هذا واقع العراق كله، في شهر رمضان المبارك، وليس حال البصرة العزيزة وحدها، وعذراً لكاتب المقالة الأستاذ كاظم فنجان الحمامي، الذي بعث لي بمقالته هذه، على بريدي الإلكتروني، قبل قليل..
رمضان في كوكب عطارد
كاظم فنجان الحمامي
ستقترب البصرة في شهر رمضان من الخطوط الساخنة لكوكب عطارد, أقرب الكواكب لكرة الشمس, لتسجل رقما كونيا في المقياس المئوي قد يزيد على (55) درجة في الظل, ففي الواحدة بعد الظهر من كل يوم تنصهر البصرة وتتمدد بصمت, فتنخلع من سرّة الأرض لتذوب في أفران عطارد, فتشتعل النيران في أزقة (العشّار), و(البراضعية), و(التميمية), و(التحسينية), و(الخندق), وتتساقط ضواحيها البعيدة من شدة العطش والجفاف, ويغمى عليها خلف جدران الصمت القاتل, حيث تتلاشى ظلال البيوت الخاوية, التي يطويها الشقاء والخمول والإرهاق, ويسترها الصفيح الساخن, وتغلفها الأسمال البالية.
في رمضان يتنفس الموت وحده في منعطفات أزقة (مهيجران) الترابية الموحشة, تتفجر براكين تموز في فضاءات (أبي الخصيب) وساحات (التنومة), فتنفتح نوافذ (باب الهوى), و(باب طويل), و(باب سليمان) لدوامات رياح السموم المنبعثة من أفران قرص الشمس المتوقدة بالحمم, فيتعكر مزاج الناس المتصدع من قرف الصيف الملتهب.
في رمضان تغلي عروقهم المشوية بمراجل الغضب, فيحتشدون على ضفاف شط العرب, بعد أن حصحصت موجات الحر, حتى تحمصت وجوه الناس, واختفت العدالة المناخية من أجندة محطات الطاقة الكهربائية التي فقدت وطنيتها.
تتوقف حركة المرور في الواحدة ظهراَ, وتتعطل النشاطات الإنسانية كافة, وتصاب البصرة بشلل تام, تختفي مظاهر الحياة من الشوارع والساحات في المدن والأحياء الفقيرة. فلا تسمع لهم صوتا, إلا ضجيج المولدات وصخبها المدوي, واهتزازاتها التي ربما كانت هي السبب في تصدع طبقة الأوزون, وتشقق قشرة الأرض بين (الفاو) و(الزبير)..
تتوالى ضربات الشمس على وجوه الأطفال, تتفشى حمى الإعياء الحراري بين النساء والشيوخ, يتفجر النزيف الأنفي, تظهر على الناس ملامح الإجهاد القلبي, ترتفع حرارة أجسامهم, تتزايد سرعات تنفسهم ونبضهم, فتضطرب عندهم الرؤية وينخفض ضغط الدم..
تتعامد أشعة الشمس فوق مراسي الفاو, فيصب العرق من مسامات أرصفتها المهجورة, فتتعرق سواحلها بلون الحناء, وتتبخر برائحة الممرات الملاحية المغتصبة, يتلاشى بريق أصداف المرجان بجوار جزيرة (حجام) المصابة بذات الرئة, يتسلق الصدأ إلى قمم فنارات شط العرب, تتمزق أشرعة السفن المتعبة, تتصاعد زفرات البحارة, فتتعالى صيحاتهم لتملئ تجاويف الفراغ السياسي الذي شاب له (رأس البيشة) وصار أكثر توترا وسخونة..
يتزايد تركيز الأشعة فوق البنفسجية في مثل هذه الساعة, وتتخطى درجات الحرارة حاجز القراءات المتوقعة في مقاييس الأنواء الجوية, فتقفز إلى 55 درجة مئوية في الظل, فيطفو القلق والتوتر والعصبية والنرفزة فوق سطح المدينة المشتعلة بنيران القيظ اللافح, تتزايد معدلات التصرفات العدوانية المتمثلة بالتصادم والشجار في الأسواق والمقاهي.
ولم يجد البصريون بُدّا من صب جام غضبهم على السياسيين بكافة مشاربهم, ولم يترددوا في نعتهم بأغلظ العبارات, واتهامهم بأنهم يعيشون في نعيم الأجواء المتكندشة, ولا يفكرون إلا في راحتهم الشخصية, دون مراعاة لأبسط حقوق المواطنين. فيتزايد حنق الناس على شبكة الكهرباء الوطنية, التي فقدت وطنيتها منذ زمن بعيد. . منذ زمن بعيد. . مع الأسف الشديد..
وكل رمضان وانتم صابرون, وانتم صائمون, وانتم فائزون, وكل رمضان وهلاله يأتينا بكهرباء تعيننا على مواجهة الحر ومقارعة العطش, وكل رمضان ينكفئ فيه حصاد المفخخات, وتتعثر ماكينته..
هلالُ خيرٍ عليكم يا أهل العراق يجعلكم واعين لحركة الصراع مع تجار الموت وسماسرة الضحك على الجراحات, التي تشخب دماً عبيطاً يمتزج مع ذرات التراب المتوهج بالألم, هلالُ سلمٍ وأمانٍ من الجوع والفقر والغفلة والضياع, الذي ينشره المجرمون في الأرجاء...
والله يستر من الجايات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق