هذا تفصيل وتأصيل شرعي بالغ الأهمية لموضوعات عدة، رائجة هذه الأيام، منها الدعوة إلى الأقليم السني، ومنها موضوع علماء الداخل وعلماء الخارج، ومنها حصر خيارات الثوار العراقيين بطريقين لا ثالث لهما..
كتب هذا التأصيل المفصَّل الغني، فعلاً، الدكتور مساعد مسلم آل جعفر، وهو أحد كبار علماء العراق الأجلاء.. وننشره لأهميته البالغة ولكونه، باعتقادي، يقطع الحديث عن هذه الموضوعات، من ناحية دينية، لو كان المتحدث يهدف الوصول إلى الحقيقة، أما إذا كان المعني يريد الجدل، لغرض الجدل، فإنه لن ينتهي أو يتوقف عند حد.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وآله وصحبه ومن سار على نهجه واتبع هداه.
تحيّةً لكم أيها الثائرون الأحرار، يا من أعجزتم عدوّكم فيما أراد، وفرضتم ما تريدون، فأرهبتموه بصمودكم، وأربكتموه بسلميّتكم، فلم يملك الصبر على أن يراكم بهذا الثبات متوحدين كأنكم بنيانٌ مرصوص، أو كزرع يُعجبُ الزُرّاع ليغيض الكفار وأعوانهم، حفظكم الله للإسلام والمسلمين، وثبّتكم الله وربط على قلوبكم ووفقكم لرفعة هذا الدينِ القويم، نسأل الله أن تكونوا ممن اختار الله فاختارهم على عباده.
لقد علِمت الحكومة الطائفية في العراق أنّها ليست أهلا لتحقيق مطالبكم الشرعيّة، لأنها ليست أهلا لإحقاق الحق، ولم يوفقها الله لعمل الخير أيّا ما كان شكله، وكيف تأتي بخير للمسلمين وقد جاء بها كافر محتلٌ أبى الله عليه أن يأتي بخير للمسلمين فقال عز وجل "مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ".
فما كان منها إلا أن توسلت بِكُلّ ما في جعبتها من أساليب لفض اعتصامكم وتفريق جمعكم وكسر شوكتكم ، فخابت وخسرت لأن الله مولاكم وهو نعم المولى ونعم النصير.
ولقد ثرتم غيرةً للمستضعفين من الرجال والنساء والولدان فما هي إلا وقفةٌ صادقة في سبيل الله ودينه ساعةً من نهار حتى منحكم الله شرف قيادة الطليعة وشرف حمل الأمانة ، فأصبحتم وعلى عواتقكم آمالُ أراملٍ ثكلى وهمومُ شيوخٍ وأحلامُ جيل جديد يرى في ومض عيونكم تحت شمس العراق بلدا حُرّاً وشعبا عزيزا .
فالله الله في آمالٍ معقودةٍ بلوائكم، والله الله في سترِ أعراضٍ مربوطةٍ بعقالكم تنخاكم (لا تولوا الأدبار).
وقد ناشد بعضُ من في الاعتصامات علماءَ الأمةِ وشيوخَها أن يفتوهم بأحد أمرين لا ثالث لهما؛ إمّا الجهادُ المُسلّح وإما الفيدرالية والإقليم.
ورغم غرابة الاستفتاء؛ إذ لا يُخيّرُ العالِمُ بين فتوتين ولكن يُستفتى في الأمر فيجيب بما يعلمه من شرع الله، سواء وافق هوى المستفتي أم خالَفَهُ، إلا أننا نعذركم لأنّكم أنتم المعتصمون في الساحات ولربما توّهم بعضكم ألّا وجود لحلّ سوى أحد هذين الأمرين .
ولقد رأيتُ أن أبيّن حُكم الله عز وجل ــ على حد علمي ــ في المسألتين، معذرةً إلى ربكم ، والله أعلم وهو يهدي السبيل.
وعلى ذلك أقول:
أولا: في أمر الجهاد المسلح وشرعيته:
لقد جاءت سنة الله بالإذن في الجهاد لِمَن قوتِل ظُلما، جهادَ دفعٍ يَدفعُ الله به المعتدين وينصرُ الله به المظلومين فقال عز شأنه "أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّـهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ".
ولمّا كان من المُقرّرِ الدفاعُ عن النفسِ عند الاعتداء، جاء في الذهنِ تساؤلٌ مفادُهُ: (ألم يَكُن القتلُ في الحويجةِ وبعقوبة ومناطق من الأنبار والبصرة قد استهدفَ من هُم من أنفُسِكُم؟! وهل الدفاع عن النفسِ يستثني هؤلاء؟!).
فلا أرى بديلا لإعداد العدة، والتجهّز لمواجهة العدوّ الصائل والثبات على الحق، فأعدّوا لهم ما استطعتم ولا أرى عُدّةً أقوى من الصدق مع الله، فاستعدّوا عبادَ الله وأعدّوا.
ثانياً: في أمرِ خيار الإقليم:
لِمَا تقدّم من أنَّ الدماء التي سالت في الحويجة وبعقوبة وبغداد والأنبار وسواها من المعتصمين السلميين الذين لبّوا نداء إخوانهم للاعتصامات؛ إنّما هي دماءٌ طاهرةٌ محرّمة سُفِكت بغير وجه حقّ، فإنّ الواجب الشرعي ــ على المسلمين عامة وعلى المنادين للاعتصامات خاصّةً ــ عدمُ التنازل عن حقّها، ولا يحلُّ لهم التنازل عنها ولا العفو عن سافكها، لأنّها ما سُفِكت عن طريق الخطأ وما كانَ قتلُ معتصمي الحويجة قتل خطأ، فلا يحلُّ للمسلمين التنازل عنها بوجهٍ من الوجوه.
ولمّا كان أكثرُ ما يرُدُّ بهِ بعضُ الناسِ المُتتبعين للرخُص والباحثين عن الحلول السهلة بقول الله تعالى "لا يُكلّفُ الله نفساً إلا وسعها"، ألا فليَعلمَ الجميعُ أنْ: نعم لا يُكلّفُ الله نفسا إلا وسعها، وأنّ (مِن وسعِها) الثباتُ في الاعتصامات السلمية ، وأنَّ (مِن وسعِها) العصيانُ المدني، وأنّ (مِن وِسعِها) مواصلة الاحتجاجاتُ حتى تحقيق ما نزلَ لأجلهِ ضحايا الحويجة وغيرهم من إلغاء التهميش والعفو عن المظلومين والعفو عن النساء المعتقلات وإلغاء مادة أربعة إرهاب.. إلى آخر ما ورد من المطالب المشروعة، فإن لم يسعكُم الثأر لهذه الدماء ولم تَسَعكُم مُحاكمةُ الجناة فإنه لا أقلَّ من أن تُتمّوا ما نزل لأجله الضحايا، وذلك أضعفُ الإيمان.
ولذلك كلّه ولغيره من أمور سبقَ بيانُها، ولكونِ المطالبةِ بإقليم منفصل إنّما هو هروبٌ وتخلٍّ عن المسؤولية، وتنازلٌ عن حق الضحايا المغدورين، فإنّ المطالبة بالإقليم وفق هذه الظروف وهذه المُعطيات تَحرمُ شرعاً.
ونعودُ فنقول مرّة أخرى بنوعٍ من التفصيل:
أولا: إنّ الانسحابَ إلى إقليم (الآن) هو تنازلٌ عن دماء ضحايا إخوانكم المعتصمين في الحويجة وغيرها، الذين خرجوا وقُتلوا تلبيةً لدعواتكم بالاعتصام، ونصرةً لكُم ولدينِكم وحقّكم، فلا يحلُّ لكُم التنازل عن دِمائِهم ولا العفو عن قاتلِهم؛ إذ لم يَكُن قتلُهم خطأ ً عن غير عمد، فمن أعطاكم الحقَّ بهذا التنازل عن دماء الحويجة وغيرها؟!
ثانياً: تَحرُمُ الدعوة للإقليم (الآن)، كونَهُ بيعٌ غيرُ شرعي لأرض إسلامية استمر فيها الدينُ منذُ فتحها الصحابة الأوائل إلى يومنا هذا وتسليمها رسميّا لأعداء الدينِ، فتخرجُ بذلك بصورة رسميّة من ذمّتكم إلى ذمتهم، فمن أعطاكم حق التصرف بها على هذا النحو؟ وهل يملكُ دُعاةُ الإقليم السني توكيلا رسميا من كلّ سنّة بغداد والحلة والبصرة والناصرية وسواها بحق بيعها وبيعهم وبيع ديارهم وتسليمها وتسليمهم لرحمة حكومةٍ تعلمون جميعا أنها لن ترحمَهُم، وأنّها ستسومهم سوء العذابِ والتنكيل أضعاف ما تلقون ويلقون الآن. ألا و (إنّما يأكلُ الذئبُ منَ الغنَمِ القاصية)، وإنّ بقاءكم مع إخوانكم تحت سياط العذاب في الوضع الراهنِ هو أهونُ من تسليمهم، وإنّ بقاءكم معهم يُخففُ عنهم ويمنحكم ويمنحهم قوّة ومنعةً تزولُ في حال إقصائهم عنكم لا سَمَحَ الله.
ألا وإنّ أرضَ المُسلمين وديارهم هي من أموالهم الحرام التي يحرم عليكُم التنازل عنها.
مسألةٌ تجدرُ الإشارةُ إليها والرد عليها من ناحيةٍ شرعيّة
تعوّدنا في الآونة الأخيرة سماعَ نغمةٍ جديدةٍ تُقسّم العلماء قسمين: (علماء الداخل) و (علماء الخارج) ، ثُمّ ما لبثَ مطلقوها أن جعلوا كلام علماء الخارج ـ كما يصفونهم ـ غيرَ مُلزم لَهُم، مؤكّدين في كُلّ مرة على (علماء الخارج) بضرورة أن يعيشوا ما يعيشه أهل الداخل حتى يحق لهم الفتوى في مسائلهم بدعوى أنّ من كانت يده في الماء ليس كمن كانت يده في النّار، ودائما ما يهتفون ويصرخون في وجوهنا بقولهم (إنما الأمر ما يراهُ أهلُ الثغور) .
وهذه الأقوال وما شاكلها قد تجاوز المشايخ ردّها تفصيلا لوضوح عَوارِها وبيانِ ركاكتها، ولكن لمّا صارت تتردد على ألسنة الكثيرين من كلّ من هبّ ودب صار الأجدر تفصيل الرد عليها، وهو على النحو الآتي:
أوّلاً: قول بعض دعاة الفيدرالية (إنّما الأمر لأهل الثغور)، هذا القول تردد على الألسنة حتى صار كأنّه نصٌّ شرعيٌّ قطعي الدلالة قطعي الثبوت من القرآن أو من السُنّة، ويردده حتى من لا يعرف أصله، وهذا القول ليس قرآنا ولا حديثا نبويّا ولا قاعدة شرعية، وإنّما هو من قول بعض العلماء ويُنسبُ لسفيان بن عُيينة رحمه الله تعالى، وهو قوله (إذا اختلف الناسُ فانظروا ما عليهِ أهلُ الثغور، فإنّ الله قال: والّذين جاهدوا فينا لنهدينّهُم سُبُلَنا). وقد قال به وبنحوه الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، وشيخُ الإسلام ابنُ تيميّة رحمه الله، وأظنُّ أنّ ممن استدلّ به في عصرنا الحديث الشيخ عبد الله عزّام رحمة الله عليه.
وهُنا نقول: إنّ هذا الرأي هو فهمٌ جميل، ورأيٌ لطيف، وحكمةٌ بليغة، وتفسيرٌ نرى صحّتَهُ ونأخذُ به، غير أنّ هذا القول أصبح الآن يحتاجُ لتفصيل كي يفهم عوام الناس ضوابط هذا القول، ويكون النظر إليه من وجوه:
أ : الوجهُ الأوّل: أولا إنّ المقصود بأهل الثغور أولئك المجاهدين بالسلاح من أولي الشوكة، الذائدين بأسلحتهم عن حياض المسلمين وديارهم وحدودهم، فمَنْ مِن دُعاة الفيدرالية من ينطبق عليهِ هذا الوصف؟
أمّا إن كنتُم تطلقون على أنفسكم هذا اللفظ (أهل الثغور) بناءً على قياس عجيب مفاده أنّكم الموجودون في ظل الحكومة الطائفيّة، والمكتوون بنارها، وبناءً على أن من كانت يده في النار ليس كمن كانت يده في الماء كما ترددون، فهذا قياسٌ غيرُ صحيح، إذ ليست الظروف الصعبة ثغرا ولا الذي يعيشُ ظروفا صعبةً هو من أهل الثغور، ولو قاس كل واحد على هذا النحو لسَرَقَ السارقُ الأموال وقال: لا يحقُ للعالمِ الغنيّ أن يحرّم عليّ السرقة حتى يجوع مثلي وتثقله الديون مثلي، ولقال الموظّفُ المُرتشي: لا يُلزمُني رأي العالم فلان الذي يعيش في رفاهية وسَعَة من الرزق بحرمة ما أرتشيه حتى يتنازل عن وظيفته ويأتي في مكاني هذا ويتعرّض لظروفي ويتعرّض للإغراءاتِ التي أتعرّض لها يوميا ثم بعد ذلك يفتي بفتواه فتكون ملزمةً لي؛ أمّا وهو في وضعه المرفَّهِ هذا فلا يلزمني كلامه وفتاواه إذ ليس من كانت يدُهُ في الماء كمن كانت يدهُ في النار) ، وهذا والله هو عينُ اتّباع الهوى، وهو كلامٌ لا يقولُ به عالمٌ ولاعاقل.
ب : الوجه الثاني: في قول سفيان بن عيينة رحمه الله (إذا اختلف الناس فانظروا ما عليه أهل الثغور)، إنّما المقصود هنا (علماء أهل الثغور لا عامّتهم) ؛ إذ أنّ الفتوى والرأي الشرعي منوطان بأهل العلمِ الشرعي حصراً، ويستحيل أن يقصد سفيان بن عيينة رحمه الله أن نأخذ الفتوى من الجندي العامّي في المسألة الفقهيّة وإن كان جاهلا بالعلم الشرعي وغير جدير بالفتوى فقط لكونه من أهل الثغور.
وإذن؛ يُفهم من هذا أنّ المقصود بكلامه رحمه الله أنه إذا اختلفَ العلماءُ فيما بينهم فإنّه يرجُحُ رأيُ علماء أهل الثغور على نُظرائهم من العلماء القاعدين، فإن لم يكونا نظيرين في العلمِ فإنّه لا مناص عن الأخذ برأي الأعلم وإن كان قاعدا، ما لم يثبت كونه غيرَ ثقة على دينِ الناس، كأن يكون مُشتهرا بعدم التقوى أو بكونه يتّبع الهوى أو بكونه من علماء السلاطين وما إلى نحو ذلك.
فإن لم يكن من ذلك في شيء فليُعلَم أنّ الرأي ما يراه الأعلمُ سواء كان من أهل الثغور أم من غيرهم، ولو كان غيرُ ذلك لقال في دين الله وشرعه من كان غيرَ مؤهّلٍ علميّا، ولفسدَ الدينُ والجهادُ جميعا، لأنّ في عِلمِ العالم تسديدا للمجاهد من أن يقع في محظور شرعي يسيء له وللإسلام والجهاد.
فإن اعتبرَ دُعاة الإقليم أنفسهم أهل ثغور فلا بُدّ لهم أن يكونوا نظراء لعلماء الخارج، كما يصفونهم، كي يرجُحَ قولهم على قول علماء الخارج.
وختاما أيّها المعتصمون الغيارى حفظكم الله ونصركم وأعزّكم على أعدائكم وأعز بكم الدين، لا يحلُّ لَكُم التنازل عن إخوانكم وأخواتكم، ولا تستمعوا لكلامِ المُرجِفين ولا لكلام المنتفعين السياسيين، فإنّهم باعوكم أوّل مرّة ولم يعرفوكم حتى ثرتم ورأوا فيكم قوّة وعزّا فسارعوا لاستثمار جهودكم وجهادكم. وإنّكم أيها الثائرون الغيارى قد ثرتم لأجل قرابة الستمائة ألف مُعتقل ومُعتقلة، فلا يصرفنّكم عنهم دعاةٌ يدعونكم لإقليم ودعاةٌ يدعونكم لتقسيم ودعاة يدعونكم لدستور هو أساسُ بلائكم وشقائكم. فاثبتوا واصبروا وصابروا وكونوا مع الله وكونوا أنصار الله وأنصار دين الله وأبشروا بنصر من عنده عز وجل القائل في محكم كتابه "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّـهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ".
والله أكبر ولله الحمد
أ.د. مساعد مسلم آل جعفر
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
عضو رابطة علماء العراق في الخارج
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق