حكمت نديم
يستخدم البعض في كتاباتهم، مفردة (تحرير العراق) وذلك، باحتلاله وإسقاط نظامه الوطني عام 2003، ولا يتحدثون عن من قام بفعل (التحرير)، هل هو الشعب أم القوى الاستعمارية وخلفها الصهيونية.. فهل أن هذا الاستخدام يأتي من باب القصور في الفهم أم من جانب الغرض الخبيث والحقد الأعمى ؟!
تعدُ إساءة أي مفهوم أو إظهاره بلبوس لا تناسبه تزويراً للحقيقة، فمن الصعب أن يتقبله المنطق العقلي الموضوعي الرصين المتوازن، الذي لا يميل إلى الانحياز في عالم الفكر والثقافة، وكذا عالم السياسة، وبعض مخرجاتها تقوم على قاعدة الفهم الذي قد ينظر إلى الحقيقة الموضوعية من زاويتها الضيقة، فلا يرى غير السلبي منها على حساب الواقع المغاير، الأمر الذي يسقط عنده الرأي أو الفكرة أو المفردة في وحل الغرضية، وهي حالة تجافي الحقيقة ولا تتساوق معها، وتعاكس جوهر المفهوم وتتجنى عليه بالسرد الغامض أو التوصيف المغرض.
والتنويه في هذا الشأن، هو التعرض للمفهوم من حيث كونه سياسة محضة، ووضعه في دائرة الضوء كمفردة، ومن هذا الباب فلا مناص من الحديث عن مغزى المفردة ومفهومها ودلالاتها والمعنى التعبيري المحدد لها .
مفردة " التحرير" تعني أن يتحرر الشعب من الاستعمار ويمتلك حريته ولا يتحرر الشعب من حكم وطني، والتحرير لا يأتي من فراغ إنما له قانون يؤسس فعل التحرير لكي يكون ناشزاً وليس عبئاً ثقيلاً في مرمى فكرة التحرير ومغزى التحلل من القيود التي تمنع الشعب من أن يمارس حريته التي يجب أن يصنعها بنفسه .. وهذا أحد أهم شروط مفردة التحرير .. أن الشعب يحرر نفسه ذاتياً من قيود التحكم في مصيره ووجوده ومستقبله ومستقبل أجياله لينعم بحرية القرار المستقل.
فإذا حرر الشعب نفسه من الاستعمار بقواه الذاتية وبالوسائل التي يراها جديرة بالتحرير فهو ينتزع حريته بإرادته الخالصة، عندئذٍ يمكن أن يطلق على مفردة الفعل، "التحرير".. أما إذا تمت الاستعانة بالاستعمار من أجل التحرير فان فعل "التحرير" لا يستقيم مع مفهوم التحرير، لأن الاستعمار لا يعطي الحرية ولا يحرر شعباً، وتاريخه يفصح عن ذلك، ومنهجيته تتأسس على الهيمنة والاستعباد والنهب، وليس في قاموسه مفردة أسمها التحرير.. ومن الصعب تقبل الاحتكام إلى مقولة الأهداف المشتركة أو المشتركات التي تجمع صوب هدف محدد دون أن يخالط هذا الأمر مستحقات تدخل في صلب حسابات المستَعْمِرْ، والضحية تكون في هذا المدخل هي الشعب كمحصلة يتكبدها انتقاص من السيادة وخسائر تظهر كثمن للارتهان السياسي والاقتصادي، وتغيير أنماط الموروث الثقافي، وبالتالي تفكيك منظومة القيم، وإعادة تشكيل نخب الثقافة الموالية، التي تقدم الولاء للمستَعْمِرْ على أساس التطابق في الثقافة والفهم والسلوك والمنطق المشترك في إدارة دفة الأحوال العامة وبالطريقة المشروطة مسبقاً .
ومن هنا، فأن مفردة "التحرير" لا ينبغي أن تطلق جزافاً إذا أردنا توخي الدقة وتجنب حالة النقد أو سوء الفهم القاصر لمعاني ومفردات توظف في غير سياقاتها الصحيحة، كأن نقول " تحرير" العراق من نظام سياسي وطني بواسطة أو بأداة الاستعمار.. فكيف يستوي مفهوم التحرير هذا مع مفهوم الهيمنة وانتقاص السيادة وإملاء الشروط السياسية في إدارة دفة البلاد في آن .؟!
المنصف المجرد الموضوعي لا يقول هذا ولا يستخدم مفردة "التحرير" على أساس التوصيف الذي حصل في العراق عام 2003، فهو غزو بامتياز وعلى لسان الغزاة أنفسهم وكبار مفكريهم وساستهم وعسكرييهم، ولما كان الأمر كذلك وعلى مستوى العالم وعالم السياسة، فكيف يجرؤ أحد على مثل هذا التوصيف؟ ، ألا يدل على قصور في الفهم أولاً،على أحسن تقدير، وعلى الغرضية التي تعد منزلقاً لآفة الصراع الذي لا يخدم المواطن ولا يخدم الوطن بأي حال.؟
إذ أن عنف المستَعْمِرْ كقاعدة عامة، في السلوك والمنهج يخلق العنف المضاد، وتلك مسألة طبيعية حيث لكل فعل رد فعل قد يساويه في التأثير أو يتفوق عليه في النتيجة، وتلك مرة أخرى، تدخل صلب الفكر ولا جدال فيها، لأن ملفات ما قبل الاستعمار وما بعده تفصح عن النتائج، وتحلل مفاعيلها السابقة واللاحقة، وخاصة كيف تستقيم مفردة (التحرير) مع تسعير العنف ضد الشعب، تلك الإستراتيجية التي يتبعها المستَعْمِرْ في استثارة نزعات العنف، وفي إشكالية تُكَرَسْ نتائجها يوماً بعد يوم في قعر الذاكرة العميقة للجيل الراهن والأجيال اللاحقة.؟
كما أن وضع مقولة العنف والعنف المضاد بين المستَعْمِرْ والمستَعْمَرْ في دائرة الإرهاب، مسألة لا تتطابق مع مفاهيم الصراع، لأن المستعْمِرْ يمثل إرهاب الدولة وإن محصلة رد الفعل ليس إرهاباً، إنما فعل اقتضته أحوال الدفاع عن النفس والأرض والعِرض والهوية. وإن عملية خلط المفاهيم، ولأن المستَعْمِرْ ونظام الاستبداد المتخلف عنه يمارس العنف المنظم والممنهج، يتمثل بنهب الثروات وتفتيت الكيانات ومحو الهوية الوطنية والقومية، وتشريع القوانين، التي تقوم على الفرز الاجتماعي، طائفياً وعرقياً وعشائرياً ومناطقياً، مع استخدامات لأساليب البطش والإرهاب والتصفيات الجسدية والسجون السرية، وتلك تمثل وجهان أحدهما قاهر وآخر مقهور يصعب وضعه على قاعدة الفهم الموضوعي الواحد، بين المستَعْمِرْ و المستَعْمَرْ ، بين الغزاة وبين الشعب، وكذا المفاهيم القائمة بين التحرير والعبودية، فهل من توافق أو تشابه في التوصيف والمضمون؟ّ
فالمستَعْمِرْ الغازي يمارس ثقافة الاضطهاد المادي والنفسي على حدٍ سواء، وبالقدر الذي يخلق فيه الاستبداد القهر يُشَرْعِنُ العنف بدعوى الإرهاب.!! .. ومن هنا، فأن الفقرة " 4 " إرهاب مشرعنة في دستور يمثل قمة الإرهاب والاضطهاد، فضلاً عن الشرعنة غير المنظورة من أجل سفك الدماء والاغتصاب والنهب والهيمنة .. وهو ما يمثل الحركة اليومية للدولة المسيطر عليها طابع القمع الطائفي، في حكمٍ شرَعَهُ المستَعْمِرْ في مؤسساتها وقوانينها وأجهزتها، فضلاً عن أحزابها وأيديولوجيتها، حتى بات التحرر من السيطرة الأجنبية يقع على خط التحرر من استبداد الطغمة الطائفية الحاكمة على حدٍ سواء .!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق