تسللت شركة "شل" الى العراق قبل استقلاله وتمتعت بامتياز احتكار حقول النفط العراقية حتى قضى التأميم على ما لها من امتيازات احتكارية لكنها اليوم تفوز بصفقة احتكارية تعيدها الى حالها في العراق قبل أن تطرد منه.
هذا مايستهل به الكاتب العربي، نقولا ناصر، مقاله عن دور شركات النفط الاحتكارية في العراق الأمريكي، والذي نعتز بنشره في (وجهات نظر) علماً اننا كنا نشرنا عن الموضوع ذاته هنا و هنا و هنا.
بقلم: نقولا ناصر
كاتب عربي من فلسطين
من الناحية الرسمية سوف تنتقل المسؤولية عن إدارة العراق بنهاية العام الحالي من البنتاغون الى وزارة الخارجية الأميركية، لكن عمليا على الأرض يوشك النظام المنبثق عن الاحتلال الأميركي في بغداد على الانتهاء من ترتيبات احلال الاحتكارات النفطية محل قوات الاحتلال العسكرية في حكم البلاد بحيث يضفي قبل ذلك التاريخ "شرعية برلمانية" على نقل هذه المسؤولية الى شركات النفط والغاز متعددة الجنسيات التي جرى في ليل الاحتلال البهيم تمكينها من شريان حياة العراقيين النفطي، سرا ووراء الأبواب المغلقة، ليحصل الاحتلال الأميركي على جائزته الأكبر، التي يمثل تمريرها أو عدم تمريرها انتصار الولايات المتحدة أو هزيمتها في غزو العراق واحتلاله. لقد وعد رئيس لجنة الطاقة بمجلس النواب العراقي المنبثق عن "العملية السياسية" التي هندسها الاحتلال، عدنان الجنابي، في اسطنبول في السابع والعشرين من الشهر الماضي بتمرير مشروع قانون جديد للنفط في البرلمان "قبل نهاية السنة" الموعد المحدد لانتهاء "عملية الفجر الجديد" الحربية الأميركية، ومن المتوقع كذلك أن يمرر هذا "البرلمان" صفقة يسمونها "اتفاقية" لاحتكار شركة "شل" النفطية متعددة الجنسيات للغاز العراقي التي أحالتها حكومة نوري المالكي اليه قبل ذلك التاريخ أيضا، والصفقة ومشروع القانون كلاهما اميركيان فكرة وصياغة، وحيكا سرا في الدهاليز المظلمة لليل الاحتلال، ليعيدا عقارب ساعة التاريخ في العراق الى زمن مماثل كان فيه الاحتلال الأجنبي واحتكارات النفط الأجنبية حليفان فصلا نظاما سياسيا على مقاسهما سرعان ما قضت المقاومة الوطنية عليه بالقانون رقم 80 لسنة 1961 وبمعركة تأميم النفط التي بدأت عام 1972 وقضت وعلى الامتيازات والاحتكارات الأجنبية التي حاول، كما تفعل نسخته المعاصرة اليوم، إضفاء شرعية عراقية مزورة عليها، يريدها المحتل الأميركي أن تتحول الى نموذج يحتذى به عربيا، وتدفع بليبيا كي تكون النسخة العربية الأولى لنموذج الحكم الأميركي بالوكالة في العراق. فيوم الخميس الماضي وصل الى بغداد في زيارة مفاجئة غير معلن عنها محمود جبريل، رئيس المكتب التنفيذي للمجلس الانتقالي الليبي، وعلى ذمة "رويترز" قبل رئيس الوزراء نوري المالكي دعوته لزيارة طرابلس وأبلغه استعداده لتقديم "كل ما اكتسبه" نظامه من "خبرة في مجال إعادة بناء مؤسسات الدولة" كدولة طوائف وأحزاب تحتل مرتبة متقدمة عالميا في الفساد ولا تستطيع بعد ثماني سنوات توفير الخدمات الأساسية لشعبها لأنها منشغلة بخداعه حتى تستكمل ترتيب سيطرة الأجانب على مقدراته، وفي "إجراء الانتخابات" التي تزور إرادة الشعب وتحرم الفائز فيها من الحكم، وفي "كتابة الدستور" الذي يكتبه المحتل باللغة الانكليزية ويقتصر دور حكومته فيه على تعريبه فحسب، وفي "بناء القوات المسلحة" التي لا تحمي أمن الحدود ولا أمن المواطن والتي يخير المالكي اليوم شعبه بين الأميركيين تحت علم الولايات المتحدة وبين الأميركيين تحت علم حلف الناتو وبين الأميركيين للاشراف على تدريبها لفترة طويلة مقبلة بعد تسعين عاما من تأسيس الجيش العراقي الوطني. لكن من المؤكد أن الخبرة الأساسية التي اكتسبها المالكي ويمكنه حقا أن ينقلها الى ليبيا ما بعد القذافي هي في مجال المهارة في إبرام الاتفاقيات - الصفقات وتمرير القوانين من وراء ظهر الشعب لتحويل الغزو الأجنبي الى نظام احتلال بواجهة وطنية وتحويل الاحتلال العسكري الطارئ الى احتلال دائم بسيطرة الاحتكارات متعددة الجنسيات على شريان الحياة النفطي للعراقيين يعيدهم الى زمن مجزرة "كاورباغي" التي ارتكبتها الاحتكارات النفطية ضد عمال النفط عام 1946. إذ بالرغم من فيض "الحديث عن الشفافية والمكاشفة وحرية التعبير ووجود مجلس نواب (منتخب) واعتماد آليات ديموقراطية" منذ الغزو عام 2003 "الا أن السرية ظلت تطبع المشهد السياسي العراقي الراهن" كما كتب في السابع عشر من الشهر الماضي د. عبدالحسين شعبان الذي استشهد بـ"وثائق سرية عرض مضمونها" د. أحمد الجلبي الذي كافأه الاحتلال على دوره في التحريض على الغزو الأميركي بتعيينه وزيرا للنفط عام 2005 والذي اتهم وزارة النفط في عهد الاحتلال "بإعادة كتابة بعض العقود النفطية .. بشكل سري" تعليقا على "اتهامات" موجهة الى شركة بريتش بتروليوم BP "بالسيطرة على الاقتصاد العراقي والتحكم فيه" نشرها تقرير لصحيفة الأوبزيرفر البريطانية أواخر حزيران / يونيو الماضي. لكن "التاريخ السري" لمشروع قانون النفط العراقي الجديد ومسودة صفقة احتكار شركة "شل" للغاز العراقي يظلان المثالان الأهم على "سرقة مستقبل العراق" كما جاء في عنوان تقرير لشركة "بلاتفورم" اللندنية في أيار / مايو 2007، والمشروع والمسودة معروضان الآن على "برلمان" العملية السياسية الأميركية في العراق للمصادقة عليهما قبل نهاية العام الحالي الموعد المحدد للانسحاب العسكري الأميركي كما يدعى. في الرابع من هذا الشهر سوغ نائب المالكي لشؤون الطاقة حسين الشهرستاني موافقة حكومتهما على صفقة منح شركة "شل" حق احتكار استغلال الغاز العراقي، وهي الصفقة التي يعد الاتفاق عليها الأول من نوعه بين دولة عضو في منظمة "أوبيك" وبين شركة نفط عالمية، بـ"فشل الكوادر العراقية في السيطرة على احتراق الغاز طوال عقود" من الزمن، ليتخذ من هذه الحجة المتهافتة ذريعة لابرام اتفاقية تنتهك القوانين السارية قبل الاحتلال ولا تستند الى أي قانون جديد للنفط بديلا لها. في الرابع والعشرين من الشهر المنصرم علق وزير النفط العراقي بين عامي 1987 – 1990 عصام الشلبي على الصفقة مع "شل" قائلا للغارديان البريطانية: "يبدو أن شل تدفع الآن أربع مليارات دولار أميركي لتضع يدها على أصول يمكن أن تصبح قيمتها أربعين مليار دولار خلا ل عشرين سنة. إن العراق يتخلي عن نصف ثروته من الغاز ومع ذلك يمكن أن يقوم العراق بهذا العمل بنفسه"، قبل أن يضيف بأن العراق أنفق ملياري دولار أميركي خلال عقد ثمانينيات القرن العشرين الماضي لتنفيذ مشروع لجمع غاز الجنوب اصبح عاملا بصورة كاملة عام 1990 ونقلت سفينة بريطانية أول حمولة من الغاز العراقي المسال قبل أن تدمر حرب الكويت المشروع وتمنع العقوبات التي تلتها إصلاحه، "ومنذ عام 2003، لم يتم عمل اي شيء لاصلاحه أو لاستبدال محطات الضغط التي تضررت. وأظهرت دراسات مولتها اليابان أنه يمكن عمل ذلك بكلفة بضعة ملايين من الدولارات". ومن الواضح أن صفقة "شل" ما كانت لتمر لو نفذت الدراسات اليابانية. وبالرغم من أن هذه الصفقة التي حيكت سرا في ليل الاحتلال قد أصبحت علنية في الثاني والعشرين من أيلول / سبتمبر 2008 عندما وقعت "شل" على اتفاق أولي بشانها مع وزارة النفط، بعد التوصل الى "اتفاق إطار" مع حكومة المالكي فإن الجزء الأكبر من بنود الاتفاقية وشروطها وملحقاتها ما زالت سرية طي الكتمان، بالرغم من أنها تفتح الأبواب على مصاريعها لاحتكار الجزء الأكبر من الثروة الوطنية العراقية من الغاز التي تقدر تقارير "أوبيك" الاحتياطي الثابت منها بـ(112) تريليون قدم مكعب كما بنهاية العام الماضي، إضافة الى (150) تريليون أخرى احتياطيات محتملة حسب تقارير اخرى. وإمعانا في التعتيم والتجهيل واستغفال الشعب العراقي أحالت حكومة المالكي الى البرلمان موجزا "ورديا" من خمس صفحات فقط للصفقة مع "شل" للمصادقة عليها، وتتكون هذه الصفقة من اتفاقيتين، الأولى اتفاقية تطوير غاز البصرة والثانية اتفاقية المساهمين في شركة غاز البصرة، ولم تفرج حكومة المالكي حتى الآن عن نصهما كاملا حتى لمجلس "نواب" الشعب العراقي، ويزيد عدد صفحات الاتفاقيتين على أربعمائة صفحة قام تقرير "إراك أويل ريبورت" بنشر نصهما "كاملا" لأول مرة في التاسع والعشرين من ايلول / سبتمبر الماضي باللغة الانكليزية "خدمة للشفافية ولاجراء حوار دقيق" بشأنهما! في الثالث والعشرين من الشهر الماضي نشر موقع "إراك أويل ريبورت" الالكتروني تقريرا بعنوان "التاريخ السري لصفقة غاز شل" جاء فيه ان "شل" تسللت الى العراق قبل استقلاله كجزء من شركة البترول التركية التي تحولت لاحقا الى شركة البترول العراقية وتمتعت بامتياز احتكار حقول النفط العراقية حتى سحب القانون رقم 80 لسنة 1961 أكثر من (99%) من مساحة امتيازها ليقضي التأميم في سنة 1972 على ما تبقى لها من امتيازات احتكارية. ومنذ اللحظات الأولى للغزو عام 2003 عين الرئيس السابق لشركة "شل" في الولايات المتحدة، فيليب كارول، بوظيفة المستشار النفطي المسؤول عن إعادة هيكلة صناعة النفط العراقية في "سلطة الائتلاف المؤقتة". وبينما كان الشعب العراقي منشغلا بمقاومة الاحتلال كانت "شل" قد تولت المسؤولية عن "تدريب" كوادر وزارة النفط، وتجهيزها بمعدات كـ"تبرعات"، وأوكلت لها مهمة تقويم كميات الغاز في جنوب العراق وبناه التحتية وبتقديم توصيات بشانها واستثمرت "شل" في ذلك أكثر من (100) مليون دولار. وذكر التقرير أن "شل كانت بين أوائل الشركات التي وقعت في وقت مبكر مذكرة تفاهم مع وزارة النفط". والمفارقة أن الحكومة العراقية مثلتها شركات قانونية "أميركية" في دراسة توصيات "شل" وتحليلالتها وتقاريرها. وقال التقرير إن شل بدأت تبحث صفقة الغاز مع "قادة عراقيين" عام 2003 والبلاد تحت إدارة الاحتلال المباشرة وقبل إقرار أي دستور أو وجود حكومة منتخبة واقتبس من برقية مؤرخة في 9/9/2008 نشرها موقع ويكيليكس أن "شل أجرت مفاوضات هادئة مع مسؤولين عراقيين خارج العراق لمدة خمس سنوات". والخلاصة أن "شل" فازت بصفقة احتكارية لتعود الى العراق اليوم كما كان حالها قبل أن تطرد منه. في تعليق له على حجم مجمع أو "قاعدة" السفارة الأميركية الأكبر في العالم ببغداد، وهي بحجم مدينة الفاتيكان، ويمكن إقامة (94) ملعب لكرة اليد الأميركية على مساحتها، والتي تخطط الخارجية الأميركية لاستيعاب (17) ألف عامل فيها ثلثاهم من العسكريين والمخابرات والأمنيين، قال كريستوفر ايه. بريبل نائب رئيس دراسات الدفاع والسياسة الخارجية بمعهد كاتو في السادس عشر من الشهر الماضي: "تحتاج الولايات المتحدة الى سفارة في بغداد لتفعل ما تفعله السفارات عادة (لكن) وجود سفارة بحجم السفارة التي لدينا يقترح بأن حكومة الولايات المتحدة تنوي امرا ما أكبر بكثير من ذلك". وتوضح ما "تنويه" الحكومة الأميركية من الاحتفاظ بسفارة بهذا الحجم حقيقة أن واحدا من كل ثمانية قتلى من جنود الاحتلال الأميركي للعراق قد قتل وهو يحرس قافلة وقود، كما قال ثوماس إي. ريكس في مجلة فورين بوليسي في التاسع والعشرين من الشهر الماضي. إنه الدم مقابل طاقة النفط والغاز العراقي. ومثل الاتفاقية مع "شل"، صيغ قانون النفط العراقي الجديد وراء أبواب مغلقة. ففي شباط/فبراير 2007 أقرت حكومة المالكي مسودة هذا القانون بعد تعريب نسخته الأصلية باللغة الانكليزية التي صاغتها شركة "بيرينغ بوينت" الاستشارية الأميركية التي كانت إدارة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش في السنة السابقة قد استأجرتها وانتدبت المحامي الأميركي رونالد جونكرز لهذا الغرض باعتباره "المستشار الذي سيقدم المشورة القانونية والتنظيمية في صياغة اطار عمل لتشريع خاص بالبترول والتشريعات الأخرى المتعلقة بالطاقة" كما أبلغ المتحدث باسم "يو اس ايد" ديفيد سنايدر داو جونز في 28/4/2006، وفي الشهر الأخير من ذلك العام ذاته نشرت "مجموعة دراسة العراق" التي تمثل الحزبين الجمهوري والديموقراطي تقريرها الذي أوصى حكومتها بخصخصة صناعة النفط العراقية، وفتح العراق أمام شركات النفط والطاقة الأجنبية، وبتقديم "المساعدة الفنية المباشرة لكتابة قانون نفطي وطني جديد للعراق". والنتيجة اليوم هي أن شركة النفط الوطنية العراقية تسيطر سيطرة حصرية فقط على (17) من (80) حقل نفطي معروف في العراق، حتى قبل مصادقة "البرلمان" على قانون النفط الجديد، وفي غياب أي قانون كهذا ودون مصادقة اي سلطة ممثلة ولو شكلا للشعب العراقي وقعت حكومة المالكي على (11) عقدا مع شركات نفطية أجنبية وتستعد أكثر من (45) شركة أجنبية للمشاركة في جولة مناقصات رابعة يومي 25 و26 كانون الثاني / يناير 2012، بالرغم من معارضة لجنة الطاقة برئاسة الجنابي لمنح أية عقود جديدة قبل المصادقة على قانون جديد للنفط. لكن مع أنه يفهم ضمنا أن هذه المعارضة تشمل عقد الاتفاقية مع "شل" فإن الجنابي يبدو كمن يستثنيها عندما يقول مثلا: "مهما كان رأينا في صفقة شل، فانني أعتقد بأن المصلحة الأساسية هي في وقف احتراق" الغاز المصاحب لانتاج النفط. يعدد المعارضون لمشروع قانون النفط وصفقة "شل" اسبابا وجيهة كثيرة، فنية وقانونية وسياسية واقتصادية ومالية و"دستورية" ويركزون على الامتياز الاحتكاري لصفقة "شل"، لكن السبب الأهم لا يزال يكمن في السرية التي صاحبت مشروع القانون والصفقة والسرية التي ما زالت تصاحب عملية انتزاع مصادقة "مجلس النواب" عليهما، وهي سرية ترقى الى مؤامرة مكشوفة على مستقبل العراق وشعبه. ويبدو النظام المنبثق عن الاحتلال اليوم في سباق مع الزمن لمنح الاحتلال جائزته الأكبر في موارد الطاقة العراقية قبل الموعد المقرر لانسحاب قواته في نهاية هذا العام. في الشهر السادس من عام 2007 أصدرت ست فائزات من خمس عشرة امرأة فزن بجائزة نوبل الدولية الشهيرة للسلام (منهن توكل كرمان اليمنية التي فازت بالجائزة مع زميلتين لها الأسبوع الماضي) بيانا عارضن فيه مشروع قانون النفط العراقي الجديد "بينما البلاد لا تزال تحت الاحتلال وتعاني من حرب أهلية على حد سواء" لأنه في هذه الحالة سيكون "لفائدة شركات النفط الأجنبية على حساب الشعب العراقي، ويحرم الشعب العراقي من الأمن الاقتصادي، ويخلق عدم استقرار أكبر، ويبعد البلاد أكثر عن السلام" ودعون الحكومة الأميركية الى ترك الشعب العراقي يقرر نظامه النفطي بنفسه "عندما يكون متحررا من الاحتلال وأكثر قدرة على ممارسة عملية ديموقراطية حقا لصنع القرار"، قبل ان تخلص بيتي ويليامز، وميريد كوريغان ماغوير، وريغوبيرتا مينشو توم، وجودي ويليامز، وشيرين عبادي، ووانغاري ماثاي الى انه "من غير الأخلاقي وغير القانوني استخدام الحرب والغزو كآليات لنهب الموارد الطبيعية الحيوية لأي شعب". |
ملاحظة من الناشر
نٌشر المقال في موقع ميدل إيست أونلاين، وفي العديد من المواقع الأخرى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق