بإسلوبه المميز الذي يتنقل بين الفلسفة والانثروبولوجيا ومرويات كتب الأديان السماوية، ويخلص الى الهم السياسي، يكتب القس العراقي لوسيان جميل، مقالة جديدة عن المهام التي تقدمها حكومة المنطقة الخضراء للمحتلين، والتي بعث بها إليَّ، مشكوراً، على بريدي الإلكتروني.
حكومة الدائرة المغلقة
القس لوسيان جميل
المقدمـة:
على الرغم من ان كثيرين من قرائي سيعرفون ماذا اعني بحكومـة الدائرة المغلقة، الا اني رأيت ان ابين لهم بعبارات قليلة، المعاني الأساسية التي يحملها هذا العنوان.
ففي الواقـع، قد تبدو اضافة صفة المغلقة الى الدائرة امرا غريبا لأول وهلة، طالما نعرف ان الدائرة، لا يمكن ان تكون الا مغلقة. غير ان هذه الاضافة لا تأتي هنا من باب تعريف الدائرة، ولكنها تأتي فقط من باب التأكيد على جانب من جوانب صفات الدائرة، وهو جانب الاحاطة والغلق، او الاقفال، سواء كان هذا الغلق موضوعيا ام رمزيا، وسواء كان حالة ايجابية ام حالة سلبية كالحالة التي تهمنا بالدرجة الأولى في هذا المقال.
الصفة الرمزية للدائرة:
وبما انني لا انوي في هذا المقال، تقديم موضوع هندسي عن الدائرة، فان الدائرة التي سأتكلم عنها هنا ستكون بالتأكيد رمزا لكل ما هو محاط ومغلق، سواء كان هذا الموضوع المغلق تجمعا سياسيا، او كان تجمعا وطنيا او قوميا، او كان تجمعا دينيا او تجمعا مذهبيا، او كان تجمعا أيديولوجيا، او اي تجمع آخر من هذا القبيل، وسواء كان هذا التجمع تجمعا ايجابيا ام كان تجمعا سلبيا، كما سنرى في الفقرات القادمة.
بعض دلالات ورموز الدائرة:
ويقينا ان ما يهمنا بالأكثر من دلالات الدائرة هو ما ترمز اليه من صفات سلبية مؤذية اختبرناها، نحن العراقيين، منذ اكثر من عشرين عاما، ولاسيما منذ ثماني سنوات، هي سنوات الاحتلال الهمجي الغاشم لبلدنا. غير اننا، وحسب العادة الجارية بين المؤلفين، نفضل نحن ايضا، ان نبدأ بدلالات الدائرة الايجابية، ومن ثم ننتقل الى دلالاتها السلبية الكثيرة، هذه الدلالات التي تساعدنا على القاء نظرة صائبة على ما يجري، في ايامنا، في الوطن العربي ايضا.
بعض دلالات الدائرة الايجابية:
بما ان عنوان المقال الرئيسي لا يتطلب الاسهاب في الكلام عن دلالات الدائرة الايجابية، فان ما يمكننا ذكره بعجالة عن دلالات الدائرة الايجابية، هو كونها شكلا هندسيا يتصف بالكمال، ولاسيما اذا كان هذا الشكل، جسمـا هندسيا كرويا، يذكرنا بالكون الأحدب، او الكروي، وبكل ما فيه من نجوم وكواكب تحمل هي الأخرى الصفة الكروية، كما يذكرنا خاصة بكروية الارض، هذه الكروية التي استغرق العالم مدة طويلة حتى اكتشفها وتحقق منها، ناهيك عن العالم المجهري الكروي الذي منه تتكون مادة الكون ومادة الحياة، ومنها حياة الانسان، حيث تقوم ذات الانسان بمهمة مركز الدائرة، و بالأحرى بمهمة محور الكرة الذي يستقطب كل ابعاد الانسان.
التركيز على صفتين اساسيتين:
وبما اننا بصدد دلالات الدائرة الايجابية، فإننا نرى ان نركز بالدرجة الأولى على صفتين في كل دائرة او في كل كرة، هما صفة الاحاطة بمساحة الدائرة، وصفة تمحور كل دائرة او كرة حول نقطة مركزية او محور يجعل من الدائرة ما هي عليه، كما يجعل من الكرة كرة حقيقية، سواء كانت هذه الدائرة او هذه الكرة مادية واقعية ام رمزية، كالإنسان الفرد او الانسان المجتمع.
وظيفة المحيط والمركز ونقيضهما:
اما صفة الاحاطة التي تكلمنا عنها فإنها تفيدنا من حيث انها تدل على المكان الجغرافي المحاط بالحدود التي يتربى الانسان داخلها، منذ بدء حقبة الأنسنة، وحتى ما قبلها، مرورا بكل حقبه الاجتماعية الأخرى، باستثناء حقبتنا الراهنة، حقبة العولمة، حيث تعمل القوى الكبرى الخبيثة الشريرة على هدم اسيجة العالم المادية والروحية وحدوده، والتي داخلها يحقق الانسان ذاته الانسانية، الأمر الذي يشكل، بحسب رؤيتنا، هدما لنظام الكون والعالم الانساني والاجتماعي وتناسقه، مما سيجعل كوننا وعالمنا، يتداعيان فوق رؤوس ساكنيه، بما في ذلك رؤوس المعتديـن، كبارا وصغارا، ولاسيما ونحن نعلم بأن هدم سياجات العالم غالبا ما يبدأ بالإخلال بمركزية هذا العالم ومحوريته الماديـة وال أنثروبولوجية الروحية، ومنها المحورية الاجتماعية والسياسية والدينية والأيديولوجية والأخلاقية.
دور الذات في حياة الانسان:
وبما أننا بصدد مركزية الدائرة مع ما تحمله من رمزية فلا يسعنا هنا سوى ان نؤكد على ان " ذات " الانسان تمثل مركزه ومحوره وخلاصة الفرد الانساني، اي شخصه بمعناه الأنثروبولوجي، كما يقول الأنثروبولوجيون، بحيث يشكل الانسان مع مركزه، سواء كان فردا ام جماعة، منظومة كبرى، لها كينونتها ووظائفها ودلالاتها الايجابية في الوقت عينه، حيث يعطي الانسان، لمنظومته الكبرى، صورتها Sa forme ومعناها Son sens، وهويتها Son identité، سواء كان هذا الانسان فردا ام جماعـة، وحيث يقترب الانسان من الدائرة او من الكرة كثيرا، كونه كائنا يتمحور حول ذاته.
وهكذا، وبهذه الرمزية الواضحة، نقترب كثيرا من مفهوم وفلسفة الأوطان، كما هو واضح، طالما ان الانسان يصير المكان Le lieu الذي فيه تتحقق وحدة جميع ابعاده، ويتم بناء ثقافته وهويته وعبقريته génie، سواء تكلمنا عن الانسان بصفته الفردية ام بصفته الاجتماعية.
ذات الانسان تجمع وتحاور:
ويقينا أن دلالات الدائرة او الكرة، تتميز عن الدائرة المقفلة او الدائرة المفرغة، في انها تملك بوابات ونوافذ على العالم، من جهاته الاربع، لكي يتم الحوار مع عوالم الآخرين، عندما تكون العلاقات بين البشر سليمة، وعندما تكون الأبعاد الشريرة التي هي ناتج سلبي وجانبي للبناء الحضاري، مسيطرا عليها بشكل كاف. اما عندما لا يكون الشر الناتج عن البناء الحضاري، مثل شر العولمة وشر القوة الغاشمة، مسيطرا عليه، حينئذ تظهر الدلالات السلبية المؤذية في المجتمع، كما سنرى في الفقرات ادناه.
الدلالات السلبية للدائرة ورموزهـا:
وهكذا نفهم ان بعض دلالات الدائرة، قد يكون سلبيا الى اقصى الحدود، كما سنرى في ما يلي من الفقرات.
وبما اننا انتقلنا الى التوظيف السلبي للدائرة او للكرة، فإننا لا يسعنا هنا سوى التأكيد على صفة الغلق السلبي لبعض الدوائر، ومنها الدوائر التي تكونت بعد الاحتلال، هذه الدوائر التي لم تتكون من اجل حماية وتطوير الانسان، ولكنها تكونت من اجل غايات اخرى، اقل ما يمكن ان يقال فيها الآن، انها غايات عدوانية وشريرة وغير طبيعية. لذلك نقول ان ما يهمنا في هذا المقال هو ان نظهر للقارئ سلبيات الدوائر المغلقة وشرورها والدور الشرير الذي اناطه المحتل بهذه الدوائر، مع وضعنا امام انظارنا ما يسمى المنطقة ( الدائرة ) الخضراء نموذجا prototype ورمزا ومثالا لجميع الدوائر السلبية الشريرة.
المنطقة او المناطق الخضراء:
بعد ان تحولت المنطقة الخضراء في بغداد الى ثكنة عسكرية مقفلة يقطنها المحتلون، وتحولت هذه المنطقة الى " غرفة عمليات "عسكرية، الغاية منها تدمير الدولة العراقية الواقعة تحت الاحتلال، والاستيلاء على مقدراتها وخيراتها، بعد قتل اهلها وتهجيرهم من اماكن سكناهم، وحرمانهم من ابسط الحقوق ومقومات الحياة، فان تسمية تلك المنطقة بالمنطقة الخضراء لا تأتي الا من باب الكذب والتزوير ومن باب تضليل الرأي العام العراقي والعالمي.
وبما ان الشعب العراقي اكتشف سريعا حقيقة هذه المنطقة فقد بدأ، ومن زمن طويل، يسميها بعدة تسميات، ومنها المنطقة الغبراء والمنطقة الحمراء، كما دأب كثير من الكتاب على تسمية هذه المنطقة، بالمضبعة الخضراء وبغير ذلك من التسميات.
اما نحن فيمكننا ان نضيف الى التسميات المذكورة، تسمية الثكنة العسكرية، وتسمية مطبخ الشياطين، لأن المحتلين وأعوانهم يمارسون في هذه المنطقة جميع انشطتهم السياسية الشريرة والعدوانية، ويطبخون على نارها الجهنمية مؤامراتهم الشيطانية اللئيمة، وعلى الوجه التالي:
1 – مهمة عزل وحماية المحتلين:
ويقينا ان أول دور سلبي تقوم به الدوائر المغلقة، التي سميت بالمناطق الخضراء، هو العزل والتمييز بين المحتلين المغتصبين وأعوانهم، وبين الشعب المخدر، الذي يقاد الى الخضوع لأهداف المحتلين، عن طريق ما يسمى بسياسة الجزرة والعصا، وبطرق التضليل الأخرى الكثيرة.
2 – حماية المحتلين من غضب الشعب:
اما مهمة المنطقة الخضراء الثانية فهي حماية المحتلين من غضب الشعب العراقي، بعد ان اكتشف العراقيون الحقيقيون الشرفاء خبث اهداف المحتلين وقذارة هذه الأهداف، وعرفوا خطورة الاحتلال على العراق والعراقيين.
3 – اقناع العراقيين بمشروعية الاحتلال:
يسعى المحتلون القابعون في المنطقة الخضراء، والمسيجة بأعمدة خراسانية منذ بدء الاحتلال، ومن خلال اكاذيب وسفسطة كلامية، الى اقناع العراقيين بمشروعية احتلالهم للعراق وفائدته للعراقيين، وإزالة صفة الارهاب والعدوان عن هذا الاحتلال.
4 - مركز انطلاق للإجهاز على المقاومين:
في الفقرات القادمة سوف نتطرق الى بعض اهداف المحتلين الخبيثة، اما الان فنكتفي بالقول بأن المعتدين يستخدمون المنطقة، او المناطق الخضراء، كنقطة او بؤرة انطلاق للإجهاز على المقاومين ولتفتيت الدولة العراقية.
5 - ثكنة وغرفة عمليات متعددة المهمات:
هنا نتكلم عن غرفة عمليات متعددة المهمات، لأن مهمات المعتدين التي حاولنا تشخيص بعضها في هذا المقال، لا تعد ولا تحصى، بسبب قوة النسيج العراقي المستهدف وتماسكه. وبما ان المحتل كان يعرف من البداية ان تحقيق هذه المطامع الوحشية وغير الشرعية وغير المتحضرة يتطلب كثيرا من الوقت وكثيرا من المؤامرات وكثيرا من البطش وكثيرا من الفوضى الخلاقة وغير الخلاقة، فقد صار من اهداف المناطق الخضراء تدارس الكيفية التي يتمكن المحتل بواسطتها من تحقيق تدمير العراق تدميرا كاملا من كافة الأوجه، لكي يتمكن بالتالي من اقامة عراقه الخاص به على انقاض العراق الحقيقي، وذلك من خلال عمليات عسكرية ومدنية متزامنة، الأمر الذي جعلنا نقول بأن المنطقة الخضراء صارت مطبخا للمؤامرات الشيطانية على الشعب العراقي وعلى دولته.
6 - مواصلة مشوار العدوان:
بعد ان نجح الجيش الأمريكي في اسقاط الحكم العراقي الشرعي وتدمير جيشه وكل قواه الأمنية الأخرى، كانت قد بقيت امام المحتلين المهمة الأصعب، وهي مهمة التدمير الكامل للدولة العراقية، بغية اقامة دولة بديلة لها لا تكون لها من مقومات الدولة غير الاسم، بحيث يكون المحتل السيد الحقيقي لهذه الدولة ويكون العراقيون مجرد خدم فيهان خدمة لأسيادهم وإرضاء لأنانيتهم المقرفة.
7 – كتابة الدستور الوهمي:
بما ان المحتل كان بحاجة الى عراقيين يقبلون العمل بإمرة المحتل وبحسب ارادته الغاشمة، وبعد ان استطاع المحتل من جمع هؤلاء العراقيين الذين دخل كل منهم، الى العملية السياسية من بابه الخاص به، اي من باب مصلحته الشخصية والحزبية، فقد كان من الضروري ان يكتب لهؤلاء العراقيين، دستورا خاصا بهم، ينظم علاقاتهم مع بعضهم البعض، وينسق بينهم وبين سيدهم المحتل.
اما ان يكون هذا الدستور دستورا شرعيا يمكن فرضه على كل العراقيين، فتلك مزحة سمجة، لم يعد يقبل بها احد. اما الاستفتاء على الدستور بحسب الظروف التي حصل فيها فلم يعد مزحة شبيهة بمزحة كتابة الدستور، ولكنه صار مأساة تدل على قدرة المحتلين على النجاح في الخديعة، وعلى فرض ارادتهم الشريرة عليهم، كما تدل على غباء، او على وضاعة من صدق هؤلاء المحتلين.
8 - ثم توالت المؤامرات والطبخات:
نعم لقد توالت المؤامرات والطبخات في المنطقة الخضراء، فكانت الانتخابات التعسفية والمزورة التي نصبت من اراده المحتل ممثلا للعراقيين وقائدا كاذبا لهم، مع ان العبد لا يحق له غير التنفيذ. وكانت انتخابات المحافظات التي سيرها المحتل بحسب مصلحته ورغبته التآمرية. ثم كانت الانتخابات الأخيرة التي اظهرت لجميع العراقيين تفاهة العملية السياسية والقابلين بها.
9 - المعاهدة الأمنية وتداعياتها:
وأخيرا وليس آخرا جاءتنا المعاهدة الأمنية المفروضة على السياسيين الضعفاء الذين لم يستطيعوا ان يرفضوا طلبا للمحتل، في حين لم يمنع تبجحهم بالديمقراطية من القفز من فوق ارادة الشعب والعمل بإرادة المحتلين وحدها. اما اليوم فهل سيتمكن السياسيون العراقيون المضللون من رفض طلب المحتلين القاضي ببقاء القوات المحتل في العراق، على الرغم من انتهاء صلاحية المعاهدة الأمنية؟ تلك هي كل المسألة.
الخاتمة:
بما ان السيد اوباما فشل في السيطرة التامة على العراقيين، على الرغم من كل المآسي المعروفة التي تسبب بها هو وسلفه، فإننا نتوجه للسيد اوباما بعبارتين منقولتين من سفر المزامير ( الزبور ) والتي تقول: اذا كان الرب لا يبني البيت فعبثا يسعى البناءون* وإذا كان الرب لا يحرس القرية فعبثا يسهر الحراس ( النواطير ). اليس كذلك يا سيد اوباما؟ ! ولكن الا يدل هذا الكلام على ان الرب لم يكن معكم في عدوانكم على العراق وعلى افغانستان ولا مع سلفكم، ولا مع المتعاونين معكم في تدمير العراق؟ وبما ان الرب لم يكن معكم، لأنكم لم تكونوا مع الحق بل مع الباطل، معتمدين على قوتكم الغاشمة، فقد اوشكت سفينتكم تيتانيك على الغرق، لا بل هي ستغرق وستغرقون معها، على الرغم مما قيل، من ان تيتانيك لن تغرق، وأن أمريكا العظمى لن تقهر. نعم سوف تغرق تيتانيك التي جعلتموها كناية عن امريكا التي لا تقهر، لأن صراخ المظلومين صعد الى السماء ووصل الى آذان رب الجنود الذي لا يقهر. وختاما نقول: على نفسها جنت براقش، ومن يعمل بيدو الله يزيدو، ايها السيد اوباما.
القس لوسيان جميل
تلكيف – محافظة نينوى – العراق
2-10-2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق