هذه تهنئة غير تقليدية، بعث بها الكاتب والصحفي العراقي المعروف الأستاذ محمد عارف للعالم العراقي المعروف حميد مجول النعيمي، تهنئة بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك وبمناسبة إعادة انتخاب الدكتور النعيمي للمرة الرابعة على التوالي، رئيساً للاتحاد العربي لعلوم الفضاء والفلك.
ونحن بدورنا، في وجهات نظر، نبعث التهنئة للرمزين العراقيين، الكاتب المُحتَفي والعالم المُحتَفى به.
رمضان كريم لرئيس الفلكيين العرب
محمد عارف
انتخاب عالم عراقي للمرة الرابعة على التوالي لرئاسة "الاتحاد العربي لعلوم الفضاء والفلك"، حدثٌ "فلكي". أستاذ فيزياء الفلك حميد مجول النعيمي، تذكر سيرته الرسمية عنوانه الدائم في منطقة الصليخ ببغداد، ومقيم حالياً في الشارقة بالإمارات العربية المتحدة، حيث يشغل منصب عميد كلية العلوم، ونائب رئيس "جامعة الشارقة". والنعيمي من جيل السبعينيات الذهبي في العراق، الذي حظي قبل اندلاع الحروب ببعثات إلى الجامعات العالمية، حيث حصل على الماجستير والدكتوراه في فيزياء الفلك من جامعة مانشستر في بريطانيا، وتلقى تدريبه في "مرصد القطامية" في حلوان بمصر، وقضى فترة ما بعد الدكتوراه في جامعة أريزونا بالولايات المتحدة.
"والكون هو كل شيء، وهذه هي القضية" حسب الفيلسوف الألماني لودفيج ويتجنستاين. ودليل النعيمي إلى كل شيء هو العراق؛ فيه توّلى حال عودته من البعثة إدارة "مركز الفضاء والفلك" في مجلس البحث العلمي، وأشرف على بناء أحد أكبر خمسة مراصد في العالم آنذاك. بلغت تكلفة المرصد البَصَري والراديوي الذي أقيم في جبل كورك شمال العراق 172 مليون دولار بأسعار تلك الفترة، واستغرق بناؤه سبع سنوات، ودمّرته الطائرات الأميركية عام 1991. ودخل النعيمي إثر ذلك المستشفى، ليس مصاباً بجروح في جسده، بل في روحه التي انطلقت بالنعيمي منذ ذلك الحين في أرجاء الكون السحيق، وأخذته في مسيرة البحث، ليس عن براهين على الدين الإسلامي في أحدث الاكتشافات العلمية، بل البحث في الدين الإسلامي عن براهين على أحدث الاكتشافات العلمية.
و"العلم من دون دين كسيح، والدين من دون علم أعمى". قال ذلك إينشتاين، والإسلام أكثر الأديان علمية جعل النعيمي بوابة مفتوحة بين العلم والدين، وأتاح له نشر أكثر من مائة بحث في مجلات علمية محكمة، و30 كتاباً بالعربية والإنجليزية، وتنظيم عشرات المؤتمرات العلمية الإقليمية والدولية. "واللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ". يستشهد بهذه الآية النعيمي في دراساته عن جمال الكون، الذي يتحكم بجميع مرافق حياة الناس اليومية، ليس فقط من خلال الطقس والمناخ والشمس، التي تؤثر مباشرة على طعام البشر، وصحتهم، ورفاههم، بل أيضاً الاتصالات الهاتفية، وشبكات الإنترنت، والفضائيات، والملاحة البحرية والجوية، والاستشعار عن بعد، وهذه من مفارقات الحياة العصرية، التي تتحكم بها السماء.
"ويَسألونَكَ عن الأهلّة قٌل ِهيَ مواقيتُ للناسِ والحجِّ"، من بين آيات ترد في دراسة النعيمي عن رؤية هلال رمضان، والذي "سيولد في تمام الساعة الرابعة و24 دقيقة صباح الخميس القادم 19 يوليو، حسب التوقيت العالمي، وسيغيب في بعض الدول بدقائق قبل غياب الشمس، مثل بغداد ودمشق وبيروت، ويغيب مع الشمس في دول أخرى، مثل عمان والجزائر وتونس، ويغيب بضع دقائق بعد غياب الشمس في مكة المكرمة والكويت والقاهرة ومسقط والرباط والخرطوم". ويذكر النعيمي أن الاختلاف المتوقع بين من يصوم يوم 20 يوليو، ومن يصوم 21، أو 22، يعود جزئياً إلى أن القمر حتى في أحسن الظروف لا يُرى لحظة ولادته وتسمى "المحاق"، والفرق دائماً بين الولادة والرؤية نحو 12 ساعة، ويعود الاختلاف أيضاً إلى خطوط الطول والعرض، وكذلك إلى التقاليد المتبعة في البلدان المختلفة، حيث يتمسك بعضها برؤية العين المجردة، وتعتمد أخرى الحسابات أيضاً.
وأحصى النعيمي اختلافات التوقيت طوال 300 عام فوجدها دائماً ما بين 3 و4 أيام، ولم تكن يومين قط. وهو يسّلمُّ بالحكمة العظيمة في الآية "فَمَنْ شَهِدَ مِنكُمُ الشهرَ فَليَصُمهُ"، والتي تتيح لكل فرد من أفراد الأمة فرصة المساهمة في تحديد المناسبة، ويذكر بأن حساب لحظة ولادة القمر لغاية الثانية ولمئات السنين القادمة موجود في الإنترنت، ويقترح في كتابه "الحسابات والتطبيقات الفلكية والعلمية في خدمة الشريعة الإسلامية"، عقْدَ اجتماع في مكة يحضره عالم شرعي وآخر فلكي من كل دولة إسلامية لاتخاذ القرار المناسب. وقد يلعب تنفيذ اقتراح النعيمي دوراً في الحيلولة دون الانحدار المتسارع لبلدان عدة فيما يشبه حروب المائة عام الطائفية في أوروبا.
و"يومَ نطوي السماءَ كطيِّ السِجِّلِ للكُتُبِ كما بدأنا أوّل خَلْقٍ نُعيده وعداً علينا إنا فاعلين"، آية مهيبة تستبق أحدث نظريات يوردها النعيمي عن الكون الذي تدور فيه مليارات الكواكب حول نفسها وحول مليارات النجوم، والتي تدور بدورها حول مليارات المجرات الدوّارة في حشود مهيبة من المجرات، تنسجها في الجسد الكوني مليارات الحبال والغيوم الجبارة، وتطرزها الثقوب المظلمة، التي تبتلع كل ما يقترب منها. وهذا الكون الذي يبث الرهبة في قلوب العلماء ليس الكون كله، بل المرئي منه فحسب، وقد لا يكون كوناً واحداً، بل بضعة أكوان يتحدث عنها النعيمي في مسلسل "الإعجاز" الذي تبثه فضائية الشارقة. يعرض المسلسل جوانب من قصة الكون الذي نشأ قبل 15 مليار سنة عن انفجار مادة في حجم كرة القدم، وقد يتقلص إلى حجمه السابق عندما يبلغ الانفجار أقصى مداه ويرتد الكون بالاتجاه المعكوس. هل هي القيامة التي يرد ذكرها في القرآن الكريم؟ سؤال بين أسئلة عدة يتناولها المسلسل في 40 حلقة قد تحدث ضجة عالمية إذا أعيد إنتاجها على المستوى الدولي، وفُتِحتْ حواراتها لمساهمة علماء من مختلف العقائد والبلدان.
والنعيمي من بلد عرف أول الأديان في التاريخ، وآلهتها قوى كونية. والعراق بلد أول علماء الفلك المعروفين بالأسماء، وكانوا يذيلون بها جداول حساباتهم الفلكية، مع أسماء عوائلهم التي تتوارث المهنة. وتكشف المعلومات المنقوشة على الرقيمات الطينية أن الدين والفلك كانا يعتبران مجال علم الرياضيات، وبلغ المجتمع العلمي العراقي في الألفية الأولى قبل الميلاد مستوى رفيعاً يدهش مؤرخي العلوم الذين يتداولون حادثة اشتهرت باسم "الرهبان الندّابون" ترويها المؤرخة البريطانية إليانور روبسن في كتابها "الرياضيات في العراق القديم". وتتعلق الحادثة بتحقيق رسمي أجري حول إهمال أفراد أسرة "سن ليكي أونيني" من مدينة أوروك الذين أخطأوا في توقع خسوف القمر. وتذكر المؤرخة تبعة الحادث على "الأجيال اللاحقة التي بذلت جهوداً كبيرة لتحسين التنبؤات الفلكية". نقرأ ذلك فنفهم لماذا أجاب النعيمي على سؤال مقدم مسلسل "إعجاز" عن أعظم شيء فقده في حياته، فقال فوراً: "بلدي العراق". رمضان كريم لرئيس الفلكيين العرب، رمضان كريم لبلده العراق الذي لن يفقده، طالما الله جعل "الأرضَ فراشاً" و"السماءَ بناءً".
ملاحظة
نشر المقال هنا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق