مثنى عبدالله
واهم من يعتقد أن الحال سيعود الى سابق عهده قبل قيام الانتفاضة العراقية، حتى ان تم فض جميع الساحات بنفس الاسلوب الاجرامي الذي طال ساحة الحويجة. لقد كُسر قيد الخوف وتحررت العقول من دكتاتورية الفزع، وبات كل يوم يمضي يضفي على عود الانتفاضة مزيدا من الصلابة. لكن الخوف واجب على هذا الوليد، والامل الذي بات يرقبه الكثير من بصائر وأبصار المهمشين والمجتثين والمقصيين والمعذبين بأمر السلطة.
ان جل الخوف هو من تلك الايادي التي تنتمي الى نفس النسيج الاجتماعي الذي انبثقت منه التظاهرات، والتي باتت تنظر الى هذا الحراك على أنه بضاعة يمكن بيعها الى الطاغية وحلفائه، أو مقايضتها بما لديه من مناصب وامتيازات، بعد أن باتت عمليات البيع والشراء في مصير الشعب والوطن ركيزة أساسية من ركائز العملية السياسية. لقد انطلقت الانتفاضة بعد أن وصل حيز الغضب حدا لا يستوعب المزيد، واضحى الانفجار ثمرة طبيعية وسنة حياتية من غير المعقول ألا يحدث.
ولم يكن إطلاقا ثأراً لهذا وذاك ممن ينتمون الى نفس النسيج الاجتماعي للمتظاهرين، ولم يكن لهم أي فضل على المعتصمين في الساحات، فهولاء كلهم عرفناهم ليسوا أصحاب قرار، بل كانوا مجرد تكملة لديكور سياسي جرى فرضه في العراق. اننا لا يمكن أن ننكر موقف من يختار الانحياز الصادق لقضايا الشعب والوطن، ويعسكر مع أهله في ساحات الحق ضد الباطل مخلصا، لكننا لا يمكن أن نتغاضى عن الايغال المستمر في التلاعب بأسس التظاهرات وحياكة المؤامرات لاجهاضها من قبل البعض الاخر، الذين تصوروا أنها قد أينعت ثمارها وحان وقت قطافها وبيعها للطاغية.
لقد كثرت التحركات المشبوهة والمريبة مباشرة بعد مجزرة الحويجة، بعد أن بلغ ايمان المتظاهرين واستعدادهم للتضحية حدا فضح السلطات الباغية محليا ودوليا.
فأي ايمان عميق هذا الذي يدفع متظاهرين مسالمين أبرياء الى رفض الخروج من الساحة، مفضلين الاستشهاد على العودة الى العيش الذليل؟ وأية شجاعة تلك التي دفعت مُقعّدا على كرسي متحرك، وفتى يافعا في مقتبل العمر وشيخا مُسنا أن يفضّلوا اختلاط دمائهم في مشهد واحد؟
ان هذه الصورة وصور التصدي والاستشهاد التي رأيناها من قبل في الفلوجة والموصل وكركوك وصلاح الدين وديالى وأحياء العاصمة بغداد، تعطي انطباعا واضحا بأن المد الجماهيري بات لا رجعة عنه، وأنه أضحى أداة فاعلة في رسم مشهد سياسي جديد في العراق.
لقد رسمت المشهد الحالي والقائم منذ 10 سنوات قوى دولية واقليمية غازية محتلة، وتم تكييفه وتشكيله وفق نسب طائفية وعرقية، فكان وليدا هجينا كسيحا لأنه خالف الذهنية التي جبل عليها المجتمع. لكن المشهد الذي شرعت برسمه سواعد المتظاهرين في ساحات العزة والكرامة أقوى فعلا وأكثر تأثيرا، لأنه فعل حضاري وتصد شجاع فرضته حركة التاريخ لا حركة القوة الغاشمة، ومن المنطقي جدا بل من الطبيعي أن تعيد حركة التاريخ صياغة المعادلات غير الموزونة. لكن الحالة الجديدة استفزت القوى الممسكة بالسلطة الحقيقية والاخرين الذين هم من مكملات المشهد.
انهما عدوان أحدهما معروف النوايا والاهداف وحجم القوة المادية التي يملكها بكل ما تمثله السلطة، وهذا ليس مخيفاً لمن عاهد الله والشعب والوطن على ارجاع الحقوق الى أهلها.
أما الاخر فهو من يقف على المنصات في ساحات التظاهر لسانه مع المتظاهرين لكن سيفه ليس مع سيوفهم، انه يريد أن يأكل من جرفهم كي يلقي بما يحصل في المنطقة الخضراء صانعا جرفا له يسند قدميه اليه ويساوم الطاغية، قائلاً: هذه قوتي وهذه طائفتي وقبيلتي وساحاتي وتظاهراتي وهؤلاء هم أنصاري.
ان الخوف كل الخوف هو من هذه الفئة التي تاجرت بدماء أهلنا في الاستفتاء على الدستور وفي كل الانتخابات المحلية والبرلمانية التي مرت علينا حتى اليوم، ثم تبين أنها كانت مجرد مراحل انتهازية هدفها مصالحهم وليس مصالحنا كشعب ووطن.
وها هم اليوم يستغلون المنصات للترويج لقوائمهم الانتخابية مرة أخرى، ويمارسون دور كوابح زخم الجماهير وبث التخويف من رفع سقف المطالب الحقة، ومحاولة حرف الزخم الجماهيري نحو الفيدرالية والانفصال وغيرها من الحلول العقيمة التي لم يسفح الشهداء دماءهم من أجلها، بل ذهب البعض منهم الى محاولة توريط المتظاهرين في الرهان على موقف الاكراد ومقتدى الصدر وعمار الحكيم، وهي قوى أثبتت دائما أن مصالحها القومية والطائفية أعلى سقفا من المصلحة الوطنية، حتى ان مالت الى جانب الحراك الشعبي في المحافظات الست ضد الموقف الحكومي. لكن مواقف الاخرين لا تكون في جميع الاحوال دافعا ضروريا للاعتماد عليها، خاصة في ضوء المعادلة الطائفية التي يتشكل منها المشهد السياسي العراقي، حيث ذاب الكثير من مواقف هذه الاطراف في مناسبات سالفة لمصالح سياسية ودينية وقومية.
كما أن الايعاز للمتظاهرين بالتركيز على الحكومات المحلية في محافظاتهم وتغييرها لصالحهم كي تكون حصنا لهم ضد الحكومة المركزية هو وهم كبير، ومحاولة لتخفيف الضغط على سلطة المنطقة الخضراء، واشغال المتظاهرين بالفروع وليس أصول الداء، حيث أثبتت السنوات الماضية قيام الحكومة المركزية بارسال قواتها الى تلك المحافظات، واعتقلت وقتلت الكثير من الوطنيين من دون علم السلطات المحلية.
ان تراجع فورة الخيارات التي طرحت بعد جريمة الحويجة يشوبه الكثير من الشك والريبة، حيث ماعت الكثير من التهديدات التي طالبت الحكومة بتقديم الجناة الى العدالة فورا، وجرى التغاضي عن طرح موضوع الجريمة على المؤسسات القانونية الدولية، وانتقل الحراك الى خيم الاعتصامات على شكل معارك نقاشية تتركز على من هو الاحق بتمثيل الساحات والاشراف عليها وتمثيلها في الوفد التفاوضي المزمع تشكيله، حيث يعمل بعض الساسة المطرودين من ربوع المنطقة الخضراء الى دفع هذا الطرف أو ذاك لزعامة الوفد التفاوضي لأسباب معروفة.
وبذلك يتحمل مسؤولية الحفاظ على شرف التظاهرات وقطع يد كل من يحاول سرقتها، أولئك الرجال الذين كانوا أعمدة خيام الساحات طيلة الاربعة أشهر من عمر الانتفاضة، وهم رموز عشائرية واجتماعية وطنية، كما تتحملها الرموز الدينية ممثلة بالشيخ عبدالملك السعدي والشيخ رافع الرفاعي وهيئة العلماء المسلمين في العراق وغيرهم من رجال الدين، فهم صراط المتظاهرين المستقيم الذي حافظ على سلمية وديمومة الانتفاضة، والقادرون على تحريك الاحتياطي الشعبي المؤيد للانتفاضة، الذي لم يدخل الساحات بعد، وأن مسؤوليتهم أصبحت أكبر مما مضى بسبب تكالب المستفيدين والمتآمرين.
يقينا أن من في الساحات ليسوا عباقرة سياسة كي نطلب منهم العصمة عن الخطأ في تقدير المواقف، لكنهم أثبتوا أنهم عباقرة في الوطنية وتقديس حب العراق وأهله، وهم وحدهم القادرون على عزل المتاجرين بقضيتهم من دون جلجلة التشهير والدخول في معارك جانبية. ان ميزتهم انهم ليسوا رجال سياسة وبذلك لن يضيّعوا الحقوق في لعبة الكر والفر والصفقات كما فعلها الساسة. ان استمرار محاولات الغدر بالمنتفضين والتآمر على قضيتهم ستجعلنا نسمي الاشياء بأسمائها، ونضع أمام كل واحد منهم تاريخ أفعاله وتحركاته منذ اليوم الاول للتظاهرات وحتى اليوم، كي يتحمل الجميع مسؤولياتهم ولن تأخذنا في الحق لومة لائم.
ملاحظة:
نشر المقال هنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق