يستعرض أخي وصديقي العزيز الأستاذ عبدالواحد الجصاني، في مقالته هذه، عبقرية العراق الواحد في مواجهة دعاة التقسيم الطائفية البغيضة، كما يستعرض الهوس الذي أصاب العملاء المتحكمين بالعراق بمواجهة القوى الوطنية العراقية مع اقتراب الموعد المفترض لانسحاب القوات الأميركية المقاتلة من العراق.
عبقرية العراق وتهافت دعاة تقسيمه فيدرالية صلاح الدين ومشروع الإحتلال |
الدكتور عبدالواحد الجصاني |
1- العراق أو بلاد ما بين النهرين أو أرض السواد، هو تلك الأرض التي تحتضن نهري دجلة والفرات بين جبال طوروس شمالا والخليج العربي جنوبا وبين جبال زاجروس شرقا والبادية العربية غربا. هذا العراق منح الإنسانية عطاءً ليس له مثيل، فقد إتحدت فيه عبقرية المكان والزمان مع عبقرية الإنسان لتنتج أعرق حضارات الأرض وأكثرها أصالة وأبعدها أثراً.عبقرية المكان متواصلة منذ أن جعل الله العراق يتوسط العالم القديم وجعل جبال كردستان تنحدر نحو السهل الرسوبي لتشكل معه وحدة إقتصادية متكاملة ذات موارد لا تحصى. وعبقرية الزمان متواصلة منذ عصور ما قبل التاريخ حيث صنع سكان السهل والجبل أكثر حضارات الإنسانية رقيّا وأصالة واكثرها إمتدادا، بدءا بأوّل قرية زراعية في العالم وهي قرية جرمو قرب كركوك الى إمارة أوروك أول كيان سياسي موحد على وجه الأرض (5500 ق.م) إلى الحضارات الأكدية ثم الكوتية ثم السومرية ثم البابلية ثم الكشيّة ثم البابلية الوسيطة والمتأخرة ثم الآشورية ثم الحضارة العربية والإسلامية. هذا الدور الحضاري الفريد صهر أبناء العراق في وحدة فكرية وإقتصادية وإجتماعية جعلت منهم ليس شعبا واحدا، بل أسرة واحدة. 2- تعرض العراق عبر العصور الى غزاة كثر فكان مقبرتهم، وتعرض لمحاولات تقسيم كثيرة تلاشت وبقي موحدا. آخر محاولات تقسيم العراق الى ثلاثة كيانات كانت بإتفاق بريطانيا مع فرنسا بمباركة روسيا القيصرية في إتفاقية سايكس بيكو عام 1916، لكن سرعان ما تيقن البريطانيون أن العراق وحدة تكمل بعضها بعضا، وإن الكيانات الثلاث التي ينوون خلقها غير قابلة للحياة وستكون عبئا على بريطانيا وليس مصدرا لثرائها. ثم جاءت إيران الخميني بمشروعها لتحرير القدس عبر كربلاء!! فتجرّع الخميني السم وبقي العراق موحدا شامخا، ثم جاء الإحتلال الأمريكي – الفارسي للعراق بمشروع أكثر خبثا، وكانت اولى مهمات الحاكم المدني الأمريكي تفكيك الدولة العراقية وإلغاء الهوية الوطنية للعراقيين وإلغاء الإنتماء العربي للعراق وإستبدال ذلك بالهويات الطائفية والعرقية. وأول تشريع أصدره بول بريمر كان الأمر رقم (1) في 16/5/2003 القاضي بإجتثاث البعث ثم أعقبه بالأمر رقم (2) القاضي بحل الجيش العراقي، ثم شكّل بريمر مجلس الحكم على أساس طائفي وعرقي ثم رسخ المحتلون هذا التوجه بدستور كتبه اليهودي نوح فيلدمان جعل التقسيم الطائفي والعرقي للعراقيين أساسا لنظام الحكم وأسس نظاما فيدراليا لتجزئة العراق، وجعلوا المحافظات الشمالية الثلاث إقليما يتمتع بسلطات دولة. 3- لكن عبقرية شعب العراق عبرت عن نفسها من جديد بمقاومته البطولية لهذا الغزو والإحتلال. وهزم العراقيون تحالف أمريكا وإيران ومعهما 42 دولة أخرى مشاركه في الغزو. أمريكا هزمت عسكريا وسياسيا وأجبرت على جدولة إنسحابها وستبقى تلاحقها المطالبات بدفع التعويضات ومحاكمة قادتها كمجرمي احرب. أما إيران فقد كانت هزيمتها في العراق أكثر حسما. إيران لم تدخل العراق بجيش نظامي بل جاءت بعقيدة آيديولوجية (ولاية الفقيه ومظلومية آل أهل البيت) وأحزاب طائفية وميليشيات مسلحة وهزم شعب العراق هذه العقيدة وهذه الأحزاب والميليشيات، وظهرت جليّة للعالم أجمع سياسات الفرس العنصرية التخريبية ضد شعب العراق، من إستيلاء على أراضيه ومياهه إلى قتل أبنائه وسرقة نفطه وتفكيك مصانعه وتدمير مزارعه وحجز مياه الانهار الدولية عنه وتلويث أنهاره بمخلفات المصانع ومياه الصرف الإيرانية ونشر الرذيلة والمخدرات فيه. إحدى المؤسسات البحثية اجرت إستفتاء في محافظات العراق وتبين أن 95% من شعب العراق يرفضون أي وجود إيراني على أراضيهم. العراق اليوم مقبل على نقلة تاريخية تعزز إنتصاراته على المحتلين الأمريكان والفرس بإسقاط ما تبقى من مشروع الإحتلال وهو النظام السياسي ويشمل العملية السياسية والدستور والتشريعات والقوانين الصادرة في ظل الإحتلال. العملية السياسية في طريقها للتفكك وقابلة للإنفجار من الداخل في أي لحظة ومطلوب تكثيف الجهود لإسقاطها. 4- الفيدرالية هي خطر جسيم على وحدة العراق، ولكن الأخطر منها أن نحاربها بمعزل عن بقية أجزاء مشروع الإحتلال. الفيدرالية من إفرازات الدستور، والدستور هو القانون الأعلى للعملية السياسية المنشأة في ظل الإحتلال، والعملية السياسية والدستور هما التعبير العملي للإحتلال وأدواته. وإستنادا الى هذه الوقائع، فإن إسقاط الدعوة لتشكيل الأقاليم لا يجب أن يكون هدفا قائما بحد ذاته ومعزولا عمّا سواه، مثلما لا يجب إعتبار خروج القوات الأمريكية من العراق المفترض نهاية هذا العام هدفا قائما بذاته، فكلاهما جزء من الهدف النهائي التمثل بإسقاط مشروع الإحتلال بخروج جميع المحتلين الأجانب وإلغاء جميع التشريعات والقوانين والمؤسسات السياسية والتشريعية المنشأة في ظل الإحتلال وعودة السلطة لإصحابها الشرعيين أبناء العراق وطليعتهم المقاومة العراقية. 5- قرار مجلس محافظة صلاح الدين بتحويل المحافظة الى إقليم جاء، حسب بيان المحافظة، كرد فعل على إعتقال البعثيين وضباط الجيش العراقي وعلى سياسات التهميش والإقصاء والحرمان الذي تمارسه الحكومة ضد المحافظة. ومن دون الخوض في النوايا، فإن قرار مجلس محافظة صلاح الدين كان خطأ جسيما، فهو أعطى لعملاء إيران فرصة إدعاء الحرص على وحدة العراق، والأهم من ذلك أنه إستنجد بدستور الإحتلال ليدفع عن محافظته ظلما أوقعها به ذات الدستور. دستور نوح فيلدمان والحكومة العميلة المنشأة بموجبه لم يحفظا حقوق صلاح الدين كمحافظة فكيف سيحفظان حقوقها إذا تحولت إلى إقليم؟ لقد كان الأولى بمجلس المحافظة أن يقرأ الوضع جيدا ويرفض أصل الظلم وهو النظام السياسي الطائفي المنشأ في ظل الإحتلال، ويلجأ إلى تفعيل الحق الطبيعي لإبناء المحافظة في مقاومة الظلم والتهميش والإقصاء بالوسائل التي كفلها الشرع والقانون الدولي، بدءا بالعصيان المدني والمقاومة السلمية وإنتهاء بالمقاومة المسلحة. 6- ومن جانب آخر، فربّ ضارّة نافعة كما يقول المثل، فالمالكي أعلن يوم 29/10/2011 أن مجلس الوزراء سيرفض طلب مجلس محافظة صلاح الدين (هكذا قرر المالكي قبل اجتماع مجلس الوزراء) وأعلن (إن الطلب بني على خلفية طائفية ولحماية البعثيين) وقال إن هذا الطلب (سينتهي إلى تقسيم غير دستوري ومن حقنا أن نعارضه لأنه سيتبعه تهديد بقطع المياه والطرق بين بغداد والموصل وكردستان وهذه مقدمات للإنفصال). واضاف (واحدة من أهداف الفيدرالية في ذهن الرجل الأول في هذه الدعوة هو توفير ملاذ امن للبعثيين على أساس انه إذا أصبحت المحافظة إقليما فليس من حق الحكومة أن تدخل). اما المجلس الأعلى الإسلامي فقد أعلن موقفه في خطبة الجمعة لجلال الدين الصغير يوم 28/10/2011حيث قال (أن يعنون موضوع الفدرالية لتخليص البعثيين من اجراءات الدولة فهذا هو الكفر الآخر الذي لا يثير قلقا وإنما يثير مخاوفا كبرى) واضاف (أنا أعتقد أن المناداة بإقليم للبعثيين إنما هو تقسيم للعراق لأن بقية المحافظات ستقف بمنتهى الشراسة ضد هذا الأقليم ليس لأنه إقليما بل لأنها ضد البعث ولايمكن لأي قوى قاومت البعثيين وناضلت ضدهم أن تقبل بهذا الشيء). وإذا تجاوزنا حقيقة أن رد فعل عملاء إيران الهستيري كشف عن طائفية موغلة في الإنحطاط، فسبق للبصرة ان أعلنت رغبتها بالتحول الى إقليم ولم يعارضوها. وإذا تجاوزنا الحقيقة الثانية وهي أنهم مرعوبون يحسبون كل صيحة عليهم وفاقدي الثقة ببقائهم في الحكم بعد رحيل أسيادهم، فإن إشارة المالكي الى أن إعلان أقليم صلاح الدين سيتبعه تهديد بقطع الماء، رغم أحدا من صلاح الدين لم يهدد بقطع الماء، هو أمر يكشف خفايا كثيرة. لقد كان أول رد فعل لحزب المالكي هو التهديد بحجب حصة صلاح الدين من موارد النفط، وهذا ما نقرأه في مقال في موقع (عراق القانون) التابع للمالكي وعنوانه (توزيع اموال نفط البصرة على الفيدراليات البعثية الجديدة) إستنكر فيه الكاتب (أن يشاهد الشيعة اموالهم تشحن الى غيرهم ويستفيد منها كل ملحد وناصبي بل كل عاهرة ومأبون وهم يتفرجون ويتحسرون). ولكن يبدو أن أحدا نصح المالكي وبقية عملاء إيران بإنهم لو هددوا بحجب حصة صلاح الدين من ثروة وطنية هي واردات النفط فستستأثر صلاح الدين بمياه دجلة، وهي أيضا ثروة وطنية، وسيعم الجفاف وسط وجنوب العراق. وقضية الماء يمكن تعميمها على موارد أخرى، فيصبح الذي لديه النفط لا يملك الماء والذي لديه الماء لا يملك النفط والذي لديه الغاز لا يجد سبيلا لتصديره والذي ينتج الطماطم لا يجد سوقا لها، وهكذا. إن هذه القضية أكّدت، حتى لدعاة تقسيم العراق، أن العراق إقليم واحد يكمل بعضه بعضا وإذا تقسم الى كيانات أصغر فإنها ستكون كيانات مسخ غير قابلة للحياة. وقد يسأل سائل، وماذا بشأن (إقليم كردستان)؟ والجواب هو أن إقليم كردستان يعيش منذ عام 1991 حالة تمرد على السلطة المركزية بدعم إقتصادي وعسكري وسياسي من الغرب والصهيونية العالمية. ففي برنامج النفط مقابل الغذاء فرض قرار مجلس الأمن أن تحصل المحافظات الشمالية الثلاث على 20% من حصة العراق من الغذاء والدواء والمواد الإنسانية، وكانت هذه المحافظات مستثناة من إجراءات الحصار. وبعد الإحتلال أخذ إقليم كردستان، ولا زال يأخذ، حصة الأسد من موارد العراق بغير حق. وعند تحرير العراق سيكون على الحزبين الكرديين أن ينهيا حالة التمرد. أما إذا دعمهما الغرب الصهيوني لإنشاء دويلة كردية فستكون جيبا معزولا مخنوقا منبوذا ولن يستمر الغرب بمساعدتهم إلى ما لا نهاية، وسيثور الشعب الكردي مطالبا بالعودة الى حضن العراق. 7-الخلاصة : أولا :على القوى الوطنية العراقية ان لا تنغمس كثيرا في جدل (الفيدرالية) بما يصرفها عن الإستعداد للمرحلة الأخيرة من معركة التحرير. الفيدرالية مشروع ولد ميتا وفات زمنه، والإحتلال الأمريكي هزم عسكريا منذ عام 2006 وهو يواصل إنسحابه، وشعب العراق معبأ ضد كل أشكال النفوذ الإيراني، والمهمة الأكبر اليوم هي إسقاط العملية السياسية وبناء سلطة الشعب. ثانيا :مطلوب من أبناء محافظات العراق جميعا وهم يعانون الظلم والتهميش وسرقة الموارد وضياع الأمن وإنعدام التنمية، أن لا يستجيروا بدستور نوح فيلدمان، بل يتجهون إلى أصل الداء ويسقطوا العملية السياسية والدستور وكل الهياكل الظالمة التي جاء بها الإحتلال ويبنوا دولة الأحرار التي تليق بعبقريتهم وعبقرية وطنهم. والله المستعان بغداد 30/10/2011 ملاحظة: نشر المقال هنا |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق