عن اختلاف الروايات، وليس اختلاف الرؤى، بشأن الاتفاقيات الخيانية مع العدو الصهيوني، كتب الكاتب العربي محمد سيف الدولة مقالته التالية، التي بعثها إليَّ، مشكوراً، عبر البريد الإلكتروني.
روايتان متناقضتان وحقيقة واحدة
محمد سيف الدولة
منذ عام 1993 ، وهناك روايتان عن الاتفاقيات الفلسطينية الاسرائيلية المشهورة باسم اوسلو ، رواية فلسطينية ، وأخرى صهيونية ، ظهرتا بجلاء فى خطابى ابو مازن ونتنياهو فى الدورة الحالية للامم المتحدة.
اما عن الرواية الفلسطينية ومع افتراض حسن النوايا ، فتقدمها لنا جماعة السلطة ، وتروج لها الانظمة العربية وخلاصتها :
· ان التسوية مع اسرائيل هى الممكن الوحيد فى ظل موازين القوى الدولية الحالية ، خاصة بعد سقوط الاتحاد السوفيتى ، وانفراد الولايات المتحدة بالعالم .
· وان حلم تحرير كامل التراب الفلسطينى غير واقعى وغير ممكن .
· وان الممكن الوحيد هو الحصول على دولة فلسطينية كاملة السيادة فى الضفة الغربية وغزة ، عاصمتها القدس الشرقية ، خالية من اى مستوطنات اسرائيلية ، مع التمسك بحق العودة لللاجئين الفلسطينين .
· وان الطريق الوحيد لذلك هو التفاوض السلمى ، فالمواجهة العسكرية مع اسرائيل هى عملية انتحارية، ولن تؤدى الى شىء .
· ولكى تقبل اسرائيل قيام دولة فلسطينية ، فلابد من الاعتراف بشرعية وجودها ، والتنازل عن فلسطين 1948 ، ونبذ العنف والمقاومة ، وتوحيد الصف الفلسطينى تحت قيادة السلطة الفلسطينية ، فهى الطرف الوحيد الذى تعترف به اسرائيل والمجتمع الدولى وتقبل التعامل معه
· وان خروج حماس واخواتها عن شرعية السلطة وشرعية اوسلو ، يضعف من موقفها التفاوضى ويعيق تحقيق الحل النهائى .
· وانه اذا توفرت هذه الشروط ، فانهم سيحصلون على دولة فلسطينية ان عاجلا ام آجلا.
· ولكن لابد اولا من ترتيب الوضع الامنى الفلسطينى بما يطمئن اسرائيل .
· وان هذا اقصى ما يمكن ان يحققه الجيل الحالى ، وعلى من لا يقبله ، ان يعتبره حلا مرحليا ، ومقدمة للحل النهائى المتمثل فى تحرير كامل التراب الفلسطينى ، وهى مهمة الاجيال القادمة عندما تتغير موازين القوى الى الافضل .
* * *
اذن خلاصة الرواية الفلسطينية : ان اوسلو هى اتفاقيات تحرير هدفها الرئيسى هو اقامة دولة فلسطينية مستقلة فى الضفة الغربية وغزة ، مع بعض الاستحقاقات الامنية لطمأنة اسرائيل .
* * *
اما عن الرواية الصهيوينة ، فلقد قدمها بجلاء نتنياهو فى خطاباته العديدة وخلاصتها :
· ان فلسطين هى ارض اسرائيل التاريخية منذ 3500 عاما ، بالاضافة الى يهودا والسامرة !
· يختص بها الشعب اليهودى وحده
· و لذلك ان دولة اسرائيل هى بالضرورة دولة يهودية
· وان الرفض العربى والفلسطينى للاعتراف باسرائيل هو اصل المشكلة
· وان على كل الفلسطينيين ان يعترفوا باسرائيل ، وبحقها فى ارضها التاريخية
· وان ينزعوا سلاحهم فورا ، نزعا كاملا و نهائيا ودائما .
· وان هذه هى المهمة الرئيسية وربما الوحيدة للسلطة الفلسطينية ، مهمة تصفية الارهاب ( المقاومة ) ونزع السلاح الفلسطينى ، ودفع كل الفلسطينيين الى الاعتراف الفعلى باسرائيل . والكف عن الحديث على فلسطين 1948 .
· بعد ذلك فقط وليس قبله ، يمكن الحديث عن دولة فلسطينية ما ، منزوعة السلاح ، منزوعة السيادة ، لاسرائيل السيطرة على اوضاعها الامنية ، وعلى علاقتها الخارجية ، وعلى حدودها وعلى كل ما من شأنه تهديد أمن اسرائيل .
· مع العلم بان القدس الموحدة ستظل دائما عاصمة لاسرائيل ، و ان المستوطنات باقية . وانه لا عودة لاى فلسطينى الى اسرائيل اليهودية .
* * *
خلاصة الرواية الصهيونية اذن : ان اتفاقيات اوسلو هى بالاساس اتفاقيات امنية لخدمة امن اسرائيل ، مع بعض الاستحقاقات الفلسطينية المحدودة و المشروطة و المؤجلة ، والتى لن تصل ابدا الى دولة ذات سيادة .
* * *
أين الحقيقة بين الروايتين ؟
لا شك ان الرواية الصهيونية هى الاكثر تطابقا مع النصوص ومع الواقع :
· فقراءة نصوص اتفاقية اوسلو واخواتها ، وخطاب اعتراف منظمة التحرير باسرائيل ، وتوصيات مؤتمرات مكافحة الارهاب وعلى الاخص مؤتمر شرم الشيخ 1996 ، و اتفاقات شرم الشيخ 2000 ، والقاهرة 2001 ، و خطة ميتشل 2001 ، ووثيقة تينت 2002 ، وخريطة الطريق 2003 ، وخطاب التطمينات الامريكى 2004 ، والاتفاقيات الامنية الامريكية الاسرائيلية المتعددة ، و التصريحات المتكررة للرؤساء الامريكيين بما فيهم أوباما ، وشروط الرباعية ، واتفاقية فيلادلفيا بين مصر واسرائيل 2005 ، واتفاقيات المعابر ، وخطابى اوباما ونتنياهو فى الدورة 66 بالامم المتحدة سبتمبر 2011 وغيرها الكثير ... نقول اى قراءة فى كل هذه النصوص والوثائق سترصد ملمحين رئيسيين متلازمين :
1) الملمح الاول هو تحديد شديد الدقة لطبيعة الالتزامات الامنية للسلطة الفلسطينية ضد ما اسموه بالارهاب والارهابيين ، من حيث المهام و الشراكة والتنسيق مع اسرائيل ، وبرامج وجداول التنفيذ ، و التدريب للعناصر الامنية الفلسطينية وكيفية تمويلها ... الخ . مع المتابعة والرقابة والحساب العسير عند التقصير .
2) اما الملمح الثانى فهو تعويم وتمييع وابهام لكل ما يتعلق بقضايا الحل النهائى ، حول الدولة الفلسطينية من حيث المفهوم والسيادة اوالمستوطنات والقدس والحدود والمعابر واللاجئين والمياه ..الخ
* * *
· اما على المستوى العملى وعلى ارض الواقع فان السياسات الصهيونية تؤكد كل اليوم اننا بصدد تسوية امنية من أجل اسرائيل وليس تسوية سياسية من أجل الفلسطينيين : فالمستوطنات والجدار العازل وحواجز الطرق وتصفية واغتيال قادة المقاومة ، و 11 الف معتقل داخل السجون الاسرائيلية ، والتهويد النشيط للقدس ، والتعاون الصهيونى الفلسطينى المصرى لغلق المعابر وفرض الحصار على غزة ، واخيرا وليس آخرا العدوان الاجرامى الاخير على غزة فى يناير الماضى .
كل ذلك وغيره هو تطبيق وتفعيل لاستراتيجية امنية صهيوينة واضحة ومحددة الاهداف والمعالم والادوات بتعاون وتوظيف كامل لاجهزة السلطة الفلسطينية و جماعة أوسلو .
· وفى المقابل لم يتم اى انسحاب فعلى للقوات الصهيونية من الاراضى المحتلة عام 1967 تفعيلا لاتفاقيات التسوية .، ما عدا انسحابها من غزة عام 2005 تحت ضغط المقاومة الفلسطينية ، وليس تنفيذا لاستحقاقات السلام .
· اما ما تم فى المرحلة الاولى 1993 ــ 2000 فلم يكن اكثر من اعادة انتشار وتوزيع للقوات الصهيونية ، و هو ما ثبت لاحقا عدم جدواه وجديته ، فالضفة الغربية لا تزال سداح مداح لهذه القوات ، تقتحمها متى شاءت لتعتقل وتقتل وتدمر و تنسحب لتعود مرات أخرى .
* * *
أما بعد :
· فإنه قد آن الاوان للتحرر من اتفاقيات اوسلو ، فـ 17 عاما من الفشل والفتنة والانقسام واضاعة الوقت والجرى وراء الاوهام ، والتحالف مع العدو والتخديم على أمنه ، واضفاء الشرعية على ما يقوم به من عمليات قتل وإغتيال واعتقال لاهالينا و شهدائنا باسم السلام والتسوية ، و تضليل الراى العام الفلسطينى والعربى والعالمى . نقول 17 عاما من كل ذلك تكفى و تزيد . وهى سنوات ضاعت بلا ثمن وبلا مقابل : فاسرائيل لن تعطيكم شيئا ، وامريكا لن تعطيكم شيئا ، وان فعلوا فسيكون مسخ كيان فلسطينى خاضع وتابع ، يستمد بقاءه ووجوده من فتات ما تجود به اسرائيل . وما سيعطوه ونقبله الآن سيكون آخر المطاف لعقود طويلة وربما للابد . فترتيبات الحرب العالمية الاولى للوطن العربى من تقسيم وتجزئة ، ما زالت قائمة حتى الآن .
· وفشل التسوية كان واضحا منذ البداية ، ولكنه تجلى للجميع بعد العدوان الأخير على غزة ثم بالتواطؤ الامريكى على تواصل الاستيطان ، ثم بالموقف الامريكى الصهيونى الاخير برفض قبول دولة لفلسطين بالأمم المتحدة . فيتوجب الآن على الجميع الانسحاب الفورى من مشروعات التسوية مع العدو : سواء أوسلو او كامب ديفيد او وادى عربة ، او مبادرة السلام العربية .
· والعودة مرة أخرى الى الطريق الواضح الفطرى البسيط ، الذى سلكته وتسلكه كل الامم المحترمة ، وهو طريق تحرير كامل التراب الوطنى بالمقاومة والكفاح المسلح ، وعدم التنازل عن شبر واحد من ارض الاجداد والآباء والأحفاد ، مهما اختلت موازين القوى .
· وهو طريق شاق وطويل ولكنه يظل الممكن الوحيد ، خاصة بعد تفجر ثورات التحرر العربي ضد أنظمة الاستبداد والقهر التى تواطأت طويلا ضد فلسطين .
* * * * * * * *
هناك تعليق واحد:
الاستاذ مصطفى كامل تحية و سلام و جزيل الشكر على تقديم هذا المقال الرائع الذي ألقى الاضواء الكاشفة و بعمق على الخيارات الاستراتيجية التي تواجه امتنا في قضيتها المركزية فلسطين. لقد أجاد الكاتب الاستاذ محمد سيف الدولة عرض و تلخيص الموضوع و بيان الاثمان المترتبة على كل خيار. ان الثمن الباهظ جداً و الكارثي لخيار ما يسمى بالسلام مع الكيان الصهيوني الذي يتبناه جناح الاعتدال العربي و الذي يسعى للتغافل عنه و استصغاره و التعمية عليه هو ما يفضح هشاشة هذا الخيار و كونه جزء من المخطط الاستراتيجي المعادي و في خدمة أهدافه الكبرى و فاقد لادنى و أتفه فائدة للجانب العربي. ان طبيعة الصراع الدائر في منطقتنا بيننا كعرب و مسلمين و بين الكيان الصهيوني و شركائه الامريكان و الغربيين في مشروعه يجعل من فكرة اقامة سلام فكرة خيالية ساذجة يتم توظيفها لخدمة الخصوم و هذا ما ينبغي التنبيه له و التذكير به باستمرار. هناك نقطة واحدة ربما تحتاج الى توضيح و هي أن مشاريع و خيارات المقاومة بشكل عام و حين تواجه في معركتها المصيرية قوى تتفوق عليها مرحليا قد تضطر للقيام ببعض المناورات للتملص من ضغطوط العدو و تصميمه على فرض الحسم و لكن شتان بين المناورات في اطار معركة و بين اتخاذ خيارات بقيول حسم المعركة لصالح العدو و السير وفقاً لهواه و رغباته. قد تقبل المقاومة الدخول في مفاوضات تسويفية او قبول هدنة او أية اشياء مشابهة لكن في ظل وعي كامل لتوظيف هذه الامور لصالح استراتيجية المقاومة و التملص من حلقات حصار العدو و حسمه و هنا يظهر الفرق بين هذه المناورات التكتيكية و بين الخيار الاستراتيجي بالاذعان للعدو و مشاريعه الاستسلامية.
إرسال تعليق