخباياه وقوته وقواه وحلفائه، فبقي النظام وتراجعت الثورة)).
ففي هذا اليوم وقعت مصر اتفاقية فض الاشتباك الأول مع (إسرائيل)
تحت رعاية الولايات المتحدة الأمريكية، والتي بموجبها انسحبت القوات المصرية التي
عبرت في حرب أكتوبر، من المواقع التي حررتها في سيناء، لتعود مرة أخرى الى الضفة
الغربية لقناة السويس، ليتبقى لنا هناك 7000 جندى فقط من واقع 80 ألف كانوا على
ارض سيناء لحظة وقف إطلاق النار، بالإضافة الى 30 دبابة فقط من واقع ما يزيد عن
1000 دبابة، كنا قد عبرنا بهم تحت القصف (الإسرائيلي) في الأيام الأولى من حرب
أكتوبر. وكان ذلك مقابل انسحاب القوات (الإسرائيلية) من غرب القناة التى كانت قد
اخترقت الجبهة المصرية في معركة الثغرة الشهيرة. وهى الثغرة التي حدثت بسبب
القرارات الخاطئة للرئيس السادات بما فيها رفضه طلب القادة العسكريين بتصفيتها
بالقوة، خوفا من تهديدات هنرى كيسنجر له كما صرح هو بنفسه لاحقا.
***
بدءاً من هذه التاريخ قامت الولايات المتحدة بإنشاء
وتأسيس نظام جديد في مصر، يهدف الى تفكيك مصر التي انتصرت في حرب 1973 صامولة
صامولة ومسمار مسمار، نظام يعمل على حماية امن (إسرائيل) ودعم مصالح الأمريكان،
نظام لا يرغب في قتال (إسرائيل)، ولا يستطيع قتالها إن هو رغب في ذلك.
ولقد حَكَمَنا هذا النظام الجديد بموجب ما أسميه
"بالكتالوغ الامريكى لمصر"، الذي يمثل الدستور الفعلي لها، والمصدر
الرئيسى للتشريع فيها، فهو قرآن مصر وإنجيلها، ممنوع الاقتراب منه أو لمسه.
وحتى بعد ثورة يناير فإن غالبية القوى السياسية، على
اختلافاتها الايديولوجية والسياسية، لم تجرؤ على الاقتراب من هذا الكتالوغ إما
خوفاً أو تواطؤاً، رغم ان الزخم الشعبي الثوري كان قادراً، لو أجُيدت قيادته
وتوجيهه وتوظيفه، على تحقيق تغييرات جوهرية ونقلات نوعية في ملف الاستقلال الوطني،
وهو ما لم يحدث للأسف الشديد، وكان ذلك مؤشراً مبكراً على اختلال البوصلة وعلى
احتمالات انكسار الثورة وهزيمتها .
والكتالوغ الامريكى، او النظام الحاكم الذي هتفنا
بسقوطه، يتكون من خمسة ابواب، سنتناولها باباً باباً على امتداد سلسلة من المقالات، وسنبدأ
في هذا المقال بالباب الاول:
يتناول هذا الباب "الطبنجة" التى وضعوها على
رأس مصر، من خلال التهديد الدائم بإعادة احتلال سيناء مرة اخرى، فيما لو خرج
النظام عن طوع الولايات المتحدة وحلفائها، ولقد تم ذلك من خلال المادة الرابعة من
اتفاقية السلام المصرية (الإسرائيلية) وملحقها الامني الذي تم بموجبهما تجريد ثلثي
سيناء من القوات والسلاح وهما المنطقتين (ب) و(ج)، فسمح لمصر في المنطقة (ب) في
وسط سيناء والبالغ عرضها حوالي 109 كيلومتر بنشر 4000 جندى حرس حدود فقط مسلحين
بأسلحة خفيفة، واما المنطقة (ج) وعرضها حوالي 33 كم بجوار فلسطين التى يسمونها
اليوم (إسرائيل)، فلم يسمح لمصر فيها الا بقوات شرطة فقط (بوليس)، مع منع اى تواجد
للقوات المسلحة، فيما عدا 750 جندى على الحدود المصرية الغزاوية، وافقت عليهم (إسرائيل)
في عام 2005، كبديل للقوات (الإسرائيلية) التى انسحبت من غزة. أما المنطقة الوحيدة
التى يجوز لمصر أن تنشر فيها قوات حقيقية، فهي المنطقة (أ) بجوار قناة السويس والتي
يبلغ عرضها حوالي 58 كم، والتى سمح لنا فيها بنشر ما لا يتعدى 22 الف جندى و230
دبابة، اى ما يوازي ربع عدد القوات التى عبرنا بها في 6 أكتوبر بارادتنا الحرة
ودمائنا الزكية ، بدون معاهدات ولا موافقات (إسرائيلية) أو امريكية.
وفي المقابل، تم تقييد عدد القوات والتسليح داخل (إسرائيل)
في شريط حدودى ضيق لا يتعدى عرضه ثلاثة كيلومترات، لا يسمح لـ(إسرائيل) داخله بأكثر
من 4000 عسكرى حرس حدود، كما يحظر وجود اي دبابات لها هناك.
لتكون موازين القوى حقيقية على الارض نجد ان اقرب دبابة (إسرائيلية)
تبعد عن الحدود المصرية 3 كيلومتر في حين ان اقرب دبابة مصرية تبعد عن ذات النقطة
150 كيلومتر.
والخلاصة ان الترتيبات الامنية في المعاهدة انحازت
انحيازاً فجاً وصريحاً ومأساوياً الى الأمن القومي (الإسرائيلي) على حساب الامن
القومي المصري.
وما زاد الطين بلة، هو طبيعة قوات حفظ السلام في سيناء،
فبدلا من الامم المتحدة، تم تفويض الولايات المتحدة لتشكيل قوات متعددة الجنسية
اطلق عليها "قوات حفظ السلام والمراقبين" MFO ، تتكون من 11 دولة بإجمالي لا يزيد عن 2000 فرد، 40 %
منها قوات امريكية، والباقي دول حليفة وصديقة لامريكا و(إسرائيل)، تتمركز في
قاعدتين عسكريتين، في شرم الشيخ والجورة، وهي لا تخضع للامم المتحدة، ولا يجوز
سحبها الا بموافقة الطرفين بالإضافة الى التصويت الايجابي للخمس الكبار بمجلس
الامن، ومديرها يجب ان يكون امريكيا على الدوام، وكان آخر مدير لها في عام 2013 هو
السفير دافيد ساترفيلد الذى يشغل الآن منصب القائم بأعمال السفير الامريكى في مصر
بعد آن باترسون !
وخلاصة هذا الباب ان أصبحت سيناء المجردة والمقيدة من
السلاح والقوات في خطر دائم ، يضع اي ادارة مصرية في وضع بالغ الحرج والضعف، فيما
لو "هدد أو لوَّح" الأمريكان و (الإسرائيليون) بتكرار عدواني 1956
و1967، وهم يدركون ذلك جيدا ويستخدمونه للضغط على الإدارات المصرية المختلفة من
اجل إخضاع قرارها وكسر إرادتها وفقا للحاجة والظروف، وهو ما حدث بالفعل بعد ثورة
يناير في عدة مرات، ربما نتحدث عنها بالتفصيل في كتابات قادمة.
واليوم بعد مرور 3 سنوات على ثورة يناير، لا تزال سيناء
مقيدة باتفاقيات كامب ديفيد، لم يتغير فيها شيئا، فلا نزال نستأذن (إسرائيل) كلما
أردنا ان ندفع بقوات إضافية الى هناك، نستأذنها في عددها وتسليحها وطبيعة مهامها وفي
مدة تواجدها قبل انسحابها مرة أخرى من حيث أتت .
ولقد لاحت ثلاث فرص بعد الثورة لمحاولة التحرر من هذه
القيود، الأولى في عهد المجلس العسكري حين قتلت (إسرائيل) خمسة جنود مصريين في
أغسطس 2011، والثانية في عهد محمد مرسى حين قُتل 16 جندي مصري في أغسطس 2012،
والثالثة في عهد السيسى/ منصور حين قُتل 25 جندي امن مركزي في أغسطس 2013
وفي الحالات الثلاث، لم يرغب، او يجرؤ، صناع القرار على
الاقتراب من المعاهدة او حتى المطالبة بتعديلها، كما أن المعارضة هي الأخرى،
وياللعجب، لم تعترض او تطالب أو تضغط في هذا الاتجاه أبداً، رغم اشتباكها
المستمر مع كل صغيرة أو كبيرة .
***
كان هذا هو الباب الأول فقط من الكتالوغ الأمريكي لمصر،
والى لقاء قادم مع باب جديد باذن الله.
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق